تُركيّا ودبلوماسيّة تعويم الصّراع مع “الكُردستانيّ”
جميل رشيد
كثَّفت تركيّا من نشاطها الدِّبلوماسيّ والسِّياسيّ في الآونة الأخيرة مع عدد من القوى الإقليميَّة والدّوليَّة، بهدف توسيع عمليّاتها العسكريّة ضُدَّ حزب العُمّال الكُردستانيّ في إقليم كردستان العراق، واحتماليّة شَنِّ هجمات على مناطق شمال وشرق سوريّا، معلنة أنَّها تهدف للقضاء على حزب العُمّال، وتقويض الإدارة الذّاتيَّة، متذرِّعَةً بتأمين شريط حدودها الجنوبيّة من أيِّ “تهديدات إرهابيّ”، على حَدِّ زعمها.
يُدرِكُ كُلُّ متابع حثيث لتطوّرات الصراع الدّائر بين حزب العُمّال الكُردستانيّ وتركيّا منذ أغسطس/ آب 1984، أنَّ تركيّا تشُنُّ باستمرار العمليّات العسكريّة ضُدَّ الحزب في الدّاخل والخارج، وهي سلسلة طويلة من الحملات العسكريّة، ولعلَّ أوسعها كانت العمليَّة التي أطلقت عليها اسم “الصندويشة” في خريف 1992، حيث شاركت معها قوّات كُلٍّ من الحزب الدّيمقراطيّ الكُردستانيّ والاتّحاد الوطنيّ الكُردستانيّ، إلا أنَّ قوّات حزب العُمّال خرجت من العمليَّة أقوى ممّا سبق، رغم تكبّدها خسائر كبيرة، إلا أنَّها لم تخسر أيّاً من مواقعها العسكريّة في شمال العراق.
كذلك مُنِيَ الجيش التُّركيّ بخسائر فادحة في الأرواح والعتاد خلال الحملة التي شَنَّها على مواقع الحزب في منطقة “الزّاب” بشمال العراق في فبراير/ شباط عام 2007، وتَمَّ أسر عِدَّةِ جنود أتراك، إلا أنَّ الحزب أفرج عنهم لاحقاً.
ونشرت وسائل إعلام تركيّة مقابلات مع الجنود والضبّاط المُفرَج عنهم، وأكَّدوا أنَّ الحزب تعامل معهم بشكل حسن، وهذا ما حدا بالدَّولة التُّركيّة إلى اعتقال هؤلاء الجنود، واعتبروا ما نشروه للإعلام “إهانة كبيرة للدَّولة التُّركيّة” وأنَّ “شرف الدَّولة تمرَّغَ بثلوج شمال العراق”، والعنجهيّة التُّركيّة لا تقبل أن يُفرج عنهم من قبل قوّات كُرديّة، حتّى قال البعض منهم، “كنت أتمنّى الموت لهم، على أن يًتُمّ الإفراج عنهم من قبل المقاتلين الكُرد”.
حاولت الدَّولة التُّركيّة أن تنتقمَ لخسارتها في “الزّاب”، فعاودت الكَرَّةَ مَرَّةً أخرى، وشَنَّت حملة أخرى عام 2008، إلا أنَّها أيضاً مُنِيَت بالفشل.
أقامت تركيّا أوَّلَ قاعدة عسكريَّة لها في شمال العراق منطقة “كاني ماسي” عام 1992، واستمرَّت في بناء قواعد أخرى حتى وصل عددها إلى أكثر من /40/ قاعدة في مختلف مناطق إقليم كردستان العراق، وأكبرها قاعدة “بعشيقة”، والهدف منها القضاء على نشاطات حزب العُمّال الكُردستانيّ، والسَّيطرة على إقليم شمال العراق وتهديد حكومته. وتتَّخذ تركيّا من وجود قواعد للعُمّال الكُردستانيّ ذريعة له في السَّيطرة على الإقليم، وهو ما أفصح عنه المسؤولون الأتراك في أكثر من مناسبة، حيث قال أردوغان قبل أيّام إنَّ هدف تركيّا من تلك العمليّات إنشاء شريط أو حزام أمنيٍّ بعمق من /30/ إلى /40/ كم على طول الشَّريط الحدوديّ مع العراق وسوريّا، وهي إشارة واضحة لنيَّته في احتلال تلك المنطقة، وتنفيذ ما يُسمّى “الميثاق الملّي” على الأرض.
الفشل الذَّريع للعملية التُّركيّة المستمرّة في شمال العراق منذ أكثر من عامين تحت اسم “المخلب”، والثّانية تحت اسم “المخلب – القفل”، هو ما يدفعها إلى إشراك أطراف إقليميَّة في حربها ضُدَّ حركة حزب العُمّال والشَّعب الكُرديّ بشكل عام. فالضربات التي وجَّهتها قوّات الكريلا ضُدَّ مواقع الجيش التُّركيّ في الآونة الأخيرة، وتكبيدها خسائر فادحة، حتّى وصلت إلى إزالة مواقع ونقاط أساسيَّة كانت قد تمركزت فيها، ولَّدت أزمة عميقة داخل الأوساط السِّياسيّة والعسكريّة التُّركيّة، وانعكست أيضاً ضمن الأوساط الاجتماعيَّة، عبرزيادة الانقسام المجتمعيّ بين ما هو راضٍ من العمليّات العسكريَّة ومن يعارضها، إضافة إلى سيادة حالة من التذمُّر وعدم الرِّضا من سياسات حكومة حزب العدالة والتنمية وحزب الحركة القوميّة إزاء هذا الصراع الدّائر مع الحركة منذ عقود طويلة، وعدم تمكُّن الحكومات المتعاقبة من إيجاد حَلٍّ له.
الجولات المكوكيَّة للمسؤولين الأتراك في المنطقة، وفي عدد من الدّول الأجنبيّة، هدفها الأوَّل الضغط عليها لمساعدتها في انتشالها من حالة الفشل في صراعها مع حركة حزب العُمّال الكُردستانيّ. فزيارة وفد من وزارة الخارجية التُّركيّة يترأّسه “حقّان فيدان”، لم يحقّق النتائج التي كانت ترغب بها الدَّولة التُّركيّة.
فرغم الطابع البروتوكوليّ للزّيارة، فإنَّ هدف الزّيارة، كما أعلنت الخارجيَّة الأمريكيَّة، هو بحث المسائل المتعلِّقة بإعادة العلاقات الأمريكيَّة –التُّركيّة إلى مسارها الصحيح، وليس تلبية الشُّروط التُّركيّة. وأعلن وزير الخارجيَّة الأمريكيّ “أنتوني بلينكن” عقب لقائه مع “فيدان” أنَّ بلاده لم تقبل بالشَّرط التُّركيّ في قطع الدَّعم عن قوّات سوريّا الدّيمقراطيّة وإنهاء شراكتها معها، وهو ما يُعَدُّ صفعة قويَّة للوفد التُّركيّ. وكُلُّ ما ترغب به الولايات المتّحدة إبعاد تركيّا عن روسيّا، وإعادتها إلى حظيرة الأطلسيّ، ودفعها للعب دَورٍ فعّال في أوكرانيا ضُدَّ روسيّا، خاصَّةً بعد أن وافقت– مرغمة –على قبول مملكة السّويد في عضويَّة “النّاتو”.
الطُعمُ الذي ألقته الولايات المتّحدة أمام تركيّا في الموافقة على توريد قطع غيار طائرات “إف – 16″، ومن ثُمَّ استقبالها الرَّئيس الأوكرانيّ “زيلينسكي”؛ فجَّرَ الغضب الرّوسيّ ضُدَّها، حيث صرَّحت المتحدِّثة باسم الخارجيَّة الرّوسيَّة “ماريا زاخاروفا” بأنَّ تركيّا تسعى لتزويد أوكرانيا بالطائرات المُسيَّرة وأنظمة دفاع جوّيٍّ، وهدَّدَت تركيّا في سوريّا والعراق عبر تحريك الجبهات ضُدَّها، وهو ما يشير إلى احتماليَّة أن تقف روسيّا ضُدَّ أيَّ محاولة تركيّة في شَنِّ عمليَّة عسكريَّة واسعة في سوريّا وحتّى في العراق مستقبلاً.
تُعوِّلُ تركيّا أكثر على بغداد في وضع تحضيرات مكثَّفة لعمليَّتها في شمال العراق، عبر محاولتها إشراك الجيش العراقيّ فيها. وتحاول تركيّا إجراء تفاهمات سياسيَّة وعسكريَّة مُسبَقة، حيث زار العديد من المسؤولين العراقيّين أنقرة، من بينهم مستشار الأمن القوميّ العراقيّ “قاسم الأعرجي”، وأجرى مباحثات أمنيَّة وسياسيَّة حول العمليَّة والتَّعاون بين البلدين. واليوم سيزور وفدٌ تركيٌّ كبير يضمُّ وزيرَيْ الخارجيَّة والدِّفاع إضافة إلى رئيس جهاز الاستخبارات العاصمة العراقيَّة بغداد، بغرض وضع اللَّمسات الأخيرة على مخطَّط العمليَّةالعسكريّة التُّركيّة المرتَقَبة، ومدى مساهمة الجيش العراقي فيها، حيث استبقت قطعات من الجيش العراقيّبالانتشار في محيط مدينة “دهوك”، رغم زعمها أنَّها ستنتشر على الحدود مع تركيّا.
تهدف تركيّا إلى تحقيق عِدَّةِ أهداف من عمليَّتها العسكريّة المزعومة، فهي لا تتوخّى منها فقط محاربة حزب العُمّال الكُردستانيّ، بل تسعى إلى فرض سيطرتها على الحكومة العراقيَّة عبر توقيع اتّفاقيّات اقتصاديَّة من شأنها تقييد حُرّيّتها وفرض المشروع الاحتلاليّ التُّركيّ المُسمّى “طريق التنمية” عليها، وتطلق أحياناً عليه اسم “طريق الحرير التُّركيّ” على غرار المشروع الصّينيّ “طريق الحرير” أو مشروع “الحزام والطريق”.
إلا أنَّ موقف حكومة إقليم كردستان العراق إزاء العمليَّة العسكريّة التُّركيّة، يُعتَبر النُّقطة المفصليَّة التي تُعوِّل عليها تركيّا، حيث ثَبُتَ من خلال كُلِّ العمليّات العسكريّة السّابقة أنَّها لا تستطيع تحقيق أيَّ نجاح فيها دون إشراك قوَّة من إقليم كردستان، وهو ما يُدركه القريب والبعيد. إنَّ تحرُّكات ومواقف حكومة إقليم كردستان، وخاصَّةً قيادة الحزب الدّيمقراطيّ الكُردستانيّ، للأسف الشَّديد، متناغمة إلى حَدٍّ كبير مع الرَّغبات التُّركيّة، وتُبدي قيادة قوّات بيمشركة الدّيمقراطيّ الكُردستانيّ استعدادها لمشاركة الجيش التُّركيّ في عمليَّة عسكريَّة ضُدَّ بني جلدتها، وهي الآن تشارك في تلك العمليّات منذ سنوات، سعياً منها لتحقيق أغراض حزبيَّة ضيّقة، ويمكن تلمُّس هذا الموقف المتضامن مع تركيّا من خلال زيارة مسؤولي الإقليم لأنقرة، وخاصَّةً الرَّئيس “نيجيرفان بارزاني” في الآونة الأخيرة، لتنسيق المواقف ضُدَّالعُمّال الكُردستانيّ.
والسؤال الرَّئيسيّ الذي يَطرحُ نفسه بقوَّة؛ ما هي درجة تحضيرات قوّات كريلا حزب العُمّال الكُردستانيّ لمواجهة العمليَّة العسكريّة التي تُخطِّطُ لها تركيّا بعمق؟ وهل تكفي الطرق والأساليب القديمة لإحباطها؟ وهل ستلجأ إلى الضرب في العمق التُّركيّ وتوجيه ضربات اجتراحيّة قويَّة وقاصمة لتركيّا، يمكن لها أن تَهُزَّ الرَّأي العام وتدفعه للضغط على حكومته لوقف عمليّاتها العسكريّة ضُدَّ الحركة والكُرد بشكل عام؟
الثّابت خلال السَّنوات الأربعين الماضية من كفاح حزب العُمّال الكُردستانيّ أنَّه امتلك خبرة كبيرة في التصدّي واحتواء الضربات التُّركيّة، على العكس من ذلك؛ برهنت أنَّها قادرة على توجيه ضربات مؤلمة للجيش التُّركيّ، يكون لها ارتداداتها في الدّاخل التُّركيّ على المستويات السِّياسيّة والاجتماعية والاقتصاديَّة، وكُلُّ الادّعاءات التُّركيّة أنَّها قادرة على وضع نهاية للحزب ونشاطه العسكريّ والسِّياسيّ، ما هي إلا كذبة ممجوجة لم تعد تنطلي على أحد، الكذبة التي تختبئ خلفها كُلُّ الحكومات التُّركيّة.ويبدو أنَّ أردوغان ودولت باهجلي يُعِدّون عُدَّتَهم للاستثمار في العمليَّة وتوظيف نتائجها في الانتخابات المحلّيّة المزمع إجراؤها نهاية هذا الشَّهر. إلا أنَّ قوَّةَ مقاومة كريلا الكُردستانيّ، مع الحضور القويّ لـ”حزب المساواة الشَّعبيَّة والدّيمقراطيّة/DEM” ومشاركته الفعّالة في الانتخابات، بالتَّأكيد ستُغيّر المعادلات السِّياسيّة والعسكريّة، ورُبَّما تقلب الطاولة على أردوغان وفريقه وحلفائه.