الولايات المتّحدة وكُرد “روج آفا”
جميل رشيد
دخلت القضيّة الكُرديّة مع مطلع القرن الواحد والعشرين، مرحلة مصيريّة، في ظِلِّ التغيُّرات البنيويّة العميقة التي تشهدها السّاحتين الدّوليّة والإقليميّة، مع تصاعد حِدَّةِ الصراع بين القوى الكبرى، ممثَّلةً بالولايات المتّحدة الأمريكيّة وروسيّا بعد أن استعادت الأخيرة مكانتها الدّوليّة، وشرعت تطرح نفسها كقطب مناوئ للولايات المتّحدة، وتبحث عن مناطق نفوذٍ جديدة لها، وخصوصاً في منطقة الشَّرق الأوسط.
انعكس الصراع بين روسيّا والولايات المتّحدة على القضيّة الكُرديّة بشكل مباشر، ووجد أقوى تعبيراته في تعامل الطرفين مع كُرد روج آفا وحركاته السِّياسيّة، وبشكل أدقّ؛ مع الإدارة الذّاتيّة ومجلس سوريّا الدّيمقراطيّة، وكذلك مع قوّات سوريّا الدّيمقراطيّة.
الولايات المتّحدة الباحثة عن منطقة ملائمة لتنفيذ مشروعها “الشَّرق الأوسط الجديد”، بعد هزيمتها في العراق غَداة التغلغل الإيرانيّ، وفقدانها الشَّريك السِّياسيّ المناسب للتَّعامل معه، إضافة إلى بروز تيّارات وقوى قومويّة ودينيّة متطرِّفة معارضة لتواجدها في العراق، وجدت أنَّ مناطق روج آفا وشمال شرق سوريّا، أفضل جغرافيّة يمكن لها أن تستكمل ما بدأت به في العراق بعد عام 2003، لتعيد فيها ترتيب أوراقها وأولويّاتها الإستراتيجيّة، فكانت الحرب على تنظيم “داعش” الإرهابيّ البوّابة التي سوَّغَت لها تدخُّلَها في سوريّا، لاستجلاب قوّاتها، ونقطة البداية كانت في مشاركتها عسكريّاً عبر الجوّ في معركة كوباني ضُدَّ التَّنظيم الإرهابيّ، عبر قوّات التَّحالف الدّوليّ التي شكّلتها لمحاربة تنظيم “داعش” الإرهابيّ، والتَّعاون مع وحدات حماية الشَّعب في تحرير معظم المناطق التي كان يسيطر عليها التَّنظيم بما فيها عاصمته المزعومة “الرِّقّة”، والتي انتهت في مارس/ آذار 2019 في معركة “الباغوز”.
تطوَّرت العلاقات بين الولايات المتّحدة وقوّات سوريّا الدّيمقراطيّة تِبعاً لضرورات المعركة ضُدَّ “داعش”، وخضعت لاعتبارات عسكريّة صرفة، دون أن ترقى إلى المستوى السِّياسيّ، لترسُمَ مساراً جديداً يُفضي إلى تَغيُّرٍ في الرّؤية الأمريكيّة للإدارة الذّاتيّة، أو أنَّها – أي أمريكا – لم تفتح المجال أمام الإدارة لتوظِّفَ نتائج انتصاراتها لصالح نيل اعتراف سياسيٍّ بها، يُنقِلَها إلى مرحلة جديدة، تفرز معها مُعطيات تؤهُّلها لتغدوَ نِدّاً في معادلة الحَلِّ السُّوريّة.
المتتبِّع لمسيرة العلاقات الأمريكيّة مع الكُرد في روج آفا، يستنتج بأنَّ الولايات المتّحدة تعاملت مع القضيّة الكُرديّة ببراغماتيّة مُفرِطة، دون أن تُبدِيَ اهتماماً ملحوظاً بمطالب الكُرد وحقوقهم في سوريّا الغد. فرغم اللِّقاءات المتعدّدة لمسؤولين في الإدارة الذّاتيّة ومجلس سوريّا الدّيمقراطيّة، ومن بينهم شخصيّات كُرديّة وعربيّة، مع شخصيّات كبيرة وذات ثقل سياسيّ في الإدارات الأمريكيّة المختلفة (أوباما، ترامب، وبايدن)، إلا أنَّها لم تثمر عن نتائج ملموسة، بل أكَّدَت الولايات المتّحدة على الدَّوام أنَّ شراكتها مع (قسد) تنحصر في محاربة “داعش”، وهذا بحَدِّ ذاته يضع إشارات استفهام عديدة حول الولايات المتّحدة ودورها المريب، خاصَّةً أنَّها عوَّدتنا على ترك حلفائها وشركائها في منتصف الطريق، على غرار ما فعلته في أفغانستان العام المنصرم.
يؤخذ على الولايات المتّحدة أنَّها، ورغم مرور أكثر من 7 سنوات على شراكتها مع وحدات حماية الشَّعب ولاحقاً مع قوّات سوريّا الدّيمقراطيّة والإدارة الذّاتيّة، لم تُبادر إلى دعم الكُرد ليحتلّوا مكانة سياسيّة تَليق بتضحياتهم وتفانيهم في حماية مناطقهم، ويُفهم أنَّ تعاطيها مع الكُرد مرتبطٌ بعوامل داخليّة أمريكيّة تتعلَّق بالانتخابات، وأخرى بحلفائها في المنطقة، وعلى رأسها دولة الاحتلال التُّركيّ، باعتبارها عضواً في حلف “الناتو”. وينظر المواطن الكُرديّ أنَّ هذه المُدّة الزَّمنيّة للعلاقات معها ما كانت إلا مضيَعةً للوقت، لم يجنِ منها الكُرد أيَّ مكاسب، وما حقَّقوه إنَّما كان بفضل نضالهم وتضحياتهم، وليس للولايات المتّحدة أيَّ دورٍ فيها.
المحاولة السِّياسيّة الوحيدة التي أقدمت عليها الولايات المتّحدة، تمثَّلت في دعم الحوارات بين أحزاب الوحدة الوطنيّة الكُرديّة، والمجلس الوطني الكُرديّ، إثر إطلاق قائد قوّات سوريّا الدّيمقراطيّة “مظلوم عبدي” لمبادرة الوحدة بين الطرفين، فلعبت الولايات المتّحدة دور الوسيط الدّاعم للحوار، لكنَّها – وكعادتها – أوقفتها في المنتصف، وأدارت لها ظهرها.
الموقف الأمريكيّ “المُذلّ” حيال العدوان التُّركيّ على عفرين، وسري كانيه/ رأس العين وتل أبيض، أفقدها المصداقيّة لدى الشَّعب الكُرديّ في روج آفا وفي جميع أجزاء كردستان، فلا يمكن بأيِّ حالٍ من الأحوال أن تُفاضِلَ الولايات المتّحدة بين مصالحها مع تركيّا وحقوق الشَّعب الكُرديّ، إن كانت فعلاً صادقة بالدِّفاع عن حقوق الإنسان ونشر الدّيمقراطيّة، لكن تبيَّنَ زيف ادّعاءاتها عند أوَّلِ امتحانٍ جدّيٍّ لها، في تبرير العدوان التُّركيّ على مناطق روج آفا، فوقفت مع الجلّاد ضُدَّ الضحيّة، ودون أن تُبدِيَ أيَّ اعتبارٍ أخلاقيٍّ لمواقفها.
ردود الفعل المعارضة التي صدرت من بعض المسؤولين الأمريكيّين حيال العدوان التُّركيّ على سري كانيه، كانت “فرديّة” ولم تُمثِّل قطعاً دوائر القرار السِّياسيّ والعسكريّ في الإدارة الأمريكيّة، وبقيت دائرة تأثيرها محدودة جدّاً، مثل تقديم وزير الدِّفاع “جيمس ماتيس”، و”بريت ماكغورك” ممثّل الرَّئيس الأمريكيّ في التَّحالف الدّوليّ لمحاربة “داعش” استقالتهما أثناء العدوان على سري كانيه، كما انحازت الولايات المتّحدة لتركيّا في اتِّفاقيّة وقف إطلاق النّار التي وقَّعتها مع الأخيرة عام 2019، ولم تضمن مصالح وأمن شعوب شمال وشرق سوريّا في الاتِّفاقيّة، بدليلِ استمرار الاعتداءات التُّركيّة على المنطقة.
إنَّ الولايات المتّحدة، وباعتبارها ممثِّلة لقوى الحداثة الرَّأسماليّة، وتعتمد في تنفيذ إستراتيجيّاتها في جميع بقاع العالم على الاستثمار في الأزمات والصراعات الدّوليّة المختلفة، فإنَّها وبحكم هذه المنهجيّة التي تحكم علاقاتها وتبني وفقاً لها تحالفاتها واصطفافاتها مع جميع القوى والأطراف؛ فإنَّها غير مهتمَّة بحقوق الشَّعب الكُرديّ، وخير دليل على ما أسلفنا به، موقفها حيال الاستفتاء على استقلال جنوب كردستان عام 2017.
لم تُبدِ الولايات المتّحدة أيَّ مواقف مبدئيّة في التَّعامل مع القضيّة الكُرديّة، وفي أيّ جزء من كردستان، ففي حين لا تزال تُلصق تُهمة “الإرهاب” بحركة التحرّر الوطنيّة الكُردستانيّة؛ فإنَّها تخلَّت عن حلفائها الكُرد في جنوب كردستان، وكانت لا تزال حتّى فترة قريبة توسِمها بـ”الإرهاب”، في حين أنَّ ازدواجيَّتها في التَّعامل مع كُرد روج آفا، أفقدتها مصداقيَّتها الأخلاقيّة تجاه العديد من القضايا في الشَّرق الأوسط. ورغم أنَّها لا تزال تتبجَّح منذ أكثر من ثلاث سنوات بأنَّها “ستدعم الكُرد وتُشرِكُهم في مفاوضات جنيف واللَّجنة الدَّستوريّة”، إلا أنَّها لم تنفِّذ أيّاً من وعودها.
الموقف المفصليّ للولايات المتّحدة يتمثَّل الآن في صمتها على استمرار اعتداءات وهجمات الاحتلال التُّركيّ على جميع مناطق روج آفا وشمال وشرق سوريّا، دون أن تبادِرَ إلى لجم الاحتلال التُّركيّ وتُردعه. والحقيقة التي يؤمن بها الكُرد؛ أنَّها لولا الضوء الأخضر الأمريكيّ لدولة الاحتلال التُّركيّ، لما تجرَّأت على شَنِّ هجماتها على الكُرد، فرغم أنَّها تقول علناً إنَّها “ستدفن كُلَّ كُرديٍّ ينادي بحقوقه في روج آفا”، إلا أنَّ الإدارات الأمريكيّة المتعاقبة، أعطت المبرِّرَ لها تحت ذريعة “حماية أمنها القوميّ” المزعوم.
البيانات الخجولة الصادرة من بعض المسؤولين الأمريكيّين وقياداتها العسكريّة، لا ترقى إلى مستوى مسؤوليّاتها الأخلاقيّة كدولة عظمى لها من القوَّة والإمكانيات ما يؤهِّلَها لرسم حقائق على الأرض، تُعيد لها وزنها ومصداقيّتها.
تبقى القضيّة الكُرديّة في روج آفا، العنصر الوازن في معادلات حَلِّ الأزمة السُّوريّة، ولن تستطيع القوى والأطراف الضالعة في الأزمة تهميش ممثّليها الحقيقيّين وإقصاءَهم، فالكُرد بعد أكثر من عشر سنوات على الأزمة السُّوريّة؛ تمكَّنوا بفضل نضالهم وتضحياتهم أن يُغيّروا العديد من المواقف المعادية لهم، بدءاً من المعارضة السُّوريّة، والنِّظام، كذلك الولايات المتّحدة ستجد نفسها مُرغَمةً على الأخذ بهذه الحقائق والتَّعاطي معها بجدّيّة، وتُغيّر من مواقفها التي تختبئ حيالها وراء إصبعها.
الآراء المنشورة في المنصة تعبر عن وجهة نظر كتّابها..