تحوّلات شكل الصِّراع على المنطقة
جميل رشيد
تشهد منطقة الشَّرق الأوسط صراعاً محتدماً بين القوى الدّوليّة حول مناطق النّفوذ ومنابع الثَّروات وطرق وخطوط نقل الطّاقة، وخاصَّة الغاز والنَّفط، إلى جانب النِّزاعات البينيَّة حول مسائل الحدود وتداخل الجغرافيا السِّياسيّة والبشريَّة، ما يجعل المشهد أكثر تعقيداً، في ظِلِّ تناقض المصالح وتضاربها، وعلى أكثر من جهة.
لا شكَّ أنَّ المنطقة مَرَّت منذ بداية القرن الماضي بحروباً وانقلابات عديدة، أغلبها كانت انعكاساً لمصالح الدّول الغربيّة التي فتحت شهيَّتها على المنطقة بعد اكتشاف النَّفط فيها، ولم تهدأ المنطقة قطّ، إن كان في سوريّا أو العراق أو إيران. ففي الفترة التي تلت نيل سوريّا استقلالها السِّياسيّ بعد جلاء قوات الانتداب الفرنسيّ؛ شهدت انقلابات عديدة، حتّى أنَّ بعض الانقلابيّين لم تدم فترة تولّيهم السلطة سوى يوم واحد.
وفي قراءة تحليليَّة لتلك الانقلابات؛ يمكن الكشف بسهولة أنَّ أيادي بعض الدّول الغربيّة، وخاصَّةً الولايات المتّحدة وبريطانيا كانت تقف وراءها، إذ كان حلف بغداد الذي أنشئ عام 1955 يضغط باتّجاه ضَمِّ دول عديدة إليه، مثل سوريّا، حيث وجدت بعض التكتّلات السِّياسيّة والعسكريّة داخل الجيش السُّوريّ وفي الوسط السِّياسيّ، ترغب بالانضمام إلى الحلف، فيما كانت أخرى ترفضه. وقبل حلف بغداد؛ وضع الرَّئيس الأمريكيّ “هاري ترومان” مشروعه القاضي بتطويق الاتّحاد السّوفياتيّ، وإغلاق الطرق أمامه والحيلولة دون وصوله إلى المياه الدّافئة في الشَّرق الأوسط، وفي عهده تَمَّ تشكيل حلف الشّمال الأطلسيّ (النّاتو) وانضمَّت إليه تركيا، لتكون حائط الصَدِّ أمام الاتّحاد السّوفياتيّ للتمدُّد والوصول إلى الشَّرق الأوسط.
مشروع “ترومان” الشَّرق أوسطيّ، أولى رعاية كبيرة لدولتين، هما السّعوديَّة وتركيّا، وتمكَّنَ وزير خارجيّة الولايات المتّحدة الأمريكيَّة آنذاك “جون فوستر دالاس” من إقناع الملك السُّعوديّ عبد العزيز آل سعود من التَّحالف مع الولايات المتّحدة والحفاظ على أمن نظامه، مقابل تدفّق النَّفط السُّعوديّ إليها، في حين انحازت مصر بعد ثورة يوليو/ تموز 1952 إلى الاتّحاد السّوفياتيّ، وكذلك سوريّا.
تحرَّكت الولايات المتّحدة للعمل على جبهتين؛ أوَّلها جيوإستراتيجيَّة؛ تتمحور حول إقامة التَّحالفات المضادَّة للاتّحاد السّوفياتيّ، وثانيها؛ الاستحواذ على مصادر النَّفط، عبر إشراك الشَّركات الأمريكيّة الكبرى في عمليّات الاستثمار والنَّقل، بعد أن أصبحت الدّولة الصّناعيَّة الأولى في العالم وتزايد الطلب على النَّفط.
ضَمِنَت الولايات المتّحدة تدفُّق النَّفط السُّعوديّ إليها عبر شركة “أرامكو”، كما أنشأت خطوط “التابلاين” لنقل النَّفط السُّعوديّ إلى لبنان، وعارضته سوريّا حينذاك لتطلب بوصوله إلى السّواحل والموانئ السُّوريّة، ما دفعت الولايات المتّحدة إلى تشجيع العقيد أديب الشيشكلي لتنفيذ انقلاب في سوريّا، وموافقة حكومة “خالد العظم”، وكذلك مارست ضغوطاً باتجاه انضمام سوريّا إلى حلف بغداد، حيث كان يسانده آنذاك “حزب الشَّعب” بقيادة “رشدي كيخيا”، وقبله رئيس الحكومة “معروف الدَّواليبي”. إلا أنَّانقلاباً آخر وقع في سوريّا وأطاح بالشيشكلي، ولم تنجح الولايات المتّحدة في تحويل خطوط التابلاين إلى لبنان، فاضطرَّت لإيصاله إلى الموانئ السُّوريّة.
كذلك خطَّطت الولايات المتّحدة لانقلاب على رئيس الوزراء الإيرانيّ “مُحمَّد مُصدَّق” في عام 1953، إثر تأميم الأخير النَّفط الإيرانيّ بالكامل. فبعد أن وصل إلى رئاسة الوزراء عبر الانتخابات عام 1950، عمد إلى إلغاء كُلِّ امتيازات الشَّركة الإنكليزيَّة – الإيرانيَّة للنَّفط، وبدأ باستثماره بواسطة شركات وطنيَّة إيرانيَّة، الأمر الذي دفع وكالة المخابرات المركزيَّة الأمريكيَّة (CIA) إلى التَّخطيط لعمليَّة “أجاكس” التي أطاحت بـ”مُصدَّق” وأعادت الولايات المتّحدة لتسيطر على النَّفط الإيرانيّ بدلاً من الإنكليز.
فإن كانت الدّول الغربيّة قد دخلت المنطقة في بداية القرن الماضي عن طريق القوَّة العسكريّة المباشرة، على شكل انتداب واحتلال مباشر، فإنَّها في الألفيَّة الثّالثة ربطت معظم الدّول الشَّرق أوسطية بنفسها عبر اتّفاقيّات عسكريَّة واقتصاديَّة طويلة الأمد؛ فهي إلى جانب ذلك ترسِّخُ أقدامها فيها عبر المنظَّمات الإنسانيَّة والحقوقيَّة والاقتصاديَّة والشَّركات متعدِّدة الجنسيّات، التي تمنح مشروعيَّة على عمليّات نقل الثَّروات إلى بلدانها، عبر شبكة معقَّدة من العلاقات الاقتصاديَّة والاستثماريَّة، وتوفير التكنولوجيا المتقدِّمة الكفيلة بربط اقتصاديّات تلك البلدان بها، وإنشاء كيانات وشخصيّات مرتبطة بها وتعمل وفق ما تمليها عليها، تحت أسماء متعدّدة، من قبيل “التنمية الاقتصاديّة، التطوير والتَّحديث في البنى الاقتصاديَّة والإداريَّة، إعداد الكوادر المؤهَّلة، توفير المناخ الاستثماريّ، إقامة دورات تدريبيَّة وفق مناهج الإدارة الحديثة، … الخ”.
لقد تمكَّنت دول الشَّرق عبر نضال شعوبها من نيل استقلالها السِّياسيّ النّاجز؛ إلا أنَّها لم تتمكَّن من تحقيق الاستقلال الاقتصاديّ، ولو بشكل نسبيّ، فاضطرَّت إلى ربط نفسها باقتصادات إحدى الدّول الغربيّة، وحتّى الشَّرقية، لتحقِّقَ أدنى درجات التَّنمية الاقتصاديّة في بلدانها، رغم توفُّر الإمكانات الماديَّة والبشريَّة، ولكن سوء الإدارة وتسلُّط زمر عائليَّة وحزبيَّة صغيرة على مقدَّرات البلاد واستئثارها بالاقتصاد والسِّياسة؛ جعلها دولاً ضعيفة غير قادرة على مواكبة العصر أو السَّير نحو بناء اقتصاد وطنيّيتمتَّع بكُلِّ خصائص وصفات المقاومة والصمود أمام الهيمنة الاقتصاديَّة الرَّأسماليَّة الغربيّة. وهذا وجد تعبيراته الأكثر تدميراً في تخلُّفِ الصِحَّة والتَّعليم والثَّقافة. وكُلُّ حديث في ظِلِّ هذه الأوضاع عن الممانعة والمجابهة، يغدو حديثاً ممجوجاً لا معنى له، فغدت بلدان الشَّرق قابلة للانفجار والاهتزاز في أيَّ وقت كان، واندلاع ثورات ربيع الشُّعوب في العقد الثّاني من هذا القرن، لم يكن إلا نتيجة إرهاصات وتراكمات طويلة سبقتها.
ضمن نظام العالم الجديد الذي تسعى الولايات المتّحدة إلى التَّسويق له وفرضه على شعوب العالم، عبر الإعلام وممارسة الضغوط الاقتصاديَّة على النّامية والمتخلِّفة اقتصاديّاً. وصندوق النَّقد الدّوليّ والبنك الدّوليّ الذي تسيطر عليهما الولايات المتّحدة، وكذلك على معظم المؤسَّسات الماليَّة الدّوليّة مثل منظَّمة التِّجارة العالميَّة، تتحكَّم بواسطتها في انتقال الأموال بين مختلف دول العالم، إضافة أنَّ تلك الدّول عبر تلك المؤسَّسات الماليَّة العملاقة، تستقطب وتجذب معظم رؤوس أموالالدّول النّامية، وتستفيد منها في استثمارات إضافيَّة يعود ريعها لها، دون أن تتمكَّن الدّول صاحبة تلك رؤوس الأموال من استثمارها أو توظيفها في خدمة بلدانها. إضافة إلى ذلك فإنَّها أوهمت لمعظم المسؤولين وحكّام دول الشَّرق الذين يعملون على سرقة خيرات وثروات شعوبهم، بأنَّ مؤسَّساتها الماليّة ومصارفها هي الأكثر أماناً لتوديع أموالهم التي نهبوها من بلدانهم. ولكن سرعان ما تحجز على تلك الأموال في حال تمَّت الإطاحة بصاحب الأموال، كما حصل مع شاه إيران مُحمَّد رضا بهلوي بعد الثّورة الإسلاميَّة بقيادة الخميني، ولا تزال تلك الأموال محجوزة في المصارف الأمريكيّة.
إنَّ أحد أوجه الصراع الذي تخوضه الدّول الرَّأسماليَّة العالميَّة بقيادة الولايات المتّحدة؛ تتمثَّل في السَّيطرة على حركة رؤوس الأموال في مختلف دول العالم، وربط كُلِّ المؤسَّسات الماليّة بها. فالضربة التي وجَّهتها الولايات المتّحدة لبنك الاعتماد والتّجارة الدّوليّالذي أسَّسه حاكم الإمارات العربيَّة المتّحدة الرّاحل “الشّيخ زايد”، أودت به إلى الإفلاس، واتَّهمته بغسيل الأموال والتِّجارة بالأسلحة والرَّشاوى ودعم الإرهاب وبيع تكنولوجيا نوويَّة والتهرُّب الضريبيّ وتهريب ودعم الهجرة غير الشَّرعيَّة. إلا أنَّ السَّبب الرَّئيسيّ وراء توجيه تلك التُّهم إلى البنك، هو سعيه لتوظيف رؤوس الأموال الإسلاميَّة، ورغم أنَّ الشيخ زايد سدَّدَ العجز في الضربة الأولى التي وجَّهتها له الولايات المتّحدة، حيث وظف نحو /30/ مليار دولار أمريكيّ، إلا أنَّه لم يتمكَّن من تسوية أموره في الضربة الثّانية التي بلغ العجز فيه /60/ مليار دولار أمريكيّ.
كذلك لاتزال الولايات المتّحدة والدّولالغربيّة تلاحق مؤسِّس بنك “تقوى” الإسلاميّ وصاحبه “يوسف ندا” القياديّ في تنظيم الإخوان المسلمين العالميّ، وهو لا يزال يَمثُل أمام عِدَّةِ محاكم في سويسرا والنَّمسا والولايات المتّحدة، وهو متَّهم بتمويل تنظيم “القاعدة”، حيث حجزت على جميع الأموال المودَعة في البنك، وحجزت على جميع أمواله المنقولة وغير المنقولة. ووفق الرّواية الأمريكيَّة؛ أنَّ تنظيم الإخوان المسلمين استخدم المصرف في تمويل عملياته السِّياسيّة والعسكريّة في مختلف دول العالم، وحتّى أنَّه متَّهم بتمويل عمليَّة الهجوم على بُرجَي التِّجارة العالميّ في 11 سبتمبر/ أيلول عام 2001 في نيويورك.
ورغم صعود الصّين كدولة منافسة للولايات المتّحدة اقتصاديّاً وماليّاً؛ إلا أنَّ الأخيرة لا تزال تتحكَّم بالمفاصل الرَّئيسيَّة للاقتصاد العالميَّ وكذلك في حركة رؤوس الأموال، وهو ما يجعلها تتحكَّم بالسِّياسات الدّوليّة أيضاً، فهل سيكون لشعوب الشَّرق الأوسط عبر قواها الثَّوريَّة والدَّيمقراطيَّة كلمة الفصل وتمتلك القوَّة التي تؤهِّلُها لتقرير مصيرها والتحرُّر من الهَّيمنة الغربيّة وبناء تنمية اقتصاديَّة وبشريَّة وثقافيَّة تواكب العصر؟
هذا مرهون إلى حَدٍّ كبيرٍ بإحداث تغييرات بنيوية في هياكل الأنظمة الحاكمة والمحافظة في المنطقة بالدَّرجة الأولى.