إيران وتركيا وفوبيا القوَّة
جميل رشيد
يُشيرُ منحى التوتّرات المتصاعدة التي تشهدها منطقة الشَّرق الأوسط، إلى بدء دورة جديدة من العنف، ولو لوقت محدَّد، ورُبَّما تكون ما قبل الأخيرة، قبل أن تضع كُلُّ الحروب أوزارها، وتركن جميع الأطراف المتورِّطة فيها إلى الحلول السِّياسيّة، بعد فشل جميعها في تحقيق نصر ما لصالحها، وحتّى على مستوى الدّول العظمى مثل الولايات المتّحدة وروسيّا والدّول الأوروبيَّة أيضاً.
إنَّ إيران وتركيّا، وباعتبارهما دولتان إقليميتان وذات نفوذ في المنطقة؛ فإنَّهما مسؤولتان بشكل كبير عن التوتّرات والصراع الدّائر فيها وعليها، وكان أولى بهما أن تعملا على خفض التَّصعيد، والتَّصالح مع شعوبها أوَّلاً ومن ثُمَّ مع شعوب المنطقة، عبر مَدِّ جسور التَّعاون والصداقة الندّيّة المبنية على أسس العدالة معها. إلا أنَّ الاثنتين تصرَّفتا بما تمليه عليهما أجنداتهما القومويَّة والدَّولتيَّة ومشاريعها الخاصَّة في فرض سيطرتها على دول وشعوب المنطقة، إن كان عن طريق الدّين والمذهب، أو عبر الاحتلال المباشر لأراضي دول الجوار، والتدخُّل في شؤونها الدّاخليّة، حتّى وصل في حالة إيران في كُلٍّ من سوريّا ولبنان واليمن إلى أن تغدو وصيَّة عليها، وتزرع فيها ميليشيّاتها الطائفيَّة التي قضت فيها على كُلّ أسس الدَّولة الوطنيَّة، حيث أقامت فيها مراكز دينيّة، غدت مع مرور الزَّمن مراكز لنشر التَشيُّع في طول البلاد وعرضها.
فيما سعت تركيّا، ومن خلال احتلالها للأراضي السُّوريّة، إلى تغيير ديمغرافيَّتها ونشر التتريك والثَّقافة التُّركيّة فيها، إضافة لفرض نموذج الإسلام المتطرّف، عبر إقامة المُجمَّعات الدّينيّة التي تنشر الفكر الإخوانيّ الإرهابيّ، كما زجَّت بكُلّ مرتزقتها في تلك المناطق لتعيث فيها فساداً وخراباً، ومن ثُمَّ حولتهم إلى بيادق بيدها تستخدمهم في مناطق صراعها بالعالم، مثل ليبيا وأذربيجان واليمن، وأخيراً وليس آخراً في بعض الدّول الإفريقيَّة.
رغم التَّناقضات الكبيرة والعديدة بين كُلٍّ من إيران وتركيّا، والمتعلّقة بنفوذهما الإقليميّ والمذهب، وانحياز كُلٍّ واحدة منهما إلى أحد القوى والتَّحالفات العالميَّة، إلا أنَّ هذا لم يمنعهما عن التَّنسيق بينهما في عِدَّةِ مجالات، وتقوية العلاقات الاقتصاديّة وزيادة التَّبادل التِّجاريّ بينهما. فمسار أستانا الذي أطلقته روسيّا وشاركت فيه إيران وتركيّا، أتاح أمامهما حيّزاً واسعاً من المناورة في السّاحة السُّوريّة، وبما يحفظ لهما توازنهما ونفوذهما، دون أيّ تضارب بينهما. ففي المساومات والصفقات التي عقدتها إيران مع تركيّا ضمن إطار أستانا قضت بتفريغ مدن سوريّا عديدة من سُكّانها، مقابل السَّماح لتركيّا باحتلال أجزاء من الأراضي السُّوريّة، مثل صفقة حلب مقابل احتلال جرابلس، الباب وإعزاز، وكذلك كفريا والفوعة مقابل الزَّبداني ومضايا، وليس آخرها الغوطة مقابل عفرين. طبعاً عرّاب هذه الصفقات دائماً كانت روسيّا.
يساور السُّوريّين، وعلى اختلاف انتماءاتهم السِّياسيّة والمذهبية، مخاوف من أيّ تقارب بين إيران وتركيّا، ولا يأملون منهما غير صفقات جديدة قد تذهب بأجزاء أخرى من الأراضي السُّوريّة. هذه القناعة ترسَّخت أكثر مع ازدياد التوتّر بين إيران والولايات المتّحدة وإسرائيل بعد الحرب في غزَّة. فاستهداف قيادات إيرانيّة من الصفِّ الأوَّل في سوريّا، وكذلك من الميليشيّات التّابعة لها مثل حزب الله في لبنان والعراق، أدخلها في حالة من الهيستيريا، لتعمد إلى تحريك أذرعها وأدواتها في المنطقة، وكذلك تدخلت هي بشكل مباشر عبر استهداف مناطق عديدة في المنطقة، مثل أربيل، عاصمة إقليم كردستان العراق، وإدلب في سوريّا، وكذلك باكستان. فيما أوعزت إلى الميليشيّات الحوثيّة التّابعة في اليمن لها لاستهداف السُّفن التِّجاريَّة في عُرضِ البحر الأحمر وتعطيل حركة الملاحة البحريَّة الدّوليَّة، إضافة إلى استهدافها المستمرّ عبر الصَّواريخ والطائرات المُسيَّرة للقواعد الأمريكيّة في سوريّا والعراق، بهدف الضغط على الولايات المتّحدة لسحب قوّاتها من العراق وسوريّا، الأمر الذي استجابت فيه الحكومة العراقية للطلب الإيرانيّ، وبدأت بإعداد مشروع قانون سيطرح على مجلس النوّاب (البرلمان) يُطلب فيه من الولايات المتّحدة سحب كامل قوّاتها من أراضيها، ما يفسح المجال أكثر أمام إيران لتتسيَّد الموقف في العراق.
بالمقابل تركيّا التي وجدت نفسها مغبونة من نتائج الحرب في غزَّة؛ تجرّأت هي الأخرى للدخول على خطّ التغيّرات في المنطقة عبر التَّصعيد العسكريّ وشَنِّها عدواناً جوّيّاً مفتوحاً على مناطق شمال وشرق سوريّا، واستهدافهاللبُنية التَّحتيّة والاقتصاديَّة فيها، وعلى مرأى ومسمع الولايات المتّحدة، ودون أن تحرِّكَ الأخيرة ساكناً، ما زاد في تغوُّل تركيّا وزيادة مساحة استهدافاتها، لتشلَّ الحركة الاقتصاديَّة والتّجاريَّة في تلك المناطق، وتعطّل جميع الخدمات المُقدَّمة للأهالي، ما خلق أزمة إنسانيّة كبيرة في المنطقة. لا شكَّ أنَّ تركيّا قبضت ثمن موافقتها على انضمام السّويد لحلف “النّاتو” عبر العدوان الذي منح وزير الخارجيّة الأمريكيّ “أنتوني بلينكن” الضوء له، عندما صرَّح خلال زيارته الأخيرة لتركيّا واجتماعه مع أردوغان بأنَّ “من حقِّ تركيّا الدِّفاع عن نفسها ضُدَّ الإرهاب”.
الدَّور المُلتَبَس والعدوانيّ للدَّولتين في المنطقة؛ يدفعهما إلى التَّنسيق في معظم الخطوات، حيث اجتمع الرَّئيسان الإيرانيّ والتُّركيّالأربعاء في أنقرة، على خلفيَّة عدوان الدَّولتين في المنطقة. فإيران تبحث في هذا التوقيت عن دولة تُخفّف عنها حجم تأثير ووطأة العقوبات المفروضة عليها من قبل الولايات المتّحدة، ولهذا اصطحب الرَّئيس الإيرانيّ معه وفداً كبيراً ضَمَّ وزراء الخارجيّة، الدِّفاع، الدّاخليَّة، الاقتصاد والتّجارة وآخرين، إضافة إلى عدد كبير من رجال الأعمال، ومن المزمع أن يوقِّعَ البلدان على عدد من الاتّفاقيّات الثنائية التي من شأنها كسر الحصار المفروض على إيران، وأوَّلها تصدير النَّفط والغاز، فضلاً عن نيَّة تركيّا إقامة استثمارات كبيرة في إيران.
ورغم الانتقادات التُّركيّة لإيران باستهداف مواقع عديدة في المنطقة عبر الصَّواريخ الباليستيَّة، إلا أنَّها في ذات الوقت تتودَّد إليها بهدف محاربة حزب العُمّال الكُردستانيّ، خاصَّةً بعد أن مُنِيَت بضربات قاتلة في الآونة الأخيرة. وإيران لا تعترض على الطلب التُّركيّ، ولكنَّها تسعى إلى ابتزازها وفتح الطريق أمامها لتصل عبرها بضائعها ونفطها إلى الأسواق العالميّة وتَفُكَّ عن نفسها الحصار.
كما أنَّ توقيت بدء اجتماعات أستانا مع زيارة الرَّئيس الإيرانيّ لتركيّا، لم يكن صدفة، فما لا يتَّفقان عليه في أستانا، بالتَّأكيد سيتُمُّ في أنقرة، فمصالح الدَّولتين تجعلهما أقرب إلى بعضهما اليوم وأكثر من أيّ وقت مضى. فتركيّا تعاني هي الأخرى من أزمات اقتصاديَّة حادَّة نتيجة انخفاض قيمة ليرتها أمام الدّولار الأمريكيّ، وفشلها في الحرب مع حزب العُمّال الكُردستانيّ، وكذلك عدم التَّأثير على قوَّة وصمود الإدارة الذّاتيَّة في شمال وشرق سوريّا بعد عدوانها الأخير عليها، كُلُّ هذه العوامل تضغط عليها للتَّواصل مع إيران وطلب المساعدة منها لإنقاذ نفسها من مستنقع أزماتها المستفحلة.
إلا أنَّ إيران المُصابَة هي أيضاً بفوبيا ووهم قُدرتها العسكريّة الاستخباراتيَّة والميليشياويَّة، تعتقد أنَّها قادرة على قلب الصراع في المنطقة لصالحها، في مواجهة دول كبرى مثل الولايات المتّحدة وبريطانيا وأوروبا بشكل عام، فهي تستعرض قوَّةَ عضلاتها عبر استهداف قواعد الدّول الغربيَّة في المنطقة، إلا أنَّ هذا لا يعني بالمطلق أنَّها قادرة على حسم الصراع لصالحها فيما لو دخلت في حرب مباشرة معها في قادم الأيّام. فرغم أنَّ إيران تمتلك من الدَّهاء السِّياسيّ وأساليب المناورة وحَبك المؤامرات بما يمكِّنَها من فرض نفسها كقوَّةٍ إقليميَّة ذات شأن، إلا أنَّ هذا لا يجعلها تحقِّق النصر في أيّ حرب فيما لو دخلتها. رُبَّما تستطيع إشعالها، ولكن بالتَّأكيد لن تتمكَّنَ من إخماد نارها بتلك السّهولة التي يتوقَّعها البعض.
إنَّ تهديدات علي خامنئي ضُدَّ الولايات المتّحدة عقب مقتل العديد من قيادات الحرس الثَّوريّ في سوريّا ولبنان، لن يأخذها أحد على محمل الجَدِّ، طالما أنَّ إيران تمارس سياسة ازدواجيَّة المواقف، فهي تقول ما لا تفعله، فقط هي تبحث عن توافقات وتنازلات من الدّول الغربيَّة بشأن ملفِّها النَّوويّ، ولقد امتحن العالم أجمع جدّيَّة مواقفها حيال العديد من القضايا، خاصَّةً في حرب غزَّة، فهي ورَّطت حركة “حماس” بها، ومن ثُمَّ انكفأت بنفسها عنها، ولم تدع حزب الله يفتح جبهة على إسرائيل من الشَّمال، بل ظَلَّت مدافعها وصواريخها صامتة، رغم استهداف إسرائيل لقيادات عليا في الحزب، ولأكثر من مَرَّةٍ.
كما أنَّ الإدانة الواسعة للقصف الإيرانيّ على أربيل، وضعت إيران في موقف لا تُحسد عليه، اضطرَّت معه إلى الاعتذار، ولو بشكل موارب، حيث قال بيان لخارجيَّتها إنَّه جرى استهداف مركز لـ”الموساد الإسرائيليّ”، ولم يكن المقصود استهداف أربيل بالذّات.
قوادم الأيّام حُبلى بالمفاجآت التي لا تَسُرُّ إيران وتركيّا، فكُلُّ المؤشِّرات تَدُلُّ أنَّ المنطقة ذاهبة إلى نوع من التَّهدئة، بعد أن تضع حرب غزَّة أوزارها، رغم أنَّ إسرائيل ترفض أيَّ وَقفٍ لها، والتَّرتيبات التي تجريها روسيّا داخل سوريّا أيضاً تُهدِّدُ الوجود الإيرانيّ فيها، وكُلُّ الاعتقاد أنَّ دورها دخل في طور الانكماش والضّمور.