المتكيفون اقتصادياً يحاربون نموذج البوعزيزي!
أيمن الشوفي
العنقُ الطويل لمحاولات التكيّف المجتمعي لدى السوريين المحكومين من نظام دمشق، يجعلُ من تلك المحاولات مرئيةً أكثر، ومن مسافات بعيدة، فتبدو أيضاً مستمرّةً ومتجددة بلا انقطاع.
والراضون بسلطة نظام الحكم القائم في سوريا على تعويم مراكز نفوذ متعددة ومستبدّة في إدارة الشأن العام؛ هم الذين استساغوا التكيّف الوظيفي لأجل البقاء، وارتضوه بديلاً عن الانتفاض والثورة، ولعلهم بذلك توددوا من نموذج عيشٍ متواطئ مع نموذج سلطة الاستبداد، ينتقدون فقط جَوْرَ تلك السلطة عليهم، ويعلمون بأن الانتقاد ليس فعلاً سياسياً على الإطلاق، وليس قادراً على تغيير شيء من وصفة صيغة الأمر الواقع تلك، والتي يتأففون من تكبيدها إيّاهم مزيداً من العناء وشظف العيش الملتصق بهم كتميمةٍ تضمن لهم المزيد من العبودية.
نظام دمشق الناجي من الطوفان!
تعلّم النظام السوري خلال العقد الماضي أن يُكثر من صناعة مراكز النفوذ ويربطها براغماتياً مع بقائه، وتعلَّم أيضاً أن فكرة المجتمع المهزوم، الباحث عن الحدّ الأدنى من شروط العيش الآدمية هو التجلّي الأمثل الذي يناسب طبيعته. تعلّم كلّ ذلك، أو ربما كان مهيّأ لإجادة مثل تلك الأدوار وتقمّصها حين الضرورة، وربما أن الطبيعة الانهزامية للمجتمع السوري سهّلت كثيراً على النظام النجاةَ من طوفان الربيع العربي حين أزاح العديد من أنظمة الحكم العربية واستبدلها بأخرى. تلك الطبيعة يمكن قياسها على المدى الطويل، ويمكن ملاحظة تمّكنها من صياغة السمات والخصائص العامة للمجتمعات المحلية أو ما يسمّى بالأقليات، والتي وإن أظهرت تفاوتاً نسبياً في الاستجابة السياسية للانتفاضة السورية، لكنها لم تُجاهر علانيةً برغبتها إسقاط النظام السياسي ورأسه، كما فعل السنّة في سوريا.
فكان حراك “الأقلية الدرزية” هو الأعلى والأكثر إرباكاً لنظام دمشق، مقارنةً بالصمت السياسي للعلويين في الساحل، والإسماعيليين في السلمية، والمسيحيين بصورة عامة، ومع ذلك فقد كان حراك الدروز مرحليّاً يرسمه خطّ بياني متذبذب الشدّة، كثيرُ الثبات حول السكون، قليل الذرى، أي كان حراكاً انفعالياً بلا مخرجاتٍ سياسية حقيقية أو اتصافٍ بالديمومة والثبات.
بالمقابل تمادى النظام السياسي في تحصين بقائه؛ من خلال التركيز على سياساتٍ تعمّق الطبيعة الانهزامية للمجتمع، وتَهِبُ مراكز النفوذ الطفيلية مزيداً من السيولة الريعيّة والثراء السريع، فازداد التباين الموضوعيّ والذاتي حدّةً بين ضِفَّة السلطة وضِفَّة المجتمع، وهو تباينٌ تبدّل إلى عداءٍ مرئيّ مع مرور الوقت، فتحوّل السوريون جرّاءهُ إلى طرائدَ للسلطة تقنصهم أينما كان، وفي كل وقت تشاء، سواءَ عبر حرمانهم من الخدمات الأساسية ثم بيعها لهم بأسعار السوق السوداء، أو من خلال المغالاة بتكريس سياسة الجباية في منظومة الضرائب المباشرة وغير المباشرة، ورفع أسعار السلع الأساسية بصورة مستمرة، حتى إنها وصلت إلى مستويات قياسية تجافي منطق دخولهم الهزيلة.
كيف صار التكيّف المجتمعي خياراً واقعياً؟!
يوم الجمعة السابع عشر من ديسمبر/ كانون الأول عام 2010، تحوّل “محمد البوعزيزي” من مجرّد بائع خضار عادي، إلى رمزٍ ملهمٍ لثورات ما يسمى بالربيع العربي، بعدما قرر إحراق نفسه أمام مقر ولاية سيدي بوزيد. خيارُ الإحراق ذاك كان فعلاً غزيرَ الدلالة والرمزيّة، حرّك معه سكون المجتمع التونسي من الناحية السياسية، وتوالى بعده تدفق ثورات الربيع العربي من ذات الصنبور، والذي وصل إلى سوريا بعد عام متردداً، قليلَ الشهيّة لإنجاز تغييرٍ سياسي طال انتظاره.
لكن نظام دمشق لم يسقط، ظلَّ مقيماً في الدورة الدموية لحياة الناس، لم تطرده لعناتهم وهجاءهم له، وعلى الأرجح أراد الانتقام من الجميع، فصار المجتمعُ عدوَّه بالكامل، إذ إنه لم يعد يميّز (وربما عن قصد) بين من ثار عليه ومن لم يثر، سوى بتطبيقه نسباً متفاوتة من مستويات الدمار والقتل الجماعي والتهجير.
منذ أيام احترق فتى لم يتجاوز من العمر أحد عشر عاماً في إحدى قرى السويداء نتيجة استخدام “بابور” الكاز، لم يكن احتراقه يشبه إحراق “البوعزيزي” لنفسه بشيء، لكن الحادثة أحزنت الكثيرين، ربما لأن الفتى وحيد أهله، وربما لأن الناس هنا باتت أكثر قدرةً على التوجّع وتلمّس مصيرها النازف بدموع أكثر سخاءً من السابق. لقد استولت الحلول التكيّفيّة على مخيّلات الناس، فصاروا أكثر قتامةً من واقعهم نفسه، عاجزين عن ابتكار حلول سياسية تنتشلهم من بين فكَّي السلطة المطبقين على واقعهم، فصار وارداً مثلاً رؤية مهندس ومحامٍ وقد تحولا إلى راعيي أغنام بعد الظهر، ومثلهما في ذلك مثل الكثيرين من خريجي الجامعات الذين وجدوا أنفسهم على أبواب تدابيرَ تكيّفيّة لدرء شبح الحاجة والفاقة عنهم وعن أسرهم، فالتكيّف بهذا المعنى الوظيفيّ صار أشبه بالقانون داخل السويداء، أي قانونُ البحث عن مهنٍ إضافية تتدرّج بين الرَّعي والتحطيب وتربية الدجاج والأرانب للأشخاص الذين تعنيهم السويّةُ الأخلاقية للمهنة، أما الذين لا يعنيهم التوصيف الأخلاقي للمهنة من الأصل، فلهم حرية الاختيار بين مهنٍ تتدرَّجُ في قاموس المهن السورية الحديثة بين ترويج المخدّرات وبيعها، والخطف لأجل الفدية، وسرقة الأملاك العامة، وبيع المحروقات في السوق السوداء، فأي عيبٍ يمكن استخلاصه أكثر من دعوة المغني العالمي “ياني” لإحياء حفلة في حلب، والناس غارقون في فضلات العتمة والحاجة والبؤس، يرضعون الرداءة من خياراتهم التكيّفيّة ويصفونها للآخرين كعلاجٍ لمقاومة نزلات البرد، وصقيع الحياة اللطيف، ثم يلملمون أشلاءهم من أصقاع بلاد تطردهم ألف مرة في اليوم، تلك البلاد التي لم يعد مهماً اسمها بعد الآن.
الآراء المنشورة في المنصة تعبر عن وجهة نظر كتّابها..