مَرَّةً أخرى لا أصدقاءَ للكُردِ غيرَ الجِبال
جميل رشيد
عاودت دولة الاحتلال التُّركيّ شَنَّ هجماتها العدوانيّة على مناطق شمال وشرق سوريّا، وصعَّدت من وتيرة قصفها الجوّيّ، ليطال معظم المنشآت الحيويَّة والخدميَّة، خاصَّة النَّفطية والغازيّة ومحطّات تحويل الكهرباء والمياه وصوامع الحبوب والمطاحن ونقاط حراسة تابعة لقوى الأمن الدّاخليّ، ما أدّى إلى انقطاع التيّار الكهربائيّ والمياه عن معظم مناطق المدن الرَّئيسيَّة وريفها، مثل القامشلي، ديرك، الدِّرباسيّة، تربه سبيه وكوباني.
عمد الاحتلال إلى استهداف مؤسَّسات البُنية التَّحتيَّة، بهدف إلحاق أكبر الأضرار بالإدارة الذّاتيّةهذا أوَّلاً، وثانياً خلق حالة من الحنق والاحتقان بين الأهالي، والضغط عليهم للتخلّي عن الإدارة الذّاتيّة وتجريدها من قوَّتها الأساسيّة، لتقويضها، وبالتّالي نسفِها.
اعتادت دولة الاحتلال التُّركيّ، وكُلَّما تعرَّضت لأزمة داخليّة، أو تلقَّت صفعة من أيّ جهة كانت، وخاصَّة من قوّات الدِّفاع الشَّعبيّ (HPG)، إن كان في شمال كردستان أو جنوبها، فتعمد إلى صَبِّ جام غضبها على مناطق شمال وشرق سوريّا، عبر شَنِّ الهجمات والاعتداءات المتكرّرة، محاولةً ربط الإدارة الذّاتيّة بحزب العمّال الكُردستانيّ، كوسيلة ضغط على قوّات التَّحالف الدّولي وعلى رأسها الولايات المتّحدةالأمريكيّة للتخلّي عن دعم قوّات سوريّا الدّيمقراطيّة والإدارة الذّاتيّة، ومحاولة وسمها بالإرهاب، تماشياً مع مصالحها وأهدافها في سوريّا والمنطقة عموماً.
لا شَكَّ أنَّ الضربات العديدة التي وجَّهتها قوّات الدِّفاع الشَّعبيّ لجيش الاحتلال التُّركيّ في جنوب كردستان كانت موجعة للغاية، وحتّى الآن لا تزال جثث العديد من جنودها في ساحات المعارك ولم تتمكَّن من سحبها، فيما استطاعت الأولى من إعادة السَّيطرة على العديد من المناطق والتِّلال الإستراتيجيَّة التي تدور فيها المعارك، وخاصَّة المناطق الجبليّة حول مدينة “آمديّة/ العماديَّة”.
غنيٌّ عن القول إنَّ التبريرات الممجوجة والكذب والتَّدليس الفاقع عبر الرّوايات التي تقدّمها دولة الاحتلال التُّركيّ للرَّأي العام الدّاخليّ والعالميّ، أصبحت واهية ولم تَعُدْ تُقنِع أحداً. فهي دائماً تُسوِّق لفكرة تعرّضها لـ”الإرهاب” وتتذرَّع به في شَنِّ عدوانها على مناطق روجآفا وشمال وشرق سوريّا، وأيضاً على جنوب كردستان. فهي تتستَّر تحت هذا الغطاء، لنسف كُلّ مكتسبات حركة التحرّر الوطنيَّة الكُردستانيَّة، وفي كُلّ الأجزاء. فالفوبيا الكُرديّة التي تلاحق العقل السِّياسيّ التُّركيّ، تضعها في حالة هيستيريا مستمرّة، وتدفعها لأن توهم شعبها بأنَّها عُرضة للهجمات الإرهابيَّة من قبل الحركة الكُرديّة في روجآفا وشمال وجنوب كردستان، فيما الوقائع على الأرض تدحض كُلّ المزاعم التُّركيّة، حيث تجنح الحركة الكُرديّة، وبمختلف ألوانها وتيّاراتها السِّياسيّة إلى الحَلِّ السِّلميّ للقضيَّة الكُرديّة، فيما تُصرُّ النُّخب السِّياسيّة التُّركيّة الحاكمة، وعلى رأسها حزب العدالة والتنمية وحزب الحركة القوميّة، على استخدام لغة العنف الوحشيّ غير المُبرَّر في تصفية الحركة الكُرديّة ومعها القضيّة الكُرديّة من الوجود، فالحكومة الفاشيّة الحالية دفعت نحو التَّصعيد وإنكار الوجود الكُرديّ بالمطلق.
لم يكن أمراً عبثيّاً أو عابراً أن يُطلق الاجتماع الأمنيّ للحكومة التُّركيّة قبل أيّام اسم “إرهابستان” على مناطق روجآفا وشمال وشرق سوريّا، فقد وصل مستوى الحقد القوميّ الشّوفينيّ لدى حكومة أردوغان الفاشيَّة، بألا تلفظ اسم “كردستان” أيضاً. فهي حتّى الآن لا تردِّد اسم “حكومة إقليم كردستان”، بل تطلق عليها اسم “شمال العراق”، وتحاول أن تجعل منها ثقافة يؤمن بها الشَّعب التُّركيّ.
مشكلة العقل السِّياسيّ التُّركيّ تكمن في أنَّه بنى أفكاره على إنكار كُلّ ما هو غير تركيّ، مقابل السَّماح لنفسه بغزو واحتلال أيّ جغرافيا يراها مرتعاً له، ويسبغ عليها من جانبه فقط المشروعيَّة لكُلّ أعماله العدوانيّة تجاه شعوبها، ويستبيح وفق هذه النَّظريّة التي دأبت تعمل عليها معظم الحكومات التُّركيّة المتعاقبة منذ تأسيس الجمهورية التُّركيّة وإلى اليوم. ووفق هذا التوجّه الدّائم لها احتلَّت قبرص، وكذلك عفرين وسري كانيه وكري سبي، وبنت نحو /40/ قاعدة عسكريَّة لها في إقليم جنوب كردستان أيضاً.
تعتقد دولة الاحتلال التُّركيّ أنَّ روجآفا وشمال وشرق سوريّا هي الخاصرة الرَّخوة في سوريّا، وتستطيع من خلالها، وفي ظِل انشغال العالم بحرب غزَّة والهجمات التي يَشُنُّها الحوثيون على السُّفن التّجاريّة في البحر الأحمر، بأنَّها قادرة على تمرير مشروعها الاحتلاليّ الواسع “الميثاق الملي”، تحت ذريعة “محاربتها للإرهاب” القادم من الجنوب، أي من روجآفا، وهذا ما دفع رئيس حزب الحركة القوميَّة “دولت بهجلي” للمطالبة بـ”إنشاء منطقة آمنة داخل الأراضي السُّوريَّة بعمق /60/ كم”، وهذا يعني احتلال كامل أراضي روجآفا، وخلخلة التَّوازن الإقليميّ والدّوليّ، والتَّأثير على إستراتيجيّة كُلٍّ من الولايات المتّحدة وروسيّا، لتمرير مشاريعها الاحتلاليَّة الخاصَّة بها.
إنَّ تزامن العدوان التُّركيّ على مناطق شمال وشرق سوريّا مع القصف الذي تعرَّضت عاصمة إقليم جنوب كردستان “هولير/ أربيل”، إنَّما يؤكِّد على انتقال التَّفاهمات التي عقدها ثلاثي أستانا “روسيّا، تركيّا وإيران” في وقت سابق إلى التَّطبيق الفعليّ على الأرض، من خلال محاولة تقويض تواجد الولايات المتّحدة ومعها قوّات التَّحالف الدّوليّ لمحاربة الإرهاب، وكذلك الإدارة الذّاتيّة، والضغط على الأولى لحملها على الخروج من الأراضي السُّوريَّة، على غرار ما تعمل عليه الحكومة العراقيّة، وبأوامر مباشرة من إيران.
فإيران التي تلقَّت هي الأخرى ضربات موجعة من إسرائيل والولايات المتّحدة، عبر تصفية قيادات هامَّة لحزب الله اللُّبنانيّ، وكذلك الضربات العنيفة التي وجَّهتهاالولايات المتّحدة وبريطانيا للحوثيّين في اليمن، جعلتها تتنمَّر وتعمد إلى القصف بصواريخ بعيدة المدى، بهدف زعزعة أمن واستقرار إقليم جنوب كردستان، ووضعه هو الآخر في فوهة المدفع. لقد عملت إيران وفق نظريّة خلق بؤر توتُّر جديدة وعديدة، والتَّصعيد على أكثر من جبهة ضُدَّ الدّول الغربيَّة، وهذا ما أتاح المجال أمام دولة الاحتلال التُّركيّ لتتمادى أكثر في عدوانها على مناطق روجآفا وشمال وشرق سوريّا. وتتولَّد لدى المراقب قناعة أنَّ هناك توزيع للأدوار بين كُلٍّ من تركيّا وإيران في معاداة الغرب وحلفائه في المنطقة، وقبل ذلك الكُرد، وفي أيّ جزء من كردستان.
مَرَّةً أخرى لم تحرّك الولايات المتّحدة وروسيّا ساكناً حيال العدوان التُّركيّ، وكأنَّ الأمر لا يعنيهما بالمطلق، وأنَّهما غير موجودتان في المنطقة، ما يضعهما في موضع الشَّريك في الهجمات، ولو بشكل غير مباشر. فالمقايضات التي تجريها الولايات المتّحدة مع تركيّا ليست بالجديدة، فهي دائماً تمارس براغماتيّة مفرطة خالية من المبادئ والأخلاق، وسياساتها مع الكُرد والإدارة الذّاتيّة تعكس جوهر ازدواجيّة المعايير والخداع الذي تمارسه مع جميع الأطراف، رغم أنَّها تملك القدرات السِّياسيّة والعسكريَّة في الضغط على تركيّا وحملها على وقف اعتداءاتها المستمرّة على روجآفا وشمال وشرق سوريّا، بل لديها مفاتيح إطلاق حوار سياسيّ بنّاء بين الإدارة الذّاتيّة وتركيّا، وهذا يمكن أن يخدم مصالحها أكثر ممّا يخدمها العدوان التُّركيّ.
لكن المفارقة المذهلة، والتي لفتت انتباه الجميع، هو صمت الحكومة السُّوريّة عن العدوان التُّركيّ. فرغم أنَّ عدداً من جنودها قضوا في قصف طائرة مُسيَّرة على موقع عسكريّ لهم بريف مدينة القامشلي، إلا أنَّ البيان الذي صدر عن الحكومة، بإدانة القصف الأمريكيّ– البريطاني على مواقع الحوثيين في اليمن، لم يأتِ على ذكر العدوان التُّركيّ على الأراضي السُّوريّة، وكأنَّ الأمر لا يعنيها، لا من بعيد ولا من قريب، حيث من المفترض أن تُبادر إلى إدانة العدوان واستخدام حَقِّها في رفع دعوى أمام مجلس الأمن الدّوليّ بغية استصدار قرار إدانة، يُلزمها بوقف العدوان والانسحاب من الأراضي السُّوريّة التي تَحتلُّها، باعتبارها تمتلك حَقَّ تمثيل السّيادة السُّوريّة في المحافل الدّوليّة، وحتّى عبر ممارسة الضغط على حلفائها مثل روسيّا لوضع حَدٍّ للعربدة التُّركيّة، فأوَّلاً وأخيراً مدن “ديرك، القامشلي، كوباني، عفرين وغيرها” هي مدن سوريّة مثلها “دمشق، حلب، حمص وحماة” ومن واجب الحكومة السُّوريَّة الدِّفاع عنها وحمايتها من كُلّ التَّهديدات، بموجب التَّفويض الدّستوريّ الممنوح لها.
والأمر الآخر الذي يَحُزُّ بالنّفوس، أنَّ إدانات عديدة صدرت من مختلف دول العالم على القصف الإيرانيّ على “هولير”، فيما بلع هؤلاء ألسنتهم حيال العدوان التُّركيّ، رغم أنَّ الكُرد لا يُميّزون بين “هولير” و”القامشلي” و”كوباني” و”عفرين”، فهي جميعاً مدن كُرديَّة، وهذا ما يؤكِّد أنَّ لا أصدقاء للكُرد غير الجبال كما قالها قبل عقود الكاتب “جيمس أولدريج”.