الصّراعُ على المعابِرِ في سوريّا – تل كوجَر نموذجاً
جميل رشيد
تناقلت بعض وسائل الإعلام عن قرب افتتاح معبر “تل كوجر/ اليعربيَّة” الواقع في مناطق الإدارة الذّاتيّة على الحدود السُّوريّة–العراقيّة، لكن لم تؤكِّدهُ أيُّ جهة رسميَّة، إن كانت الإدارة الذّاتيّة في شمال وشرق سوريّا، أو من الجانب العراقيّ أو الحكومة السُّوريّة.
أُغلق معبر تل كوجر في شهر نوفمبر/ تشرين الثّاني من عام 2021، وإلى الآن هو مغلق ولم يفتح طيلة الفترة الماضية، رغم الظروف الإنسانيَّة الصَّعبة التي تَمُرُّ بها مناطق شمال وشرق سوريّا وحاجتها الماسَّة لوصول المساعدات الإنسانيّة عبره.
لا شكَّ أنَّ معبر تل كوجر، وكُلُّ المعابر في سوريّا، بما فيها تلك التي خرجت من سيطرة الحكومة السُّوريّة، تخضع لشروط سياسيّة في عمليَّة فتحها وإغلاقها، واستخدمتها الأطراف المسيطرة عليها أداة في ابتزاز خصومها، وأوَّلها الشَّعب السُّوريّ المغلوب على أمره.
إنَّ معظم المعابر الواقعة تحت سيطرة دولة الاحتلال التُّركيّ والمرتزِقة التّابعين لها، غدت نقاطاً لعبور الإرهابيّين والأسلحة والمُخدِّرات وكُلّ أنواع الممنوعات. ولم تعد تلك المعابر وحدَها تفي بالغرض؛ فعمدت إلى افتتاح معابر غير شرعيَّة، مثل ما يُسمّى بمعبر “حوّار كلّس” في إعزاز، وكذلك معبر “حمّام” في منطقة عفرين المُحتلَّة، لتنقل دولة الاحتلال التُّركيّ عبرها قوّاتها وأسلحتها وكذلك مرتزِقتها.
وقوع المعابر في أيدي المرتزقة التي تحوَّلت إلى عصابات نهب، مكَّنها من تمويل نفسها واستخدام موارد وعوائد تلك المعابر في شراء الأسلحة والذَّخيرة وشراء الذِّمم، إضافة إلى الاستفادة الشَّخصيَّة لزعماء تلك العصابات، وليبدأ فصل جديد في سوريّا، ألا وهو الاقتتال من أجل السَّيطرة على المعابر، خاصة بعد أن وصلت إيرادات المعابر إلى ملايين الدّولارات يوميّاً. الصراعات التي شهدها كُلّ من معبر “السَّلامة” و”باب الهوى” بين مختلف العصابات التي تعاقبت في السَّيطرة عليهما منذ بداية الأزمة السُّوريّة وحتّى الآن، خير دليل على أنَّ المعابر أصبحت تفتح شهيَّة كُلّ الفصائل، والكُلّ بدأ يفكر بالاستحواذ والسَّيطرة عليها دون غيرها.
إنَّ دولة الاحتلال التُّركيّ استخدمت تلك المعابر وكأنَّها جزء من أراضيها، ولم تبدِ ولو أدنى اهتمام للسّيادة السُّوريّة، بل وضعتها في خدمة مشاريعها الاحتلاليّة في سوريّا. فرغم أنَّ معبر “باب الهوى” شكليّاً تسيطر عليه “هيئة تحرير الشّام/ جبهة النُّصرة سابقاً” الإرهابيّة؛ إلا أنَّ السَّيطرة الفعليَّة هي لدولة الاحتلال، وكُلَّ يوم تنقل قوّاتها عبرها، دون أن تتمكَّنَ “الهيئة” من اعتراضها، بل تجد فيها سنداً وظهيراً لها، لتنتشر في قواعدها الاحتلاليَّة في إدلب وريفها. وكذلك الأمر في عفرين، إعزاز وجرابلس وسري كانيه/ رأس العين وكري سبي/ تل أبيض.
استخدم تنظيم “داعش” الإرهابيّ معبر كري سبي/ تل أبيض منفذاً رئيسيّاً له في تهريب النَّفط السُّوريّ المسروق وبيعه إلى سوريّا بأبخس الأسعار، إضافة إلى إدخاله عناصره الإرهابيَّة القادمة من كُلِّ أنحاء العالم عبر الأراضي التُّركيّة، كما نقل عبره جرحاه للعلاج في مشافيها. وكانت أبواب المعبر مفتوحة على مصراعيها حينها من الجانب التُّركيّ، والتِّجارة بينهما في أوجها. إلا أنَّها عمدت إلى إغلاقه بإحكام غداة تحرير وحدات حماية الشَّعب للمدينة والمعبر من التَّنظيم الإرهابيّ في يونيو/ حزيران 2015.
كذلك تعاملت الدّول الفاعلة في الأزمة السُّوريّة بانتقائيَّة مع آليّة فتح المعابر وإغلاقها أمام تدفّق المساعدات الإنسانيّة للسُّوريّين داخل سوريّا. فرغم أنَّ مناطق شمال وشرق سوريّا تعاني من إرهاب دولة الاحتلال التُّركيّ والحصار مفروض عليها من كُلّ الجهات؛ فإن فتح معبر تل كوجر يغدو ضرورة حيويّة لمواطنيها من النّاحية الإنسانيّة بالدّرجة، خاصَّةً بعد الاعتداءات التُّركيّة الأخيرة. إلا أنَّ روسيّا عمدت إلى استخدام حقّ النَّقض (الفيتو) ضُدَّ فتحه في مجلس الأمن الدّوليّ، فيما وافقت على فتح معبر “باب الهوى” وتمديد آليّة تدفُّق المساعدات عبره عِدَّةَ مرّات، رغم أنَّه واقع تحت سيطرة “هيئة تحرير الشّام” الإرهابيّة، ما يشير إلى تبادل للمصالح بينها وبين تركيّا وليدفع السُّوريّين فاتورتها وأكلافها.
مقابل هذا الصَّلف الرّوسيّ؛ لم تتحرَّك الولايات المتّحدة الأمريكيّة في استخدام نفوذها القويّ داخل مجلس الأمن الدّوليّ لافتتاح معبر تل كوجر، بل غضَّت الطرف عن الفيتو الرّوسيّ، وهي في صمتها تحاول عدم إزعاج حليفتها المدلَّلة لديها، دولة الاحتلال التُّركيّ، حيث ترى الأخيرة أنَّ المعبر يُعَدُّ رئة تتنفّس عبرها الإدارة الذّاتيّة وما يحقِّق لها انفتاحاً متزايداً ومشروعاً على العالم، أو أنَّ افتتاحه يضفي نوع من المشروعيَّة على الإدارة، وهو ما لا ترغب به تركيّا، وتعارضه، بل تحاربه بكُلّ الوسائل.
من جانبها الحكومة السُّوريّة أيضاً تجاهلت حاجة سُكّان المنطقة في فتح المعبر من الجانب الإنسانيّ، وكان من المفترض ألا تنجرَّ إلى تسييس الموقف وتضع شروطاً سياسيّة لفتحه،بل كان الأجدر بها أن تتحرَّك لإقناع روسيّا لفتح المعبر، على اعتبار أنَّه معبر شرعيّ ويخضع لمعايير القانون الدّوليّ. والأنباء التي تداولها الإعلام في فترات سابقة عن مفاوضات بين الإدارة الذّاتيّة والحكومة السُّوريّة حول اتّباع آليَّة مشتركة لفتحه، يبدو أنَّها لم تثمر، حيث وضعت الحكومة شرط رفع العلم السُّوريّ على المعبر، وتقاسم عائداته بينهما، فيما اشترطت الإدارة الذّاتيّة أن يُرفع علمها إلى جانب العلم السُّوريّ، وهو ما رفضته الحكومة السُّوريّة، رغم أنَّه كان حلّاً وسطيّاً وتوافقيّاً كان يمكن أن يكون دافعاً للأطراف الدّوليَّة لتتشجع في المساعدة لفتحه وليس إغلاقه، حيث أنَّ قرار الفتح والإغلاق غدا دوليّاً أكثر ممّا سوريّ داخليّ.
إنَّ ما تردَّدَ في الآونة الأخيرة حول شروع روسيّا في تنفيذ مخطَّط لها لإعادة معبر “باب السَّلامة” ووضعه تحت سيطرة الحكومة السُّوريّة بالاتّفاق مع دولة الاحتلال التُّركيّ، على أن يتضمَّن فتحاً جزئيّاً لطريق عفرين – حلب أمام التِّجارة ونقل الأشخاص، وكذلك الاتّفاق مع الإدارة الذّاتيّة في مناطق الشَّهباء للسَّماح بمرور الشّاحنات المحمّلة بالبضائع التُّركيّة بالدَّرجة الأولى، على أن تكون روسيّا الضّامنة لعدم وقوع أيّ انتهاكات على الطريق لتصل تلك البضائع إلى مدينة حلب، خاصَّة أن عين تركيّا دائماً وأبداً على حلب. ولسلامة الطريق؛ اقترحت روسيّا أن تُسيّر دوريّات من قوّاتها العسكريّة مع القوافل التِّجاريّة في البداية، ثُمَّ تَحُلُّ محلَّها لاحقاً قوّات الحكومة السُّوريّة بعد أن يثق الطرفان بجدوى العمليّة. كُلّ هذا السيناريو أعدَّت له روسيّا دون إشراك إيران فيه، بدليل عدم نيّتها فتح الطريق الدّوليّ القادم من إعزاز وعفرين بالكامل عبر مناطق سيطرة الميليشيات الموالية لإيران في بلدَتي “نبُّل والزّهراء” وتمريره من مناطق الشَّهباء بدلاً من ذلك. وفعلاً جرت بعض التَّرتيبات والتَّحضيرات أوَّليّة لوضع المخطَّط قيد التَّنفيذ بتحرّك قوّات الحكومة السٌّوريّة في بعض مناطق سيطرتها، إلا أنَّه لم يُكمل، ولم تعلن عن التّفاصيل الكاملة له.
كما أنَّ معبر “نصيب” في درعا هو الآخر بات يخضع لشروط سياسيّة من قبل الأردنِّ وباقي الدّول العربيَّة، خاصَّةً بعد الاتّهامات الموجَّهة إلى الحكومة السُّوريّة باستخدامه لتهريب المُخدِّرات وإيصاله إلى دول الخليج العربيّ، ولهذا السَّبب ظَلَّ يُغلق ويُفتح بين كُلّ فترة وأخرى، ولكنَّه لم يحقَّق الفائدة المرجوَّة منه، في التَّبادل التِّجاريّ بين البلدين، خاصَّةً أنَّسوريّا تعاني من أزمة اقتصاديّة خانقة بفعل العقوبات التي فرضتها عليها الولايات المتّحدة الأمريكيّة عبر قانون “قيصر” ومؤخَّراً قانون “معاقبة التَّطبيع”.
من جانبه معبر “سيمالكا/ فيش خابور” المؤقَّت الذي افتتح لأوَّل مَرَّة عام 2013 بعد الاتّفاق الذي عُقِدَ بين “مجلس شعب غرب كردستان” و”حكومة إقليم كردستان العراق” للاستخدام في المجال الإنسانيّ والإغاثيّ، وكذلك لنقل الجرحى والمرضى. وإلى الآن تدخل من خلال المعبر وفود أجنبيَّة عديدة لزيارة مناطق روجآفا وشمال وشرق سوريّا للاطّلاع على الأوضاع فيها عن كثب. ورغم أنَّ المعبر افتتح لأغراض إنسانيَّة؛ إلا أنَّه هو الآخر بات يخضع للمزاج السِّياسيّ لحكومة إقليم كردستان، وخاصَّةً من قبل الحزب الدّيمقراطيّ الكُردستانيّ، حيث يعمد بين الفينة والأخرى إلى إغلاقه، تماشياً مع الضغوط التي تمارسها عليها دولة الاحتلال التُّركيّ في إغلاق كُلّ المسامات أمام الإدارة الذّاتيّة.
ولا يخفى على أحد تحوّل معبر “الوليد” بين سوريّا والعراق إلى بوّابة لقوّات التَّحالف الدّوليّ لإدخال الأسلحة والذَّخيرة والمُعدّات العسكريَّة واللّوجستيّة إلى سوريّا وإيصالها إلى قواعدها المنتشرة فيها، ولا يُستخدم المعبر للأغراض التِّجاريَّة أو الإنسانيَّة على الإطلاق.
كما جيَّرت إيران معبر “البوكمال” الواقع تحت سيطرتها، إلى نافذة لها لنقل أعضاء ميليشيّاتها إلى الأراضي السُّوريّة والعراقيّة، إضافة إلى نقل الأسلحة والذَّخيرة والمُعدّات العسكريَّة واللّوجستيَّة لتزويد جميع ميليشيّاتها المنتشرة في الأراضي السُّوريّة بها وخاصَّةً “حزب الله” اللّبنانيّ، وهو ما يقلق قوّات التَّحالف الدّوليّ، التي عمدت في الفترة الأخيرة إلى استهداف مواقع ونقاط الميليشيّات الإيرانيّة في تلك المنطقة، بعد استهدافها لقاعدة لها في الأراضي الأردنيّة أدت إلى مقتل جنود أمريكيّين.
إنَّ النِّزاع على المعابر يُشكِّلُ جزءاً من الصراع على سوريّا وفيها، وهو بكُلِّ الأحوال مرتبط بالأوضاع السِّياسيّة والعسكريّة وبتوازن القوى على الأرض، ولن تعود للعمل كما كانت في سابق عهدها إلا من خلال التَّوافق والوصول إلى حَلٍّ سياسيٍّ مستدامٍ في سوريّا، وفي مقدِّمتها تحرير الأراضي المُحتلَّة وزوال الاحتلالات وقوى الشَرِّ والإرهاب، ويبدو أنَّ ذاك اليوم لايزال بعيد المنال نوعاً ما على وقع التطوّرات السِّياسيّة في سوريّا والمنطقة.