تركيّا وإيران وسياسة المقايضات
جميل رشيد
يسود سماء منطقة الشَّرق الأوسط رائحة البارود والنّار، على وقع تطوّرات المشهد العسكريّ في غزَّة، منذرةً بدخول الحرب منعطفاً جديداً أكثر دمويَّة وإثارة، يُهدِّدُ باتّساع رقعتها وانجرار دول وأطراف أخرى إليها.
ونشرت وسائل إعلام أمريكيَّة قبل فترة تسريباً إعلاميّاً مفاده أنَّه كان من المفترض، حسب الإدارة الأمريكيّة أن تتوقَّف الحرب في غزَّة قبل نهاية العام الماضي، إلا أنَّ الحكومة الإسرائيليّة، وعلى رأسها نتنياهو، رفضا الطلب الأمريكيّ، بل كُلُّ الدلائل تشير إلى أنَّ الأخير وجد في الحرب فرصة في الحفاظ على ماء وجهه وتأجيل تقديمه للمحاكمة.
وفيما كانت حسابات حركة “حماس” السِّياسيّة والعسكريّة تدور ضمن إطار توجيه ضربة عسكريَّة خاطفة لإسرائيل وعدم استدامة الحرب، بل عدم قدرة إسرائيل على استخدام سياسة الأرض المحروقة في استهداف البُنى التَّحتيّة والمستشفيات والنِّقاط الطُبيّة، وبالتالي قدرتها على احتواء الجنون الإسرائيليّ المنفلت من عقاله، وكذلك فإنَّها عوَّلت على دور عربيٍّ وإقليميٍّ فاعل وضاغط على إسرائيل لوقف الحرب، ورهانها كان بالدَّرجة الأولى على كُلٍّ من تركيّا وإيران وقطر في الاستمرار بدعمها، مثلما حثَّتها على شَنِّ الهجوم. وحتّى إن امتدَّت شرارة الحرب؛ فإنّراهنت على أنَّ حزب الله هو الآخر سيفتح حرباً مفتوحة في الشّمال، ممّا قد يُدخل إسرائيل في متاهتها، رغم الدَّعم الغربيّ المفتوح لها. إلا أنَّ حسابات حقل “حماس” لم تتوافق مع بيدرها الذي تذريه الرّياح الآن، بل على العكس؛ بدأ العَدُّ التَّنازلي لوجودها، وبات مصيرها موضوعاً على طاولة البازارات والمساومات الإقليميّة والدّوليّة، وحتّى من أقرب حلفائها.
الموقف التُّركيّ المتصيّد بين أشلاء أطفال غزَّة، بات عارياً تماماً بعد أن سقطت عنه ورقة التوت الأخيرة، والشِّعارات الطنّانة التي تبجَّح بها أردوغان في الشَّهر الأوَّل من الحرب، من خلال الادّعاء بأنَّ “إسرائيل دولة إرهابيّ” وأن “حماس” حركة “تحرُّر” لم تكن سوى للاستهلاك الدّاخليّ ومحاولة الضَّغط على إسرائيل والولايات المتّحدة لنيل مكاسب ما بعد الحرب في غزَّة. فآخر فصول تخلّي أردوغان عن حركة “حماس” وقاداتها تمثَّل في إخراج نائب رئيس مكتبها السِّياسيّ “صالح العاروري” ومن ثُمَّ مقتله في بيروت، وحتّى الآن تدور الشُّبُهات حول كُلٍّ من تركيّا وحزب الله وإيران في الإيقاع به.
كما أنَّ صدور مذكَّرة من وزارة الخزانة الأمريكيّة بتقديم مكافأة قدرها /10/ ملايين دولار مقابل الإدلاء بمعلومات عن /7/ قادة لـ”حماس” تؤدّي لاعتقالهم، وتأكيد الوزارة الأمريكيّة أنَّ ثلاثة من هؤلاء يتواجدون على الأراضي التُّركيّة، تشير إلى أنَّ تركيّا تخلَّت عن “حماس”، وعلى الأغلب بحث وزير الخارجيّة الأمريكيّ أنتوني بلينكن في زيارته الأخيرة لتركيّا هذا الملفّ مع المسؤولين الأتراك، من ضمن عِدَّةِ ملفّات أخرى، منها موافقة البرلمان التُّركيّ على انضمام السّويد إلى حلف “الناتو”.ويبدو أنَّتركيّا تتّجه نحو التَّهدئة مع الولايات المتّحدة على ضوء التَّصعيد الأخير في خطابها ضُدَّ إسرائيل، وقد قال بلينكن إنَّه سيزور إسرائيل بصفته “يهوديّاً” وليس ممثِّلاً للولايات المتّحدةالأمريكيّة، ما يدُلُّ على أنَّه يدافع عن مصالح إسرائيل في كُلِّ مكان، حتّى في تركيّا.
لكن القضيَّة الأكثر إثارة للاستغراب والتي فاجأت الكثير من المراقبين هو الموقف الإيرانيّ الموارب من كُلّ ما يحصل في المنطقة، وخاصَّةً الحرب في غزَّة. فرغم أنَّ السَّفير الإيرانيّ في دمشق أوضح أنَّ رسائل عديدة أمريكيَّة وصلت بلاده عبر وسطاء خليجيّين، مفادها أنَّ أمريكا تجنح إلى التَّهدئة مع إيران في المنطقة، وحَلّ المشاكل العالقة بينهما. إلا أنَّ التَّصعيد الإسرائيليّ في جنوب لبنان، يفسد كُلّ الخطط الأمريكيّة في تحييد إيران ومعه حزب الله من الحرب. فالاستهدافات المستمرّة لقادة حزب الله في لبنان وسوريّا، يبدو أنَّها رسائل إسرائيليّة تفيد بتوسيع نطاق الحرب وجَرِّ إيران وحزب الله إليها. إلا أنَّ الأخير لا يزال ملتزماً الصَّمت – نوعاً ما – والرَّشقات الصّاروخيّة وبعض القذائف التي استهدف بها شمال إسرائيل لا ترتقي إلى مستوى الرَدِّ على الضربات الإسرائيليّة الموجعة له. ويبدو أنَّ إسرائيل تمارس أسلوب حرب الاستنزاف مع حزب الله، وباتت تعتمد على الضربات الخاطفة والمركَّزة، وليس الحرب المفتوحة.
لا تزال إيران تتجنَّب التورُّط في حرب غزَّة، وعلى كُلّ المستويات. فحتّى استهدافها لقواعد قوّات التَّحالفالدّوليّ في كُلّ من العراق وإيران من قبل الميليشيّات التّابعة لها، لا تأثير كبير لها، حسب المفهوم العسكريّ، بل هي رسائل سياسيَّة لشحذ همم أتباعها في المنطقة، وحتّى الضربات التي توجّهها عبر الطائرات المُسيَّرة للأساطيل العسكريّة والسُّفن التِّجاريّة في البحر الأحمر من قبل جماعة “الحوثيّين”، ما هي إلا لإشغال الولايات المتّحدة والضغط عليها وإجبارها على التّفاوض، وبالتّالي هي غير جادَّة للدّخول في معركة غير متكافئة مع الدّول الغربيّة في غزَّة والمنطقة عموماً، وخاصَّةً مع الولايات المتّحدة. فخسارة شخصيّة قياديَّة مثل “وسام الطويل” في ضربة لطائرة مُسيَّرة إسرائيليّة لن تدفع إيران وحزب الله للانخراط في حرب غزَّة، رغم أنَّها هي الأخرى التزمت الصّمت حينما تَمَّ استهداف أكبر شخصيّة قياديّة لديها “قاسم سليماني”، وبعده الجنرال “رضى موسوي” في دمشق، و”حسن عكّاشة” قرب جبل الشّيخ، وقبل عِدَّةِ سنوات “عماد مغنيّة” وسط دمشق أيضاً. وحسب الفهم الإيرانيّ البراغماتيّ؛ فإنَّها تضحّي برجالاتها على مذبح مصالحها القوميَّة والدّينيّة، فهو مبنيٌّ بالدَّرجة الأولى على حماية المصالح الإيرانيّة، وهي في هذه الحالة لن تدع حزب الله ينجرّ إلى حرب مع إسرائيل بأيّ حال من الأحوال، وهو ما أكَّدت عليه إيران في أكثر من مناسبة. والادّعاء بأنَّها تقف مع “المقاومة في فلسطين” ما هي إلا بروباغاندا إعلاميَّة، هدفها تضليل أتباعها والرَّأي العام.
الصَّواريخ والقذائف التي تطلقها ميليشيّاتها في العراق وسوريّا على قواعد التَّحالفالدّوليّ، ما هي إلا رسائل لتقوية أوراق تفاوضها مع الولايات المتّحدة، وإلحاق أكبر ضرر بالبُنية التَّحتيّة في مناطق شمال وشرق سوريّا، على غرار دولة الاحتلال التُّركيّ التي تستهدفُ باستمرار المنشآت الحيويَّة في المنطقة. فالتَّفاهمات التي عقدتها كُلٌّ من إيران، تركيّا وروسيّا في اجتماعات أستانا، محورها تقويض الإدارة الذّاتيَّة في شمال وشرق سوريّا، والضَّغط على الولايات المتّحدة لحملها على إخراج قوّاتها من سوريّا، وهو ما ولَّدَ موقفاً أمريكيّاً عكسيّاً، حيث ذهبت الأخيرة إلى التَّأكيد عِدَّة مرّات بأنَّها لن تسحب قوّاتها من سوريّا إلى حين الوصول إلى حَلٍّ سياسيّمستدام لأزمتها، الأمر الذي لا يتوافق مع الوجود الإيرانيّ في سوريّا.
كما أنَّ ما يَتُمُّ تداوله في الأوساط الإعلاميّة حول مخطَّط روسيّ بفتح طريق حلب – إعزاز وإعادة معبر “باب السَّلامة” إلى السِّيادة السُّوريّة، واستبعاد إيران منه، ما هو إلا تجريد إيران من ورقة مُهمّة في سوريّا، من شأنها أن تستبعدها من ترتيبات لاحقة على صعيد الحَلّالسُّوريّ النِّهائيّ. وهذا التوجُّه الرّوسيّ لن يُكتبَ له النَّجاح في ضوء تباين المواقف بين روسيّا وإيران، حتّى أنَّتركيّا التي تلهث للوصول إلى حلب، وعبر شتّى السُّبُل، فلن تدعها إيران أن حلب تكون لقمة سائغة بالنِّسبة لها، حيث أنَّروسيّا تقايض تركيّا على موقفها تجاه الحرب في أوكرانيا في الأراضي السُّوريّة، والمقايضات باتت سُنّة متعارف عليها من قبل روسيّا منذ غزو عفرين وسري كانيه/ رأس العين وكري سبي/ تل أبيض. فرغم أنَّروسيّا بدأت بخطوة جديدة في سوريّا لجهة إعادة هيكلة الأجهزة الأمنيَّة السُّوريّة والجيش السُّوريّ، وكذلك إدارات ومؤسَّسات الدولة، التي من شأنها أن تقوّض النُّفوذ الإيرانيّ، وهو ما يشهد تنافساً حقيقيّاً بين الطرفين، وعلى أكثر من صعيد، إلا أنَّها ستواجه معارضة إيرانيّة قويّة لها بحكم تغلغلها في مفاصل الدَّولة السُّوريّة. فيما الاستهدافات الإسرائيليّة المستمرّة على نقاط وقواعد إيرانيَّة في سوريّا، بالتَّأكيد لا يمكن لها أن تَتُمَّ دون موافقة روسيّا عليها، وهي التي تتحكَّم بحركة الأجواء في سوريّا بالمطلق.
لقد غدا التدخُّل الإقليميّ والدّوليّ في الشَّأن السُّوريّ معرقلاً لأيِّ حَلٍّ سياسيٍّ مرتقب، خاصَّةً بعد أن امتصَّت الحرب في غزَّة زخم الاهتمام الإعلاميّ والسِّياسيّ الدّوليّ بأزمتها، وتراجع الحديث عنها ليحتلَّ المرتبة الأخيرة، في ظِلِّ الانقسامات التي تشهدها السّاحة السِّياسيّة السُّوريّة الدّاخليّة، وغياب أفق الحَلِّ، ما يُمهِّد لدورة جديدة من العنف والاقتتال الذي لا معنى له سوى تنفيذ الأجندات الخارجيّة.