من الأسد إلى الشرع.. لعبة التوازنات الدولية في بلد منهار

محمد محمود بشار*
يقول المثل الكردي فوهة البندقية هي التي تتكلم عندما يكون معها القوة والمال، وفي المقابل يقول العرب لا صوت يعلو على صوت البندقية.
في البلاد التي يحكمها العسكر، أكثر من تتملكه الرهبة ويعتريه الخوف من أي عملية تغيير قادمة هو “الرئيس” الذي نحت دستور البلاد على مقاسه وأغرق الشعب في شعارات زائفة نابعة من قضايا لها قدسيتها لدى العامة.
في عهد الأسد الأب كانت الانتخابات الرئاسية عبارة عن “تجديد البيعة”.
هذه العملية التي كان يعمل الإعلام الرسمي على تجميلها بعبارات ترتبط بالوفاء بين الرئيس والمرؤوس، وعهد الولاء الأبدي للقائد الضرورة والأب الروحي وصانع المنجزات.
وعلى الرغم من الآلاف المؤلفة من الجنود، والعشرات من الأجهزة الأمنية التي كانت تضم مئات الألاف من العناصر المشبعة بشعارات “سورية الأسد”، كان الأسد دائم الخوف من ظهور منافس له، يشّكل بالنسبة له تهديداً على كرسي الحكم.
فكانت الانتخابات تتم بوجود اسم واحد في القائمة للتصويت عليه من قبل الشعب وهو اسم حافط الأسد، من دون أن يكون لأي مرشح آخر أي وجود حتى بالاسم في قائمة المرشحين للرئاسة.
اختار “أبو سليمان” وهو من أحد ألقاب حافظ الأسد، اللجوء إلى المعسكر الاشتراكي والانضمام إلى حلف الاتحاد السوفيتي والذي كان يعد أفضل حامي ومدافع عن الدكتاتوريات وتثيبت حكمهم تحت شعارات محاربة الرأسمالية والامبريالية الغربية، فكانت لغة العسكرة هي الطاغية على باقي اللغات في إدارة البلاد.
– خليفة الأسد من دون السوفييت تائه على أبواب العواصم
عندما استلم بشار الأسد السلطة كان قد مر عقد من الزمن على سقوط الاتحاد السوفيتي وتفكك المعسكر الاشتراكي، فكان خطاب القسم يحمل الكثير من المفردات الجديدة بالنسبة للمفردات المستعملة سابقاً في خطابات الرئيس.
إلا أن جميع تلك المفردات سقطت عند أبواب أفرع الأجهزة الأمنية، التي بقيت على حالها، مستمرة في الحفاظ على جمهورية الرعب بأدواتها القديمة “الكرباج” و”بساط الريح” و”الدولاب” الذي له معنى مختلف عن معاني الدولاب في كل دول العالم. إلا أن السوريين حفظوا عن ظهر قلب كل هذه المفردات وأسهبوا في شرح معانيها مع القصص التي كانوا يسمعونها من الخارجين على قيد الحياة من سجون ومعتقلات المخابرات.
بقيت فوهات البنادق منتصبة في وجه السوريين، الذين فقدوا القدرة على التحمل مع انطلاق ثورات الربيع العربي، فجابت المظاهرات شوارع أغلب المدن السورية مطالبة برحيل الأسد، الذي ورث عن أبيه كل مفردات القمع، فما كان منه إلا التوجه إلى حشو البنادق بالرصاص الحي وإطلاق كل تلك الرصاص على أبناء شعبه.
توسع الصراع في سوريا مع إصرار السوريين على إسقاط حكم عائلة الأسد، فتدخلت الكثير من الدول عسكرياً وبشكل مباشر في الحرب السورية.
فقرر الأسد أن يأتي بالروس لمواجهة النفوذ الأمريكي داخل البلاد، ولإيقاف المد العسكري للثورة السورية، ومع التدخل الروسي تمدد الإيرانيون ومعهم القوة الضاربة في حزب الله اللبناني والعديد من الميليشيات الشيعية من مختلف بقاع العالم.
بالمقابل ازداد التدخل العسكري التركي برفقة العديد من الفصائل السورية المسلحة، بينما كان الجيش الاسرائيلي يراقب الوضع عن كثب وينفذ سلاح الجو الاسرائيلي بين الفينة والأخرى غارات دقيقة على أهداف محددة ومنتقاة بعناية تامة.
ومع مرور كل يوم واستمرار الصراع العسكري، كانت تزداد التكلفة مادياً وبشرياً، وباتت “السيادة” و”الاستقلالية في القرار” مفردات من الماضي التي بالأساس لم يكن لها وجود إلا في الخطابات الرسمية.
وبات الأسد الابن تائهاً لا يرى إلا بمقدار النيران التي تخرج من فوهات البنادق والمدافع، فأدخل البلاد في لعبة أصبح هو مجرد بيدق فيها. حيث فقد التوازن مع الكبار اللذين دخلوا على الخط الساخن في الصراع الذي أدرّ على العديد منهم ثروات وخيرات كانوا يتوقون إليها منذ أمد بعيد.
فباتت ” حميميم” أهم من دمشق بسبب العقلية الامنية والعسكرية التي تبناها الأسد الذي بات يتم جره جرّاً بكل ما لهذه الكلمة من معنى من قبل ضابط روسي صغير في الرتبة أثناء توديع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي أمر الأسد أن يأتي إلى حميميم لتلقي الاوامر الروسية الجديدة.
وحادثة جر الاسد إلى الصفوف الخلفية من قبل الضابط الروسي أثناء صعود بوتين الطائرة في قاعدة حميميم مازالت مخزنة في ذاكرة السوريين.
– أحمد الشرع.. المطلوب الذي أصبح رئيساً
مع رحيل الأسد تبدد حلم العائلة في تنصيب حافظ الثاني كرئيسٍ للبلاد، فاعتلى أحمد الشرع كرسي الحكم في دمشق، ليصبح أول رئيس لسوريا بعد انتهاء حقبة آل الأسد.
يبدو أن شعار “سوريا الأسد” لم يكن كلاماً عابراً يتم كتابته على جدران المقرات الأمنية والعسكرية، فمع فرار الأسد من سوريا انهار الجيش وانهارت الأجهزة الأمنية التي كانت تحكم البلاد من شرقها إلى غربها ومن شمالها إلى جنوبها بالكرباج وبساط الريح.
والسنوات الأربعة عشر للحرب السورية، دمرت أغلب مقدرات البلاد، فأصبحت سوريا عاجزة أكثر مما كانت اقتصادياً وعسكرياً، فاستلم الشرع هذه البلاد وهي رازحة تحت نير الدمار والتدخلات الخارجية.
الشرع الذي تلقت جماعته عندما كانت تحكم إدلب لوحدها، ضربات مدمرة من قبل الطائرات الحربية الروسية، لم يقم بطرد الروس من سوريا، يبدو إنه يحاول أن يدخل في لعبة التوازنات بالحفاظ على شيء من الوجود الروسي، مع التوجه إلى العمق العربي دبلوماسياً حيث اختار المملكة العربية السعودية كأول وجهة له في زيارته الخارجية الأولى.
وكانت أنقرة هي وجهته الثانية بعد الرياض في محاولة منه لإبقاء الطريق العربي سالكاُ في ظل التأقلم مع أطماع الرئيس التركي الحالم بإحياء أمجاد السلطنة العثمانية من جديد.
بينما يسلك خط إرضاء واشنطن وعدة دول غربية أخرى من خلال الاستمرار في المفاوضات مع قوات سوريا الديمقراطية الحليف السوري الأكثر ثقة لدى الامريكان في الحرب على داعش.
وهنا تبدو المهمة شبه مستحيلة، حيث ترك الأسد من خلفه دولة مدمرة منهارة، تأن تحت الديون الخارجية والخلافات الداخلية. حيث بات السوري هو الحلقة الأضعف في هذا الصراع الذي يتم خوضه داخل الأراضي السورية.
فمن منطلق معادلة القوة، سيكون من الصعب كثيراً على الشرع الحفاظ على هذه التوازنات، الذي دخل في متاهات لعبتها، بينما خيوط اللعبة هي في يد الدول الكبرى التي تمتلك القرار في العالم برمته، هذه الدول التي هددها يوماً ما من كان وزيراً للخارجية السورية بإغراقها في التفاصيل ونسيان إنها موجودة على الخارطة.
يقول الدرس السوري: الشعارات لا تصنع وطناً.