تقارير

من القاهرة إلى دمشق.. الحراك السياسي الكردي في عهدين مختلفين

محمد محمود بشار

أثارت قرارات دمشق الجديدة جدلاً واسعاً بين مختلف الأطياف، فحملت الذاكرة السياسية لتعود إلى الأيام الأولى لتأسيس “الجمهورية العربية المتحدة” حيث اتحدت سوريا مع مصر تحت قيادة الرئيس الراحل “جمال عبدالناصر.

في الثاني عشر من آذار من عام 1958 أصدر “جمال عبدالناصر” القرار رقم 1 الذي تضمن سبع مواد، حيث تمت صياغة المادة الأولى منه على الشكل التالي:

–        “تُحل الأحزاب والهيئات السياسية القائمة حالياً في الإقليم السوري، ويحظر تكوين أحزاب أو هيئات سياسية جديدة”.

بينما جاءت المواد الأخرى لتبيان تفاصيل تطبيق هذا القرار الذي كان بمثابة وأد الحياة السياسية في سوريا، التي تخلت عن صفة الدولة المستقلة وارتضت بأن تكون إقليماً، بعد أن أصبحت جزءً من “الحلم العربي” المنشود الذي تم تطبيقه على أرض الواقع بزعامة عبدالناصر.

      الرفض الكردي وبداية القمع السياسي

آنذاك كان هناك حزب كردي وحيد، يحمل اسم “الحزب الديمقراطي” وتختلف الأحزاب الكردية الحالية التي ترى نفسها امتداداً لذلك الحزب حول تتمة اسم الحزب، هل كان يحمل صفة “الكردي” بعد الديمقراطي، أم إنه كان “كردستانياً”.

وبعيداً عن الخوض في تفاصيل هذا الخلاف، فقد رفض الحزب الكردي آنذاك، القرار الذي صدر من القاهرة بشأن حل الأحزاب السياسية وبقي يمارس نشاطاته السياسية والتنظيمية بعيداً عن مراكز صنع القرار.

فجاء الرد عنيفاً من السلطات الأمنية وتم اعتقال أغلبية قيادات الحزب وعدد كبير من الأعضاء والمؤيدين.

انهارت الوحدة بين سوريا ومصر ورحل جمال عبدالناصر، بينما بقيت الحركة السياسية الكردية، ومازال الكردي لحد اليوم يروي قصص الاعتقال التي حدثت في معتقلات الجمهورية العربية المتحدة، ويستند إليها كدليل على قوة الإرادة والوقوف بوجه قرارات الأنظمة الحاكمة.

في المرحلة التي تلت حكم عبدالناصر، سيطر البعثيون على مقاليد الحكم لتدخل سوريا في دوامة حكم الحزب الواحد لعقود من الزمن.

ويبدو أنه لم تخلو سجون ومعتقلات البعث يوماً ما من المعتقلين السياسيين الكرد، الذين كان لهم كلمتهم المؤثرة على الكرد في سوريا من جهة وعلى السلطات في كل المراحل من جهة أخرى، فكان الكردي الذي تتهمه السلطات بشتى التهم من “عمالة” و”انفصال” و”خيانة” يدخل إلى السجن كبطل أسطوري حسب تقييم الرأي العام الكردي ويخرج من السجن على هيئة “قديس” بالنسبة للكرد.

      دمشق الجديدة والعودة إلى قرار القاهرة

من التناقضات التي تكتنف المشهد السياسي السوري على وجه الخصوص، هو تلاقي الخصوم التاريخيين وحملهم لنفس الأفكار بخصوص الحياة السياسية.

فقبل حوالي سبعة عقود ألغى “جمال عبدالناصر” بجرة قلم الحياة السياسية ليحتكر هو وجماعته القرار السياسي، وعبدالناصر هو أكثر الزعماء العرب تشدداً في تبني الفكر القومي العربي والحاكم العسكري الذي ضرب التيارات الإسلامية بيد من حديد.

واليوم يأتي الرئيس السوري الانتقالي “أحمد الشرع” ليلغي كافة الأحزاب والهيئات السياسية بقرار من “مؤتمر النصر” الذي تم عقده بدمشق في التاسع والعشرين من شهر كانون الثاني\يناير من عامنا الحالي 2025.

وهكذا يلتقي الحاكم السوري الجديد القادم من خيمة الإمارة الإسلامية والمتطلع إلى إحياء الخلافة، مع الحاكم المصري الراحل والذي جاء رافعاً راية العروبة والقائل: “القومية العربية هي المحرك الأساسي لكل شيء”.

لقد أثبتت التجارب السياسية المعاصرة والعقود المنصرمة بأن هذه الدول هي عبارة عن حقول تجارب لتوجهات الحاكم الفردية والتي يتم إلباسها زياً قومياً أو دينياً بحسب الحاجة والمستجدات.

      الحراك السياسي الكردي في مواجهة قرار الإلغاء الجديد

يختلف المشهد السياسي الكردي اليوم عما كان عليه قبل سبعة عقود، حيث هناك العديد من الأحزاب والتنظيمات الكردية، واستطاع الكرد في سنوات الحرب السورية من تقديم نموذجهم الخاص في هذه البلاد التي تحولت بفعل الأمر الواقع إلى مناطق نفوذ متعددة ومختلفة.

بات الكردي يرى نفسه اليوم فاعلاً ومؤثراً مهماً في الحياة السياسية السورية بشكل عام، وبات يمارس السياسة بأعلى مستوياتها وذلك بعد أن كانت كل الطرق مسدودة أمامه داخلياً وخارجياً.

الأحزاب الكردية اليوم هي أكثر تنظيماً وقوة مما كانت عليه في فترة الوحدة السورية المصرية، وفي المنطقة التي يشكل فيها الكرد أغلبية سكانية يتعايش فيها مع العديد من القوميات العريقة، ومقارنة مع باقي المناطق السورية، فإن مناطق الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا هي الأكثر تقبلاً للتعايش المشترك بين القوميات والأديان والمذاهب.

وعلى الرغم من تعدد واختلاف الأحزاب الكردية فيما بينها، فإنها جميعاً خرجت بموقف شبه موحد في مواجهة قرار “مؤتمر النصر” القاضي بإلغاء الأحزاب، هذا القرار الذي تم تأكيده في “مؤتمر الحوار الوطني السوري” في الخامس والعشرين من شباط حيث لم تتم دعوة أي حزب سياسي، فتبنت الأحزاب الكردية جميعاً نفس الموقف الذي رفض آلية تأسيس المؤتمر وأكدت على تمثيلها للشعب الكردي في سوريا، رافضة سياسة الإنكار وقرارات الإلغاء.

      سوريا الجديدة.. قرارات مصيرية في دولة من دون دستور

سوريا اليوم من دون دستور، وليس لديها مجلس تشريعي، وكل المسؤولين في الإدارة الجديدة ابتداء من الرئيس تم تنصيبهم بحكم السيطرة العسكرية وقوة سلاح الفصيل الأكثر غلبةً.

في هذه المرحلة الحساسة والتي تُعتبر من أخطر المراحل وأكثرها فوضوية في تاريخ البلاد، فإن أي قرار مصيري يتم إصداره يفتقد إلى الشرعية الانتخابية والإجماع الوطني، سيُدخل البلاد في دوامة جديدة من الصراع.

ينتظر السوري اليوم أن تتحول بلده من حقل تجارب سياسية وعسكرية إلى واحة مستقرة للعيش بعيداً عن أزيز الرصاص وشظايا القنابل ومغامرات الحكام.

تضم سوريا سبعة ملايين نازح ضمن البلاد، نزحوا قبل عدة سنوات نتيجة للحرب والصراع الذي كان يقوده نظام الأسد، فكان وجود الأسد في سدة الحكم هو العلة الاساسية في نزوحهم من بيوتهم وعيشهم في المخيمات، أما اليوم عندما تبقى هذه الكتلة البشرية الكبيرة في المخيمات وفي حالة النزوح، فهذا يعني أن الحكام الجدد الذين يعيشون اليوم في نفس قصور الحكام الذين سبقوهم، لديهم أولويات أخرى.

وطالما إن هناك سوري لديه منزل مدمر ويعيش في خيمة، فهذا يعني أن سوريا تحتاج إلى الكثير من الجهد والوقت لترتقي إلى مستوى أن يُقال عنها “وطن”.

زر الذهاب إلى الأعلى