الانسحابُ الأمريكيُّ من سوريّا.. والرّهاناتُ الخاسِرَةُ
جميل رشيد
تباينت كثيراً ردود الفعل على المقالة المنشورة في موقع “المونيتور”، حول نيَّةِ الولايات المتّحدة الأمريكيّة سحب قوّاتها من سوريّا، وأعاد الكاتب “تشارلز ليستر” إثارة الموضوع عبر مقال نشره موقع “فورين بوليسي”، ذهب فيه بعيداً ليزعم أنًّ مُخطَّط الانسحاب يُناقش في دوائر القرار الأمريكيّة، مؤكِّداً أنَّه استقى معلوماته من أربعة مصادر في وزارَتي الدِّفاع والخارجيَّة، بأنَّ وجود القوّات الأمريكيّة في سوريّا لم يعد يحظى بتلك الأهميَّة.
لعلَّ توقيت إثارة هذه المسألة في الظروف الرّاهنة التي تَمُرُّ بها المنطقة، لها دلالاتها ومغازيها السِّياسيّة والعسكريَّة، لجهة تصاعد الصراعات في معظم دول المنطقة، بدءاً من غزَّة ومروراً بسوريّا والعراق وليس انتهاء باليمن والصِّراع الدّائر في البحر الأحمر وقطع خطوط الملاحة البحريّة والتِّجاريَّة العالميَّة.
لا يمكن النَّظر إلى مسألة الانسحاب الأمريكيّ من سوريّا– إن حصل – خارج السّياقات العُنفيَّة الدّائرة رحاها في المنطقة، فالاستهدافات المستمرّة للقواعد الأمريكيّة في كُلٍّ من العراق وسوريّا، وخاصَّةً الاستهداف الأخير لقاعدتها في الأردنِّ ومقتل وجرح عدد من الأمريكيّين فيها، إنَّما تُعَدُّ تصعيداً غير مسبوق ضُدَّ الولايات المتّحدة، وهي بحَدِّ ذاتها تدفعها نحو تثبيت وجودها في المنطقة، وأوَّلها في سوريّا، حيث أكَّدَت التَّقارير الواردة من الإدارة الأمريكيّة أنَّ مصدر الاستهداف للقاعدة الأمريكيّة هو من قبل إيران أو الميليشيّات التّابعة لها في سوريّا، وهذا يُرجِّح فرضيَّة استدامة الوجود الأمريكيّ فيها، لِتُفنِّدَ المزاعم التي ساقتها كُلٌّ من “المونيتور” و”ليستر”.
الأمر الآخر الأكثر استغراباً ودهشةً، أنَّ أشخاص ولوبيات متعدّدة مشبوهة في الولايات المتّحدة وخارجها تقف وراء نشر مثل هذه الدِّعاية المضادّة للولايات المتّحدة بالدَّرجة الأولى، وتسعى من خلالها إلى خلط الأوراق والتشويش على دورها في المنطقة، والاستفراد بها.
إنَّ ضلوع قوى وشخصيّات متنفِّذة عالميّاً لها علاقاتها وارتباطاتها مع أطراف إقليميَّة لها مصلحة في الانسحاب الأمريكيّ من المنطقة، عملت من خلال البوّابة الإعلاميَّة والتَّأثير على قرار الولايات المتّحدة في تشديدها على استمرار وجودها في سوريّا، على عكس ما تداوله الإعلام الأجنبيّ والعربيّ. فشخصيّة مثل “جمال دانيال” السُّوريّ الأصل والحامل للجنسيَّتين الأمريكيّة واللُّبنانيَّة، وتنسيقه مع جماعات الإخوان المسلمين في قطر وتركيّا، لعبت دوراً كبيراً في نشر هذه الدّعاية، التي اعتبرها العديد من المراقبين “ممجوجة”. إنَّ “دانيال” المعروف بعلاقاته الواسعة مع أوساط الحكم في عِدَّةِ دول، وبالتَّنسيق مع الكاتبة الصحفيّة “أمبرين زمان” التُّركيَّة الأصل والكاتبة في “المونيتور”، لعبا دوراً كبيراً في نشر المقال وتحضير مفرداته. “دانيال” منخرط في شبكة كبيرة من الارتباطات مع قيادات الصفّ الأوَّل في الولايات المتّحدة، حيث له علاقات مع آل بوش الأب والابن، إضافة إلى عائلة الأسد، وخاصَّةً الرَّئيس السُّوريّ الحالي بشّار الأسد، حيث قدَّمَ “دانيال” خدمات كبيرة له، ساهمت في ترميم علاقته بواشنطن عقب اغتيال رئيس الوزراء اللُّبنانيّ”رفيق الحريري”.
تركيّا، وبعد فشل كُلِّ محاولاتها في تقويض الإدارة الذّاتيَّة وتوجيه ضربة قاصمة لها، ورغم استمرار اعتداءاتها اليوميَّة على المناطق الواقعة تحت سيطرتها؛ وصلت إلى مرحلة فقدت فيه الأمل لنيل الموافقة من الولايات المتّحدةالأمريكيّة وروسيّا في شَنِّ عدوانٍ برّيٍّ على مناطق الإدارة، فراهنت هذه المَرَّةِ على ممارسة الضغوط على الولايات المتّحدة ولَيِّ ذراعها في سوريّا، بعد الاتّفاق مع روسيّا وإيران في أستانا وطهران منذ العام عام 2022، لحملها على سحب قوّاتها من سوريّا، ولتترك الأمور على غاربها، لتدخل المنطقة في فوضى وتحت تهديداتها اليوميَّة من جانب، ومن جانب آخر تحت تهديدات الحكومة السُّوريَّة وحليفتيها روسيّا وإيران.
تحريك تركيّا وإيران وقطر، وعبر الصحفيَّة “أمبرين زمان” و”جمال دانيال” المرتبط مع إيران أيضاً، لأدواتها وإثارة هذا الموضوع في الإعلام الأمريكيّ، إنَّما يَنُمُّ عن مُخطَّطٍ واسِعٍ ترمي من خلاله تلك الأطراف إلى استهداف الإدارة الذّاتيَّة أوَّلاً، وإعادة إحياء تنظيم “داعش” الإرهابيّ، وفتح المجال أمام إيران وميليشياتها للتمدُّدِ في شمال وشرق سوريّا، بما يتعارض مع الإستراتيجيَّة الأمريكيّة في قطع الطريق على إيران في العراق وسوريّا. ولعبت “أمبرين زمان” دوراً في محاولة تبييض وجه تركيّا بعد احتلالها لعفرين في مارس/ آذار 2018، حيث ساهمت في إعداد تقرير للتغطية على الممارسات التُّركيَّة في عفرين مع وفد من صحيفة الـ”واشنطن بوست”، ادَّعت فيه أنَّ تركيّا لم تجرِ أيَّ عمليَّة تغيير ديمغرافيٍّ في عفرين، ما دفع النّاطق باسم وزارة الخارجيَّة الأمريكيّة إلى تأكيده لاحقاً.
تزامن نشر هذا التَّقرير مع النِّقاشات والحوارات الدّائرة بين الولايات المتّحدةالأمريكيّة والعراق، ما يُعزِّز للوهلة الأولى القناعة بأنَّ ما ادَّعته “المونيتور” والـ”فورين بوليسي” أقرب إلى الصحَّة، إلا أنَّ الشَّيطان يكمن في التَّفاصيل، كما يُقال، وهذا ما لم يتطرَّق إليه تقريرا الموقعين. فحسب الإدارة الأمريكيّة أنَّ مسألة انسحاب قوّاتها من العراق بعيدةٌ عن الواقع، وأكَّدَت أنَّ هناك إعادة توزيع لها، ومن المحتمل أن يكون هناك تخفيض لعددها، لأنَّ وجودها مرتبط بالاتّفاقيَّة الأمنيَّة والإستراتيجيَّة التي وقَّعها العراق معها في عام 2008. وقياساً على هذه الحقيقة؛ فإنَّ تواجد القوّات الأمريكيّة في العراق وسوريّا في تَرابطٍ عضويٍّ لا يمكن الفصم بينهما،فلا يمكن أن تنسحب من الثّانية دون الأولى، والعكس صحيح أيضاً.
وعلى أرض الواقع نجد أنَّ القوّات الأمريكيّة ضاعفت من نقلها للعتاد العسكريّ واللّوجستيّ إلى قواعدها العسكريّة في سوريّا خلال الآونة الأخيرة، وعزَّزت من دفاعاتها الجوّيَّةِ بعد الاستهدافات المستمرّة لقواعدها من قبل إيران والميليشيّات التّابعة لها في العراق وسوريّا، وهذا أيضاً يدحضُ مضمون ما ورد في التّقريرين.
ويجب ألا يغيب عن البال أنَّه في ديسمبر/ كانون الأوَّل الماضي، رفض مجلس الشّيوخ الأمريكيّ مشروع قانون يدعو إلى سحب القوّات الأمريكيّة من سوريّا، فيما أوضح زعيم الجمهوريّين في مجلس الشّيوخ، “ميتش ماكونيل”، في بيان قبيل التَّصويت على مشروع القرار، أنَّ تبنّي هذا القرار سيكون “هديَّةً لإيران وشبكتها الإرهابيَّة، وسيؤدّي إلى تدمير مصداقيَّة الولايات المتّحدة في المنطقة”.
تكثيف دول ثلاثي أستانا جهودها ضُدَّ الوجود الأمريكيّ في سوريّا، عبر الضربات التي شنَّتها تركيّا على البُنية التَّحتيَّة في مناطق شمال وشرق سوريّا، وكذلك استهداف إيران وميليشيّاتها لقواعد التَّحالف الدّوليّ، اعتقاداً منها أنَّها ستؤدي إلى اضطرار الولايات المتّحدة لسحب قوّاتها، وتالياً انهيار الإدارة الذّاتيَّة، ظنّاً منها أنَّ الإدارة مستمرّة في ظِلِّقوّات التحالف فقط، وهي لقمة سائغة بالنِّسبة لها وقادرة على ابتلاعها بسهولة في حال انسحاب القوّاتالأمريكيّة، وهو ما تُصِرُّ عليه تركيّا دائماً.
غير أنَّ مُسوِّغات ومبرّرات الوجود الأمريكيّ، وفق المسؤولين الأمريكيّين، لا تزال موجودة، وبقوَّة، حيث أنَّ تنظيم “داعش” الإرهابيّ يحتفظ بقوَّة ضاربة يمكنه أن يعيد من خلالها إحياء تنظيمه، خاصَّةً أنَّ أعماله الإرهابيَّة تصاعدت مع بداية العام الجديد، إن كان ضُدَّقوّاتسوريّاالدّيمقراطيّة، أو ضُدَّقوّات الحكومة السُّوريَّة وحتّى في العراق أيضاً، ما يستدعي وجود قوّات التحالف في سوريّا، على الأقلّ حسبما ما تعتقد الولايات المتّحدة وحلفاؤها.
يقارن البعض بين الانسحاب الأمريكيّ من أفغانستان، وبين انسحابها من سوريّا، وهي مقارنة خاطئة لا تصلح في هذا الصراع المستفحل في المنطقة. ففي أفغانستان لم تحقِّق الولايات المتّحدة أيَّة نتائج ملحوظة رغم تواجدها فيها طيلة عشرين عاماً، إضافة أنَّ انسحابها جاء وفق حساباتها الجيوسياسية المتعلّقة بإشعال صراع بين حركة طالبان وإيران، وهو بدأ فعلاً غداة إتمامها لعملية الانسحاب بفترة قصيرة نسبيّاً.كما أنَّها لم تتمكَّن من إحداث تغييرات جوهريَّة في بُنية المجتمع الأفغانيّ المتخلّف.
فيما مناطق شمال وشرق سوريّا تختلف كُلّيّاً عن أفغانستان، من حيث البُنية الثَّقافيَّة والتنوّع الإثنيّ والدّينيّ، إضافة إلى وجود إدارة مستقلّة عن التَّواجد الأمريكيّ، فهي تشكَّلت بإرادة شعوب ومكوّنات المنطقة وقبل دخول أمريكا إلى سوريّا، وثبات الإدارة من عدمها غير مرتبط موضوعيّاً بالتَّواجد الأمريكيّ، بل بالعوامل الذّاتيّة.
في كُلِّ الأحوال لا يمكن الوثوق بسياسة الولايات المتّحدةالأمريكيّة، فقد اعتاد العالم على أنَّها في أحيان كثيرة تَطرَحُ أنصاف الحلول لمشاكل الشعوب، ولا تُكمل الخطوات التي بدأت بها، وتنقلب على السِّياسات التي اتّخذتها في الأمس، فهي دولة براغماتيّة لأبعد الحدود، لكن في ذات الوقت لديها ثوابت لا يمكنها تجاوزها والقفز فوقها، حيث أنَّها لم تنسحب من منطقة ما في العالم ودخلتها، إلا بعد أن ضمنت فيها مصالحها، بشكل أو بآخر.
لم يكن رهان الإدارة الذّاتيّة في يوم ما على التواجد الأمريكيّ، والقناعة الرّاسخة لدى الكُلّ أنَّها ستستمرُّ بها أو دونها.