الإئتلافُ السُّوريُّ وسِياسَةُ التَّماهي مع الغير
جميل رشيد
تتشابك أكثر فأكثر خيوط الأزمة السُّوريّة بعد مرور ثلاثة عشر عاماً على اندلاعها، في ظِلِّ سباق الأطراف المحلّيَّة والدّوليّة للحفاظ على الوضع القائم، دون أن تلوح في الأفق أيَّة تباشير بحلول سياسيّة تضع نهاية لها.
اللّاعبون الأساسيّون في الأزمة، من المعارضة والحكومة السُّوريّة، وكذلك الأطراف الإقليميَّة والدّوليَّة، لا تنفكُّ عن مواصلة التهرُّب من استحقاقات الحَلِّ، وهي في نهجها وسلوكها اليوميّ بعيدة كُلَّ البعد عن التفكير ولو بأدنى الحلول، حتّى باتت بعض منها تعمل على الضُدِّ من المصلحة الوطنيَّة السُّوريّة، لتحمل أجندات أقلُّ ما يُقالُ عنها أنَّها “لا وطنيَّة”، وتعادي الشَّعبالسُّوريّ وتطلُّعاته نحو وطن آمن وسالم.
كتب رئيس ما يُسمّى الإئتلاف السُّوريّ المدعو “هادي البحرة”، قبل أيّام على حسابة في منصَّة “ْX”، “تويتر” سابقاً، أنَّهم في الإئتلاف سيوقفون كُلَّ أنشطتهم وعملهم ضُدَّ الحكومة السُّوريّة، وسيحوّلونه لإنهاء الإدارة الذّاتيّة في شمال وشرق سوريّا.
يبدو للوهلة الأولى أنَّ ما يقوله “البحرة” ليس بجديد إن عُدنا بالذّاكرة إلى أفعال الإئتلاف قبلها، ومنذ أن ارتمى في الحضن التُّركيّ، حيث كان– ومازال – شغله الشّاغل تنفيذ السّياسةالتُّركيّة على الأراضي السُّوريّة، وتبرير الاحتلال التُّركيّ وشرعتنه،وبكُلِّ الوسائل، وتبرئته من كُلّ الأعمال والانتهاكات التي تمارسها تركيّا والمرتزِقة التّابعين لها وللإئتلاف، ومنذ دخول أوَّلِ جنديِّ تركيّ إلى الأراضي السُّوريّة.
إنَّ ما قاله “البحرة”، له تفسيران لا ثالث لهما؛ أوَّلهما؛ أنَّ الإئتلاف، وبرعاية تركيّة، دخل في مساومات مع الحكومة السُّوريّة، حول ترتيبات أمنيّة معيَّنة، هي بالتَّأكيد لصالح الحكومة السُّوريّة، بعد أن وصل الإئتلاف إلى حالة يُرثى لها، إثر تقلص الدَّعم الدّوليّ له، وصراعاته الدّاخليَّة حول المصالح الشَّخصيَّة والحزبيَّة، فضلاً عن تحوّل معظم الفصائل العسكريَّة إلى مرتزِقة وإرهابيّين، ترتكب مختلف الموبقات في الأراضي السُّوريّة، وغدا هَمُّها الوحيد تهريب المُخدِّرات والقتل والخطف وجباية الأموال وطلب الفدى الماليّة، وهي في الأساس ابتعدت منذ سنوات عن القتال مع قوّات الحكومة السُّوريّة، وتَمَّ تدجينها طيلة الفترة الماضية، بعد أن امتهنت الارتزاق والعمل وفق متطلَّبات المصالح التُّركيّة، واندمجت مع تلك الحالة، بل أصبحت جزءاً منها. والإئتلاف منذ فترة طويلة عمل على ترويض تلك الفصائل، لتغدو مهيَّئة لمرحلة المصالحة مع الحكومة السُّوريّة وحتّى الاندماج مع قوّاتها، رغم تبجّحه بالشِّعارات المتناقضة مع أفعاله على الأرض. إلا أنَّ هذا التَّصريح الأخير أسقط ورقة التوت الأخيرة عنه، لتظهر حقيقته بكُلِ جلاء. فهو في النِّهاية سيقبل الشروط التي تفرضها الحكومة السُّوريّة، دون أيّ اعتراضات. فلم لا يملك أيّاً من الأوراق، بل تحوَّل إلى ألعوبة ودمية بيد القوى الإقليميّة وخصوصاً تركيّا وقطر، وفقد اعتباره لدى معظم السُّوريّين، ولم يَعُد أحد يُعوِّل عليه في تحقيق أيّ إنجاز أو انتصار، وغدا عالة على السُّوريّين، ووصل إلى حالة الموت السريري، ومن شيم وعادات المنطقة أنَّ إكرام الميّت دفنه.
تصريح “البحرة” هو ترديد مباشر لما تقوله وتريده الدَّولة التُّركيّة، وبشكل مباشر، قالها دون أيّ شعور بالخجل. فالكُلُّ يعرف كيف ضغطت تركيّا وجماعة الإخوان المسلمين في تعيينه رئيساً للإئتلاف، وقول رئيس ما يُسمّى “الحكومة المؤقَّتة” المدعو “عبد الرَّحمن مصطفى”، بأنَّهم “سيفرضون تعيين البحرة بالصرماية”؛ خير دليل على امتثال “البحرة” للإملاءات التُّركيّة، إذا ما أدركنا أنَّ “مصطفى” يُعَدُّ ساعي البريد بين الحكومة التُّركيّة والإئتلاف، وعبره تصل كُلّ الشّروط التُّركيّة للإئتلاف. وتبادل الأدوار بين شخصيّات محدودة ضمن الإئتلاف على زعامته وخاصَّةً من صفوف جماعة الإخوان المسلمين؛ يشبه إلى حَدٍّ بعيد إعادة تدوير نفس المواد، ولتنتج المادة نفسها، فقط تتغيَّر الواجهة دون تغيير المحتوى.
التَّفسير الثّاني حول تصريح “البحرة”، أنَّ الإدارة الذّاتيّة باتت تمتلك من القوة، ما يمكّنها من سحب البساط تحت الإئتلاف الذي طالما استأثر، ومنذ تأسيسه، بحق تمثيل المعارضة السُّوريّة، ورفض أيَّ جِسمٍسياسيّ خارج مظلَّته. فالإدارة، ومن خلال مجلس سوريّا الدّيمقراطيّة، فتح الآفاق أمام إشراك القوى المجتمعيَّة والسِّياسيّة الدّيمقراطيّة في عمليَّة صياغة مشروع حَلٍّ سياسيٍّ للأزمة السُّوريّة، وحقَّق انفتاحاً كبيراً على الدّاخل والخارج، لإشراك الجميع في مشروع الحَلّ الوطنيّ السُّوريّ، دون أن يدخل تحت تأثير أيّ من القوى. مخاوف “البحرة” وإئتلافه تنبع من هذه المسألة بالذّات، وهي تتناغم مع التَّصريحات والمواقف العدائيّة التُّركيّة للإدارة الذّاتيّة. حتّى أنَّ جماعة الإخوان المسلمين برَّرت عدوان الاحتلال التُّركيّ على مناطق شمال وشرق سوريّا، وفي بداية احتلال جرابلس، الباب، إعزاز، عفرين، سري كانيه/ رأس العين وكري سبي/ تل أبيض.
انتهاج الإدارة الذّاتيّة سياسة وسطيَّة خلال الصراع الدّائر في سوريّا، وحفاظها على أمن واستقرار مناطقها، خاصَّةً بعد تحريرها من الإرهاب؛ رفع من مصداقيَّتها لدى جميع مكوّنات المنطقة، وكذلك القوى السِّياسيّة الوطنيّة والدّيمقراطيّة، ما حوَّلها إلى منطقة جذب واستقطاب لها، ورُبَّما تتحوَّل في قادم الأيّام إلى منصَّةٍسياسيّة مستقلِّة؛ تحظى بالاعتراف والتأييد الدّوليّ، وهو لمَّح إليه المسؤولون الطليان أثناء استقبالهم وفداً من الإدارة الذّاتيّة قبل أيّام. حينها ستتحوَّل المنصَّةُإلى قوَّةٍ تقصم ظهر الإئتلاف وكُلَّ داعميه، وهو ما يتخوَّف منه “البحرة” مسبقاً ويحتسب له من خلال تصريحه، ويسعى إلى خلط الأوراق مجدَّداً، ليصطاد بالمياه العكرة.
والسّؤال الذي يطرح نفسه هنا؛ هل فعلاً أنَّ الإئتلاف ومن خلال مرتزقته، قادر على مواجهة الإدارة الذّاتيّة وتقويضها، مثلما يحلم “البحرة” وكُلُّ الجوقة المحيطة به، خصوصاً من الإخوان المسلمين؟
إنَّ الحالة المترهِّلة والصراعات البينيَّة التي يمرُّ بها الإئتلاف، وخروج معظم فصائل المرتزقة عن طاعته، ومنذ اليوم الأوَّل للإعلان عنه، تفتقدهكُلُّ مُقوِّمات فتح مواجهة سياسيّة وعسكريَّة مع الإدارة الذّاتيّة التي تبدو في أفضل أحوالها السِّياسيّة والعسكريَّة، بعدما استوعبت كُلَّ الهجمات والاعتداءات التُّركيّة المستمرّة عليها طيلة أكثر من أربع سنوات. فالإئتلاف غير قادر على تحريك ولو جبهة واحدة ضُدَّ الإدارة وقوّات سوريّا الدّيمقراطيّة في ظِلِّ الوضع الرّاهن الذي يمرُّ به، فهو بالتّالي يراهن على سيّده التُّركيّ في الإعداد والتَّخطيط لمواجهة مفتوحة ضُدَّ الإدارة، وهذه الحالة ليست بالطارئة والجديدة على الإدارة، لطالما امتحنت الحقد التُّركيّ تجاهها.
الاحتمال الأكثر قرباً للحقيقة أنَّ الإئتلاف أيضاً بات جزءاً من التَّوافق الذي تَمَّ خلال اجتماع أستانا الأخير الذي عقد في يناير/ كانون الثّاني الماضي، وتوصَّلت فيه الأطراف الثَّلاثة روسيّا، تركيّا وإيران، ومن خلال بيانها الختامي، إلى سعيها لتقويض الإدارة الذّاتيّة، وبكُلِّ الوسائل، وكانت الحكومة السُّوريّة والإئتلاف أيضاً ضمن ذاك الاجتماع. ورغم أنَّ تلك التفاهمات ترجمت على أرض الواقع من خلال الاعتداءات والهجمات التُّركيّة المستمرّة على مناطق الإدارة، وكذلك هجمات بعض الأطراف المرتبطة بالحكومة السُّوريّة، والميليشيات الإيرانيّة من خلال هجماتها بالطائرات المُسيَّرة والصَّواريخ على قواعد قوّات سوريّا الدّيمقراطيّة والتَّحالف الدّوليّ؛ فإنَّ الإدارة صمدت واستوعبت جميع تلك الهجمات، وخرجت أقوى من ذي قبل، رغم الخسائر التي لحقت بالبُنية التَّحتيَّة من تدمير للمنشآت الحيويَّة في المنطقة. فالضربة التي لا تقتلك تقوّيك، مثلما يقول المثل الشَّعبيُّ.
المشهد السِّياسيّ والعسكريّ في سوريّا لن يحتمل المزيد من التَّصعيد، ومن قبل أيِّ طرف كان، وكان أجدر بالإئتلاف الذي فقد مصداقيَّته أمام الشَّعب السُّوريّ، أن يبادر إلى مراجعة نفسه والعودة إلى الصفِّ الوطنيّ والعمل مع الإدارة الذّاتيّة في بناء مشروع سياسيّ وطنيّ لحَلِّ الأزمة السُّوريّة، إن كان سيَّد نفسه وقراره، لا أن يعاديها.
يجب أن تأخذ الإدارة الذّاتيّة تصريح “البحرة” على محمل الجَدِّ، وتضعه في مكانه الصَّحيح، دون المبالغة في تفسيره بأنَّه تهديد مباشر، ولكنَّه في ذات الوقت يكشف خطط داعميه ضُدَّها، وهو رُبَّما يُعَدُ مشروعاً عدائيّاً طويل الأمد، يسعون من خلاله إلى استنزاف قوى وطاقات المنطقة الماديَّة والعسكريَّة والسِّياسيّة، ولكنَّ الثّابت أنَّ أيَّ مشروع يستند على الخارج لن يُكتبَ له النَّجاح، فالشَّعب السُّوريّ اختبر كُلَّ الأساليب، وخاصَّةً في شمال وشرق سوريّا، وبات يملك نوعاً من “المناعة والممانعة” الذّاتيّة، وابتكر أدوات حماية نفسه اعتماداً على نفسه، وهو السِّلاح الأمضى والأقوى.