إيران ما بعد “رئيسي”
جميل رشيد
سقوط طائرة الرئيس الإيراني والوفد المرافق له، ترك عدة إشارات استفهام حول عملية السقوط، فيما إذا كانت بفعل فاعل وتقف وراءها جهات داخلية أو خارجية، أم أنها حقيقة سقطت جراء حالة الطقس السيئة في تلك المنطقة. والسؤال الأكثر إثارة للجدل؛ لماذا لم تتعرض الطائرتان المرافقتان لطائرة الرئيس إلى أي أذى رغم أنها جميعاً حلقت في نفس المنطقة وسلكت ذات المسار، ووصلت بأمان إلى مدينة “تبريز” الإيرانية؟
يبدو أن هناك العديد من الحلقات الغامضة والمفقودة في لغز سقوط طائرة “رئيسي” ومقتل جميع ركابها السبعة، ولا تزال إيران تتحفظ في الكشف عن أسباب السقوط، رغم أنها أعلنت أنها شكلت لجنة للتحقيق في أسباب السقوط، مع ازدياد التكهنات بضلوع أيادي خارجية فيها، في وقت تشهد إيران صراعات داخلية بين تيار المتشددين بزعامة المرشد الأعلى علي خامنئي، وتيار المعتدلين.
يعد الرئيس الراحل “إبراهيم رئيسي” من تيار الصقور داخل المنظومة الحاكمة في إيران، ومحسوب على المرشد الأعلى خامنئي، وكان من المرشحين لولايته، هذا فضلاً عن احتمال توليه منصب الرئاسة لولاية ثانية بعد ولايته الحالية التي كانت ستنتهي بعد عام ونصف. وقد تدرّج “رئيسي” في عدة مناصب في الدولة، بدأها كقاضٍ في محكمة الثورة التي أسسها “الخميني” في عهده، وتتهمه العديد من الأوساط السياسية المعارضة داخل إيران وخارجها بمسؤوليته عن إعدام الآلاف من المناوئين للنظام الإيراني، خاصة من الكرد. كما شارك هو والرئيس الأسبق “أحمدي نجات” عام 1979 في حصار السفارة الأمريكية، وخطف طاقم السفارة رهائن، في بداية الثورة الإسلامية الإيرانية بقيادة الخميني.
الصراع الداخلي بين أجنحة السلطة في إيران ليس خافٍ على أحد. ومع رحيل “رئيسي” كآخر رموز التيار المتشدد، بعد رحيل كل من هاشمي رفسنجاني ومهدي كروبي وعلى أكبر ولايتي وعلي جنتي، لم يبقَ منه غير “أحمدي نجات” وبعض الشخصيات الفاقدة للكاريزما القيادية، خاصة مع تقدم المرشد الحالي خامنئي واعتلال صحته، وهذا بحد ذاته يفرض السؤال؛ ما مستقبل نظام الملالي في إيران بعد رحيل “رئيسي”؟
ثمة افتراضات واستنتاجات هامة يمكن الاستدلال بها لمعرفة تطور الأحداث في إيران على وقع الكارثة السياسية الكبيرة التي حلت عليه، وربما هي الأولى من نوعها منذ وصول الخميني للسلطة وتأسيس نظامه السياسي. ولا يعد سراً أن الصراع الدائر بين نجل المرشد الأعلى “مجتبى خامنئي” الذي يتطلع إلى أن يحل محل والده، ورحيل “رئيسي” أزال حجرة عثرة كبيرة أمامه، فهل سينزل المرشد الأعلى “خامنئي” عند رغبة نجله والقبول بتعيينه “وريثاً” له. وقبل هذا وذاك؛ من ستختار إيران رئيساً لها بعد منتصف يونيو/ حزيران، كما حدده نائب الرئيس الإيراني؟ هل ستعمد إيران إلى تجديد دماء سلطتها المترسخة منذ أكثر من أربعين عاماً، وستشهد تحولات جذرية في مجمل القضايا الداخلية والخارجية التي تورطت فيها إيران، وتعيد النظر في سياساتها الخارجية إزاء العديد من الملفات التي طالما كانت إيران ضلعاً رئيسياً فيها، بل الفاعل الوحيد أحياناً كثيرة؟ بالتأكيد أن إيران ما قبل رحيل “رئيسي” لن تكون كما قبلها، لجهة الاستحقاقات الداخلية والخارجية التي أمام التشكيلة الحكومية الجديدة، وهي مضطرة إلى تغيير نهجها السابق. فإن كان مقتل “قاسم سليماني” قبل “رئيسي” لم يدفع إيران إلى إجراء مراجعة لنهجها في التمدد في المنطقة؛ إلا أنها مع هذه الضربة القاسية، فهي مجبرة للإنصات إلى صوت العقل والكف عن سياسات التدخل في شؤون الدول الأخرى، ومد اليد نحو التصالح مع العديد من القوى التي تعتبرها “خصوماً” لها، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية بشكل عام.
إن الثقافة السلطوية السائدة في دول الشرق الأوسط المنحازة للحفاظ على أنظمتها بأي شكل من الأشكال، يقودنا إلى عدم استبعاد نظرية المؤامرة في حادثة سقوط طائرة الرئيس الإيراني، وقد تكررت مثل هذه الحوادث سابقاً، مثل إسقاط طائرة الرئيس العراقي السابق عبد السلام عارف، وكذلك إسقاط طائرة الملكة “علياء” زوجة الملك الأردني السابق “حسين بن طلال”، كلها حدثت ضمن إطار الصراع على السلطة، ولا شيء آخر غيره. ولكن بكل الأحوال رحيل أشخاص في منظومة الحكم السائدة في إيران، لن يؤثر كثيراً في تغيير نهجها العام، إلا أنه في ذات الوقت فإن المنظومة مثل الجدار الصلد، ما أن تتداعى منه حجرة حتى ينهار الجدار بالكامل.
إن فرضية ضلوع جهات خارجية في حادثة سقوط الطائرة أيضاً غير مستبعدة، على ضوء الصراع المحتدم بين إيران وإسرائيل ومن ورائها الولايات المتحدة وأوروبا، خاصة بعد الحرب في غزة. و”رئيسي” الذي عاد من مشاركته مع الرئيس الأذربيجاني “علييف” في تدشين سد مشترك بين إيران وأذربيجان، كان يمهد لاستمالة الثانية وقطع دابر علاقاتها وتعاونها مع إسرائيل وتركيا، رغم أنها العدو المشاكس لها في عدة قضايا تتعلق بالأراضي الأذربيجانية التي ضمتها إيران إليها سابقاً.
كما أن تركيا هي الأخرى تدور حولها الشكوك في ضلوعها بحادث إسقاط طائرة “رئيسي”، وعمدت بعد الإعلان عن فقدان الطائرة إلى الزج بنفسها في عمليات البحث عنها، وادعت أنها استدلت على مكان سقوطها، عبر طائرتها المسيرة من نوع “إكينجي”، لتروج لنفسها ولصناعاتها العسكرية، وبالتالي ترفع من سقف بيعها لطائرتها في الأسواق العالمية. إلا أن الرواية الإيرانية فندت المزاعم التركية، حيث أوضح بيان إيراني أن إحدى طائراتها التي استدعتها من مهمة لها في المحيط الهندي، هي التي كشفت مكان سقوط الطائرة، وأضافت أن الطائرة التركية حددت مكاناً غيره يبعد عن نقطة سقوط الطائرة بمسافة أكثر من تسعة كيلومترات.
والتساؤل الأكبر بعد رحيل “رئيسي” وعميد الدبلوماسية الإيرانية “اللهيان”، ما هي التغيرات بشأن سياسة إيران تجاه دول المنطقة، خاصة في كل من سوريا، العراق، لبنان، اليمن وكذلك في غزة؟
إن إيران التي اعتمدت سياسة مدَّ أذرعها في المنطقة، لن تغير من نهجها الذي طالما أصبح ثقافة دائمة لها. فعلى ضوء القانون الفيزيائي “القوى الداخلية لا تؤثر في مسار حركة أي جسم، بل هي تتفانى مثنى مثنى”، فلا أمل في حدوث مفاجآت كبيرة داخل إيران، بل توجد أرضية للذهاب في تشددها إلى أبعد ما هو حاصل الآن، وهذا ما سينعكس في زيادة نفوذها في سوريا ولبنان واليمن والعراق، وعلى كل الأصعدة السياسية والاقتصادية والعسكرية. فإيران تمتلك القدرة على ترتيب بيتها الداخلي بما يتناسب مع مصالحها القومية، وتتجاوز جراحاتها، لتحول انتكاساتها إلى عناصر قوة لزيادة نفوذها في المنطقة. ولكن ستعمد إلى تخفيض التوتر مع إسرائيل والدول الغربية في الفترة المقبلة إلى ما بعد إجراء الانتخابات الرئاسية، وتتبنى لغة مهادنة نوعاً ما، وربما تعمد إلى التفاوض مع الولايات المتحدة بشأن ملفها النووي، بعدما ألغى الرئيس الأمريكي السابق “ترامب” الاتفاقية في بداية عهد “رئيسي”. ولكن ستعمد إيران إلى استئناف نشاطها العسكرية والتدخل في شؤون المنطقة، ريثما تستعيد عافيتها.
إن التغيير في البلدان ذات الأنظمة المركزية والدكتاتورية يتطلب ما يشبه عصا موسى التي شقت البحر، حيث يغدو الأشخاص مجرد مسننات في ماكينة السلطة المتشددة، وإيران مثال فاضح على تلك المركزية الفظة، فلا رحيل رئيس أو وزير خارجية يمكن أن يزعزع أركان نظام أسس نفسه على فكرة مركزية واستمد شرعيته من ولاية الفقيه، حيث أي معارضة لها، تعني وفق مفهومها، معارضة الإرادة الإلهية، ودائماً تتمكن من اجتراح حلول لها، لتجدد نفسها وتديم سلطتها المعتمدة على القوة، والقوة فقط.