ارتداداتُ الانتخاباتِ المحلّيّة التُّركيّة على سوريّا
جميل رشيد
مُنِيَ الرَّئيس التُّركيّ أردوغان وحزبه بهزيمة ماحقة في الانتخابات المحلّيّة التي جرت قبل أيّام، وقد وصفها البعض بأنَّها هزيمة “كاملة المواصفات”، وستُمهِّدُ لهزائم مستقبليَّة قادمة.
لا شَكَّ أنَّ خسارة أردوغان وحزبَي العدالة والتنمية والحركة القوميَّة للانتخابات، ستُدخل تركيّا في مرحلة جديدة، وأنَّ العَدَّ التَّنازلي لأردوغان قد بدأ فعليّاً مع صدور نتائج الانتخابات، وإعلان خسارته المدوّية، بعد أن فقد سيطرته على مدن رئيسيّة كبرى مثل إسطنبول، أنقرة، والعاصمة الصناعيَّة إزمير، إضافة إلى أضنه ومدن أخرى. واعترف أردوغان بخسارته، متوعِّداً بتصحيح الخلل ضمن صفوف حزبه، وتجاوز حالة الضعف.
إلا أنَّ الخسارة الكُبرى له كانت في المناطق الكردي، حيث حقَّق حزب المساواة والدّيمقراطيَّة (DEM) فوزاً كبيراً في إحدى عشر ولاية، وأزاح معظم رؤساء البلديّات ممَّن عيَّنهم حزب العدالة والتنمية تحت اسم “وكلاء/ قيّوم”، إضافة لفوزه ببلديّات فرعيَّة في عِدَّةِ بلدات وبمجالسها أيضاً. ويبدو أنَّ حزب (DEM) استطاع أن يُنظِّمَ صفوفه بشكل جيّد، ويخرج من حالة الترهُّل التي وَرِثَها من خلفه (HDP)، ويعيد تنظيم صفوفه ويبدأ العمل بين صفوف جماهيره، ويستفيد كثيراً من الزَّخم الوطني الذي رافق احتفالات الشَّعب الكُرديّ بـ”نوروز”، واعتماد خطاب قريب من الحسِّ والنَّبض الشَّعبيّ العام، والتلميح باستئناف عمليَّة السَّلام بين الدَّولة التُّركيّة وحزب العُمّال الكُردستانيّ في وقت قريب.
الخارطة السِّياسيّة في تركيّا تغيَّرت بشكل جذريّ، وحاز حزب المعارضة الرَّئيسيّ “حزب الشَّعب الجمهوريّ” على المرتبة الأولى، فيما حَلَّ حزب أردوغان، العدالة والتنمية، على المرتبة الثّانية، ولأوَّلِ مَرَّةٍ منذ أن وصل إلى السُّلطة في عام 2002. فيما حَلَّ “حزب الرّفاه الجديد” بقيادة السِّياسيّ الصاعد وذو التوجُّهات الدّينيَّة “فاتح نجم الدّين أربكان” في المرتبة الثّالثة، وحزب (DEM) في المرتبة الرّابعة، وهو ما يعكس تغيّر المزاج الشَّعبيّ لدى الغالبيّة الدّينيَّة في تركيّا نحو العدول عن النَّهج الذي اعتمده أردوغان في السِّياستين الدّاخليَّة والخارجيَّة، وكذلك الاقتصاديّة. كما استند نجل “أربكان” إلى ميراث والده القديم، وحقَّقَ مفاجأة كبيرة في الانتخابات، رغم أنَّه تحالف مع حزب العدالة والتنمية في الانتخابات البرلمانيَّة والرِّئاسيَّة العام الماضي. وركَّزَ الحزب بشكل رئيسيّ على حواضنه الاجتماعية القديمة، وتمكَّنَ من استمالة شخصيّات نافذة وفئات واسعة منها، ويحصد أصواتهم. ففي مدينة “رها/ أورفا” استطاع منافسة مرشَّح حزب العدالة والتنمية والفوز بمنصب رئيس بلديَّتها وكذلك مجلسها، وكانت تعتبر “رها” معقلاً رئيسيّاً لأردوغان وحزبه، ولعِدَّةِ سنوات.
إلا أنَّ أردوغان لم يتقبَّل الهزيمة التي لحقت به، فعمد إلى إثارة القلاقل واعتماد العنف المكشوف في فرض ديكتاتوريَّته المفرطة ضُدَّ إرادة الجماهير التي انتخبت من يمثِّلها في البلديّات ومجالسها، فعمد إلى نقل آلاف الجنود ورجال الجندرمة والدَّرك إلى مدينة “شرناخ” الكُرديَّة، وبثياب مدنيَّة، ليدلوا بأصواتهم فيها رغم اعتراض لجنة الانتخابات ووكلاء المرشَّحين، وكردٍّ عليها خرجت تظاهرات شعبيَّة كبيرة رفضاً لهذا الإجراء التعسُّفيّ واللا قانونيّ، الأمر الذي دفع نحو اندلاع اشتباكات عنيفة بين رجال الأمن والجماهير المنتفضة. إلا أنَّ أردوغان أصَرَّ على تعيين مرشَّحيه في رئاسة بلديّات كلٍّ من “شرناخ، جولميرك/ هكاري” رغم أنَّ مرشَّحي حزب (DEM) فازا بأغلبيَّة الأصوات. ومعروف أنَّ المدنيتين تصوِّتان دائماً للحزب الموالي للكُرد، إن كان (HDP) سابقاً أو (DEM) الآن، حسب وصف معظم الأوساط السِّياسيَّة داخل تركيّا وخارجها.
إلا أنَّ الامتحان الأصعب الذي واجهه أردوغان كان في مدينة “وان” الكُرديَّة، بعد أن اتَّهم أردوغان وحزبه مرشَّح حزب (DEM)، “عبد الله زيدان”، بعدم شرعيَّة ترشُّحه للانتخابات وبأنَّه يواجه حكماً قضائيّاً، وهو ما فنَّده “زيدان” وجميع الأوساط الحقوقيَّة والقانونيَّة في تركيّا، بأنَّه لو لم يحصل “زيدان” على براءة من المحكمة، لما سمحت له المفوضيَّة العليا للانتخابات بترشيح نفسه. وحاول أردوغان أن يُعيّن مرشَّحه مكانه، إلا أنَّ التَّظاهرات العارمة التي خرجت في مدينة “وان” ومعظم المدن الكُرديَّة، وحتّى في أوروبا، شكَّلت ضغطاً على أردوغان وحكومته، ما حدا بالمفوضيَّة العليا للانتخابات للإعلان عن شرعيَّة فوز “عبد الله زيدان” بالانتخابات، حيث حصل على نسبة /55.48/ بالمئة من الأصوات، فيما حصل مرشَّح حزب العدالة والتنمية على /27.1/ بالمئة من الأصوات. ويبدو أنَّ مسعى أردوغان في خلط الأوراق لم ينجح واضطرَّ لقبول الهزيمة، وهو الذي يرفضها دائماً ولم يتجرَّع طعمها طيلة حياته السِّياسيّة، ورُبَّما يعمد في قادم الأيّام إلى اتّخاذ إجراءاتأخرى، كما فعل عقب صدور نتائج الانتخابات البرلمانيَّة في يوليو/ تمّوز عام 2015، ودعا إلى انتخابات مُبكِّرة في نوفمبر/ تشرين الثّاني من نفس العام، ما اعتبر حينها انقلاباً على نتائج الانتخابات، فقط كي يفوز بأغلبيَّة الأصوات ويغيّر الدّستور ويُلغي منصب رئاسة الوزراء ويُعيّن نفسه رئيساً مطلقاً على البلاد.
بالتَّأكيد ستنعكس نتائج الانتخابات المحلّيّة على مجمل الحياة السِّياسيَّةفي تركيّا، وسيعيش أردوغان وحزبه حالة من الانكماش والضمور، لإعادة حساباته مَرَّةً أخرى. فإن كان البعض يُرجِعُ هزيمته إلى الأزمة التي تعصفبالاقتصاد التُّركيّ وتدهور قيمة ليرتها، وكذلك الدَّعم الاقتصاديّ المفتوح من حكومة أردوغان لإسرائيل، خصوصاً بعد حرب غَزَّة، رغم ادّعاءات أردوغان بمناصرة القضيَّة الفلسطينيَّة والدِّفاع عن الشَّعب الفلسطينيّ وحركة “حماس”، وهي المادة الدَّسِمة التي استغلَّتها المعارضة التُّركيّة في وجه أردوغان، واستطاعت أن تَدُكَّ عرشه وتُغيّر من المعادلة السِّياسيّة التي كان أردوغان يعتقد جازماً أنَّها لن تتغيَّر مطلقاً، على العكس من ذلك، فهو كان يخطِّط لتغيير دستوريّ يَسمح له بترشيح نفسه مَرَّةً ثالثة للانتخابات الرِّئاسيَّة. ونتائج الانتخابات المحلّيّة قلَّلت فرصه؛ خاصَّةً بعد فوز منافسه في الانتخابات الرِّئاسيَّة “أكرم إمام أوغلو” بمنصب بلديَّة إسطنبول، وللمَرَّةِ الثّانية، ويجد فيه أردوغان منافساً حقيقيّاً له. وخسارته في الانتخابات؛ قلّصت من إمكانيّة تعديله للدّستور، حيث يحتاج إلى نسبة “ثُلثي” أعضاء البرلمان، وهو ليس في متناول يده، حتّى وإن صوَّت له أعضاء حليفه في السُّلطة حزب الحركة القوميَّة.
فإن كان أردوغان يحقِّقُ مكاسِبَ شخصيَّة وانتخابيَّة له فيما مضى من خلال احتلاله لأجزاء من الأراضي السُّوريَّة والعراقيَّة؛ فإنَّذاك الاحتلال أصبح وبالاً عليه. فالتكلفة الاقتصاديَّة الباهظة للاحتلال، وكذلك ارتفاع فاتورة احتلاله لإقليم كردستان العراق، ومقتل المئات من جنوده في الحرب مع حزب العُمّال الكُردستاني هناك، شَكَّلَ امتعاضاً شعبيّاً كبيراً من سياسات أردوغان الخارجيَّة وحروبه البهلوانيَّة في المنطقة وخارجها. فلم يَعُد النّاخب التُّركيّ مغفّلاً وجاهلاً بسياسات أردوغان التي يدفع فاتورتها من دمه ولقمة عيشه، وقد قال كلمته من خلال صناديق الاقتراع، ولم يعد يرغب بأردوغان وحزبه في قيادة البلاد.
قد يعمد أردوغان إلى شَنِّ حروب عبثيَّة أخرى لإيهام شعبه مَرَّةً أخرى بأنَّ بلادهم تتعرَّضُ لمخاطر وتهديدات خارجيَّة، لمحاولة تدوير أزمة الثِّقة بينه وبين شعبه، وما التَّصريحات التي يطلقها مسؤولو حكومته إلا لذَرِّ الغبار على العيون، وتُمهّد لشَنِّ عدوان على مناطق مختلفة، قد تكون مناطق شمال وشرق سوريّا إحدى وجهاته، لطالما رأى أردوغان أنَّها ستنقذه من الخسارة التي لحقت به.
غير أنَّ معادلة الدّاخل التُّركيّ، هذه المَرَّة ستؤثِّر بشكل قويٍّ وفاعل على كُلِّ تَحرُّكٍ عسكريٍّتُركيّ مستقبلاً، وهو لا بُدّ محكوم بإرادة شعبيَّة خرجت من قمقمها، ولم تَعُد تأبَه لتهديدات أردوغان وزمرته في تصعيد جديد داخل كردستان وتركيّا، بل المزاج العام في تركيّا يضغط باتّجاه إغلاق ملفِّ احتلالها للأراضي السُّوريّة، وحَلِّ مشكلة اللّاجئين السُّوريّين على أراضيها، لطالما يشكل نزيفاً اقتصاديّاً مستمرّاً لها. وحالة النَّدب واللَّطم بين مرتزقة أردوغان في سوريّا لن تُنقِذَ الأخير من حالة التشتُّت وفقدانه لبريقه مع مرور الأيّام. ولكنَّ أردوغان مثل كُلِّ الدّيكتاتوريات في العالم، لن يتخلّى عن السُّلطة بتلك السّهولة، بل سيعمد إلى إغراق تركيّا ورُبَّما المنطقة في حرب دمويَّة طاحنة، وبدأت مؤشُّراتها تظهر من خلال رفض الشَّعبين التُّركيّ والكُرديّ لآليّات تعامل حكومة أردوغان مع ردود الفعل التي ظهرت إبّان الانتخابات، رغم حالات التزوير والتدخّلات غير الشَّرعيَّة التي لجأ إليها أردوغان وحزبه.
إنَّ ارتدادات هزيمة أردوغان في الانتخابات المحلّيّة بتركيّا، ستجد أصداءها في كُلّ الدّول المجاورة لها، وخصوصاً سوريّا، بعد أن حسم أردوغان أمره بالعودة إلى أحضان “الناتو”، والابتعاد عن روسيّا خلال الفترة القادمة. ويبدو أنَّ القيصر الرّوسيّ قد قطع الشَكَّ باليقين بأن وضع أردوغان ضمن قائمة “الأشخاص غير الموثوق بهم”، وهو البراغماتيُّ الذي لا يتحالف إلا مع من يجده قويّاً ويتقاطع مع في المصالح، وأردوغان الذي فقد أقوى أوراقه في الانتخابات، لن يكون الشَّخص المفضَّل لديه من الآن فصاعداً، وستنعكس برودة العلاقات بينهما عبر تصعيد روسيٍّ وسوريٍّ ضُدَّ الوجود التُّركيّ الاحتلاليّ في الأراضي السُّوريَّة، والأيّام القادمة حُبلى بالمفاجآت، وإنَّ غداً لناظره قريبُ!