آفاق الانعطافة التركية نحو النظام السوري
محمد عيسى
أم العجائب بعد أم المعارك، هي صورة المشهد السياسي التي تخيم على العلاقة ما بين النظام التركي والسوري اليوم، بعد صراع امتد لأكثر من عقد من الزمن، صراع بدأته أنقرة مع انطلاق موجة ما سمي بالربيع العربي، بمحاولة إسقاط النظام السوري وتنحية رئيسه بشار الأسد عبر امتطاء صهوة الحراك الشعبي الدي اندلع بوجه النظام السوري، وحيث نجحت – أي تركيا – مع أطراف خليجية أخرى بعسكرته وتطييفه، إضافة إلى تحميله أجندات إسلامية غالبة.
يأتي الحديث عن مصالحة بين النظامين؛ تتويجاً لجهود روسية وإيرانية مباغتة، تبدو في غير سياقها المنطقي، ولتترك أثراً صادماً، حيث لم تتوفر لها أرضية كافية لإقناع الرأي العام بمسوغاتها أو بمشروعيتها السياسية وحتى الأخلاقية، ما أثار ويثير زوبعة من ردود الأفعال على صعيد الشارع السوري وفي الأوساط السياسية والإعلامية، وعلى اختلاف مشاربها، ولتنطلق من ضمن ردات الفعل التظاهرات المعبِّرة عن خيبة الأمل والمنددة بالسياسة التركية في مدن وبلدات شمال غرب سوريا الواقعة تحت سيطرة النفوذ التركي والتي دارت، بحسب الأخبار، في أكثر من ثمانية وعشرين موقعاً. عمدت السلطات التركية إلى الإيعاز للجماعات التي تأتمر بأمرتها بالعمل على إجهاضها واعتقال نشطائها البارزين.
ولأنه قد صار من المُسلَّم به بأن أي اتفاق أو مصالحة من هذا النوع، ستفرض مقايضات أو تنازلات يقدِّمُها كل طرف للطرف الآخر، أو أن لقاءً في منتصف الطريق ﻻ بد أن يكون من أثمانه تخلي السلطات التركية عن أدواتها في الصراع مع النظام، وكما بدوره سيقوم النظام السوري بتقديم ثمن مماثل، الأمر الذي ﻻ بد أن يعني على الضفة التركية انحسار دور المعارضة التي دأبت تركيا على احتضانها طيلة فترة الحرب، وتفكيك هياكلها كالإئتلاف السوري وما شاكل من منظمات وتشكيلات انتهى دورها عند المشغِّلِ التركي.
وليس هذا وحسب؛ بل إن مصالحة من هدا النوع، وبصرف النظر عن الأسباب والدواعي، وبمعزل عن المناخات الدولية العاصفة والمتقلبة التي تسيطر على الأجواء؛ فإنها ستعني انعطافاً جديداً في تاريخ الصراع المحلي ومعادلاته، وكذلك في هويته واصطفافاته التي ﻻ بد أن تقع. وما من شك بأن الثنائية التي طبعت على الصراع “معارضة إسلامية بمواجهة نظام” وخلال إحدى عشر عاماً الماضية قد انتهت الآن.
قد انتهت لانتهاء مقوّماتها، ولأنها لم تعد صحيحة في محاكاة الواقع وفي التعبير عن أوضاعه المستجدة، فلا النظام التركي من مَشاغِلِهِ انتصار ثورة الشعب السوري، وﻻ النظام السوري في جوهره معاديٌ للإسلاموية. والمراجعة في تحديد أولويات كلا الفريقين منطقية إلى حد كبير. فنظام أردوغان بعثمانيته الإسلاموية الجديدة همومه وتحدّياته لم تعد هي نفسها التي كانت عشية عام 2011؛ بل أصبحت كما عبَّرَ عنها خلال حروبه الأخيرة مع عدوّه الحيوي والأخلاقي المتمثل في قوات سوريا الديمقراطية ورمزيتها السياسية في مجالس أخوة الشعوب الحرة، وأصبحت أهدافه أكثر مرونة وأكثر براغماتية، ولتتجلى في أولويَّتين أساسيتين:
قضم وتتريك متدرج ومنظم للأرض السورية، والإجهاز على قوات سوريا الديمقراطية.
أما النظام السوري التي تتصاعد منه نكهة إسلامية يومية ويطغى في أحشائه النفوذ الإيراني والروسي، إلى حد لم يعد في أجندته غير هموم الاستمرار، فيصبح من المنطقي بالنسبة له أن يراجع في قراءة المشهد، أما ماذا يعني ذلك، وكيف سيكون شكل لوحة الصراع، وما هي أطرافه وتأثيره على مستقبل البلاد في المرحلة القادمة؟ فهو لا يمكن التنبؤ به الآن، ربما الأيام القادمة ستحدد ملامحه.
وﻻ ريب بأنه من السابق لأوانه تقديم اجابة كافية؛ لأننا محكومون في تقدير شكل وحجم العوامل والظروف التي ستتولد مع تطورات الصراع الدولي على المنطقة وبموازين القوى التي ستتحصَّل عن ذلك. كما يتعلق الأمر بالحسابات والتداعيات التي ستحدثها عملية عسكرية تركية في حال حصولها، إذ في حال حصولها؛ سيكون الأمر غيره في حال عدم حصولها، وفي مطلق الأحوال، وفي حال ركب الأتراك رأسهم – كعادتهم عبر التاريخ – وشنوا عمليتهم؛ فإن مقاومة العصر والتاريخ ستكون بانتظارهم، وإلى ذلك تبرز تصريحات القائد مظلوم عبدي الأخيرة لإحدى القنوات الفضائية الدولية، والتي مفادها “سنقاوم.. الجميع سيقاوم.. الجيش السوري سيقاوم، وسنبقى مع شعبنا إذ ﻻ يوجد مكان آخر نذهب إليه”.
إن جبهات في الصراع الدائر ﻻ بد أن تبرد في مقابل جبهات وتحديات قد تندلع، لكن ﻻ يجوز أن نغفلَ عن أن تفاهماً على تبريد المجابهة العسكرية قد يخدم المصلحة الوطنية بالنهاية؛ لأنه وبعيدا عن إرادة أقطابه ونواياهم، فإنه سيؤول إلى طي أوَّليٍّ لصفحة التحدي الوطني بالمعنى الجغرافي؛ ليفسح المجال بعد ذلك إلى فتح الملف الوطني بأبعاده اﻻجتماعية والحضارية والإنسانية.
وبالعودة إلى السؤال المتعلق بلوحة الصراع ومعادلاته القادمة، فلا ريب أن تحولات عديدة سوف تطرأ على مساره ومحطة أخرى بانتظاره، فالجميع يخرج من ثيابه، إذ باتت تضيق عليه، فلا معارضة الأمس هي معارضة الغد، وﻻ سكة الصراع وميادينه هي نفس الميادين، فسوريا الغد، سوريا الحلم، سوريا بلد الكرامة والحقوق والحريات، سوريا الديمقراطية العلمانية واللامركزية، لها مُريدوها وبُناتُها ومركز استقطاب كل الشرفاء وقوى الحداثة في المعارضة وخارجها، وسوريا الأمس واليوم المريضة بإصابات ﻻ شك أنها مزمنة وبنيوية؛ لن يدافع عنها صُنّاع التخلف والفقر والمرض.
الآراء المنشورة في المنصة تعبّر عن وجهة نظر كتّابها