من ربيع دمشق إلى الربيع العربي.. صراع العروش
محمد محمود بشار
يشير الواقع إلى أن العقدة في دمشق وكذلك الحل، ولكن يبدو بأن الاثنين يتم فرضهما، فلا حرب تتقنها دمشق ولا سلم.
في صراع العروش أو في ترجمة أخرى لعبة العروش، يفرض الفصل الواحد سواء كان صيفا أم شتاء طقسه على عدة أعوام متتالية، ومن تابع هذا العمل الدرامي الضخم يعرف بأن فصل الصيف كان يمتد لأعوام وكانت كل التحضيرات من أجل مواجهة فصول الشتاء الطويلة، ومع كل شتاء كانت تبدأ لعبة العروش وتحل لعنة الحرب على الجميع.
وهذه هي الحال مع العاصمة السورية دمشق، فالربيع العربي أدخلها في شتاء طويل امتد لأكثر من عقد من الزمن.
في بداية تسلم بشار الأسد لمنصب رئيس الجمهورية في عام 2000 انتعشت العاصمة نوعا ما، فتحركت الأحزاب والشخصيات التي كانت تنشط خارج عباءة الحكومة وكل مؤسسات السلطة، فتم تداول مصطلح (ربيع دمشق) بين المهتمين بالشأن العام.
– خطاب الرئيس وصيف انطلاق الربيع
في أول خطاب لبشار الأسد بعد استلامه الرئاسة السورية في 17 تموز\يوليو 2000 تم التطرق إلى ضرورة أن يكون لسوريا تجربتها الديمقراطية الخاصة، وحينها قال الأسد: (إن الفكر الديمقراطي يستند إلى أساس قبول الرأي..)
وكان هذا الخطاب هو بمثابة ولادة ربيع دمشق، الذي لم يعمّر طويلاً فكانت ولادته في صيف حار وملتهب وتم تجهيز تابوت للربيع المذكور مع اقتراب نهاية شباط\فبراير في العام الذي تلاه.
أي أن ربيع دمشق استمر سبعة أشهر فقط، ومن ثم بدأت قبضة الأجهزة الأمنية تشتد أكثر على من يعارض ويخالف الرئيس ولا يسير وفق تعليمات الحزب الحاكم، فتم اعتقال العديد من الشخصيات المعروفة والتي كانت تمثل أبرز وجوه المعارضة المدنية السلمية، وكذلك تم إغلاق المنتديات التي تم افتتاحها أغلبها في دمشق.
ومن جملة التناقضات التي ظهرت بعد تحليل الربيعين ومقارنة أحداثهما مع بعضهما البعض، هي تلك المواقف المتناقضة تماماً لشخصيات معروفة كانت في قمة هرم السلطة أثناء ربيع دمشق ومنها عبدالحليم خدام نائب الرئيس، الذي اعتمد على لهجة عنيفة جدا في التعامل مع مطالب المثقفين والمتنورين وأوضح حينها بأنه لن يسمح أن تتحول سوريا إلى جزائر أو يوغسلافيا ثانية.
ومن المفارقات هو أن نفس الشخص، والذي هو عبدالحليم خدام انشق عن السلطة وأعلن نفسه كقائد من قادة المعارضة بعد الربيع العربي واستخدم نفس اللهجة العنيفة ولكن هذه المرة ضد من كان معهم في السابق.
– (القمع) كلمة السر التي أرهقت حكام دمشق
مع سد الطريق أمام ربيع دمشق، وقمع كل الأصوات النابعة من عقول كانت تؤمن بعملية التغيير السلمي والمتدرج، لجأ التيار الإسلامي إلى الاستفادة من كل هذه التطورات الخطيرة في الظل، ومع انطلاق الربيع العربي، تسيد الإسلاميون المشهد في كل دول الربيع ومنها سوريا.
فكانت دمشق هي التي جلدت ذاتها وجلدت معها كل الشعب السوري، فمن الربيع الذي مات وهو في شهره السابع، منذ أكثر من عقدين من الزمن، وجاء بعده عقد من الهدوء الذي كان يسبق العاصفة، ومن ثم هبت العاصفة تحت اسم الربيع العربي مع اشتعال النيران في جسد الشاب التونسي محمد بوعزيزي، تلك النيران التي مازالت مشتعلة في العديد من العواصم، ونتيجة لترسيخ القمع وتسلط الأجهزة الأمنية في ذاكرة شعوب هذه الدول، فإنها تفضل الموت والتشرد على العودة إلى ماقبل آذار 2011.
الربيع الذي تحول بفعل عقلية القمع التي تنتهجها السلطات من جهة وعقلية الاستحواذ على السلطة مهما كلف الثمن، التي تنتهجها أطراف المعارضة وخاصة الفصائل الاسلامية منها، جعلت هذه الدول تدخل في شتاء طويل تجاوز عقده الأول ودخل في عقده الثاني، من دون أن يكون هناك أي مؤشرات على حل المشاكل والازمات والمعضلات.
اختفت الكثير من الأسماء التي لمعت في مرحلة من المراحل، وتم عقد العشرات من المؤتمرات واللقاءات الدولية من دون أي نتيجة ملموسة، وظهرت حركات وفصائل بأسماء جديدة ولكن كلمة السر التي كان يعتمد عليها حكام دمشق باتت كلمة سر مشتركة بينها وبين أغلب فصائل المعارضة وخاصة الفصائل التكفيرية والجهادية، فبات القمع هو سيد الموقف والقاسم المشترك بين السلطة العلمانية والمعارضة الاسلامية.
مع خنق ربيع دمشق تم خنق الاصوات العلمانية والمدنية والقمع الذي مارسته السلطة في دمشق وعلى امتداد الجغرافية السورية، تسبب في خنق السلطة لنفسها وسلبها أي قرار مستقل، فباتت الدول التي تدخلت في الحرب السورية هي التي تمتلك كلمة الحسم، وتحولت دمشق من عاصمة إلى حلبة مفتوحة لعرض عضلات الدول التي ازدهرت مع الدمار الذي خلفته المعارك والصراعات.
ومن ربيع دمشق إلى الربيع العربي، مرّت فصول وسنوات متعددة، فباتت سوريا من بين الدول التي يزيد عدد اللاجئين والنازحين الذين فروا من نيران الحرب، عن عدد من تبقى في بيوتهم وعلى أرضهم، حيث بات أكثر من نصف الشعب السوري إما لاجئا أو نازحاً.
يبدو أن هناك ربيع آخر يلوح في الأفق، فبعد كل هذه السنوات القاسية والمدمرة فإن العقلية التي تبنتها سلطات دمشق هي نفس العقلية لم تتغير، واختفت من بين صفوف المعارضة أصوات العقل إلا ما ندر.