آراء وتحليلات

الدلالات السياسية لاغتيال “العاروري” في لبنان

محمد عيسى

بعد أن نفذت إسرائيل  ضربتها في قلب الضاحية الجنوبية، وفي معقل حزب الله اللبناني، الضربة التي نجحت في قتل القائد الفعلي لحركة “حماس” ونائب رئيس المكتب السياسي للحركة “صالح العاروري” مع مجموعة من قادة الحركة الآخرين، بعد وصوله للتو من العاصمة التركية، وبعد انقضاء ما يقرب من ثلاثة أشهر على اندلاع المعارك، تكون الحرب التي تشنها إسرائيل على غزة قد شكلت منعطفاً هاماً ومرحلة جديدة في الصراع،وقد تكون أدخلت لبنان وسوريا والمنطقة كلها لتبدو على أعتاب تطورات كبرى لا يمكن التنبؤ بمداها وأبعادها منذ الآن.

أما من هو “العاروري”، وما أهميته وماذا يعني قتله في هذا التوقيت، وفي هذه الطريقة؟ فيكفي أن نعرف أن الخارجية الأمريكية وليس إسرائيل فقط قد طرحت مكافأة بخمسة ملايين دولار أمريكي لمن يدلي بمعلومات عنه تفيد في تصيّده، وأنه بحسب تقارير إخبارية يُعَدُّ المنسّق الإستراتيجي للعلاقات مع إيران وحزب الله، وكان على صلة قوية مع قائد فيلق القدس الإيراني السابق “قاسم سليماني”.

وفي معنى مقتله في هذا التوقيت وفي هذا المكان؛ فلا يستطيع المراقب الحصيف أن يستبعد الدور التركي الأردوغاني في الضلوع بعملية الإيقاع فيه، ليس للسرعة التي أجهزت فيه إسرائيل على مقر إقامته بعد وصوله فقط، بل لأن السياسة الأردوغانية التي فطرت على الميكيافيلية والنفاق السياسي، والتي قد تكون احتاجت إلى تبريد الأجواء مع “نتنياهو”، الذي كان رده حاداً للغاية تجاه أردوغان وسياسته بعد المشادة الكلامية الأخيرة بينهما والتي شبَّه بها “نتنياهو” بـ”هتلر” وإسرائيل بالنازية،ما دفع “نتنياهو”إلى توجيه رسائل سياسية غاضبة وغير مسبوقة.

بمعنى أن إسرائيل قد تكون في موقع من يقبل النقد في قضايا حقوق الإنسان وقضايا الديمقراطية،أما أن تأتي من أردوغان هذه الدروس في الأخلاق، وهو من يقتل الكرد يومياً وصاحب أسوأ سجل لجهة حرية الصحافة والصحفيين في العالم، فلا بد أنّ في هذا شيء غير مقبول، الأمر الذي أدى إلى استدعاء  السفير الإسرائيلي من أنقرة، والكلام القاطع من الخارجية الإسرائيلية بأن عودته مرتبطة بمرحلة ما بعد أردوغان في حكم تركيا.

هذا الوضع الذي أوحى لأردوغان بأن طلاقاً من هذا النوع يحتاج الرجوع عنه إلى كبش فداء  كبير، وليس من البعيد للعقل أن يكون رأس “العاروري” هو الثمن.

وعلى نفس المنحى؛ ولأن مراكز القيادة للإسلام السياسي في قطر وفي إيران، وحتى في أداء حزب الله الخجول لجهة الرغبة في الانخراط إلى جانب “حماس”، كلها جهات مشبوهة في قصة “العاروري”، وتريد أن تلقي به محمولة زائدة في سفينة تواجه خطر الغرق، وليس هذا وحسب، بل يمكن النظر إليه في معايير الربح والخسارة لنتيجة الحرب، بما يجعله علامة تؤكد ما كنا قد ذكرناه في مقالنا السابق، بأن الحرب على غزة  قد دخلت في الربع ساعة الأخيرة من  مهمة إنجاز هدف الحرب على “حماس والمنظمات الجهادية الإسلامية الأخرى، وهي في طور الانتقال إلى عتبة جديدة، هدفها الدور الإيراني ممثلاً بحزب الله والمليشيات الموالية لإيران في المنطقة العربية كلها، بدءاً من لبنان وسوريا مروراً بالعراق، وحتى معاقل الحوثيين في اليمن.

تلك المعاقل التي فرضت نفسها هي الاخرى طرفاً في المعركة إلى جانب قوى “حماس” والتي ترجمت هذا الموقف عبر إطلاق صواريخ من اليمن على إسرائيل، وملاحقة السفن التجارية الإسرائيلية في البحر الأحمر ومضيق باب المندب.وإذا أضفنا إلى معطيات اللحظة الراهنة، التفجير الأخير قرب مرقد “قاسم سليماني”  والتي أودت بحياة العشرات ممن جاؤوا لإحياء الذكرى الرابعة لاغتياله، ثم عملية القتل التي سبقتها وطالت المستشار الإيراني الأهم “رضا موسوي” ومرافقه في دمشق، تصبح الصورة أكثر وضوحاً حول طبيعة الاستعدادات الإسرائيلية والتحضيرات العسكرية لأمريكا وحلفائها، وما محل إيران وأدواتها في الخطوة القادمة.

طبعاً، وعلى الجبهة الداخلية الإسرائيلية، ورغم اللغط الدائر حول سياسة “نتنياهو” وعن التقصير الذي أدى إلى  شعور الصدمة الكبير يوم 7 أكتوبر، ونشوء حركة التظاهرات المطالبة بأولوية تحرير الأسرى الإسرائيليين بأي ثمن، فإن كل المؤشرات الأخرى تدل على أن هناك إجماع كبير  في الرأي العام وبين سكان المستوطنات الشمالية، مضافا إليها تصريحات متكررة لقادة إسرائيل بأن على مقاتلي  حزب الله أن يعيدوا انتشارهم إلى ما بعد خط الليطاني، في إطار ترتيب سياسي دولي، أو عبر عملية عسكرية تتحضر القوات الإسرائيلية لخوضها. كل هذا ومازال البعض يرجح استمرار الحرب وتطويرها لتشمل حزب الله وقوى حلفاء إيران على الجبهة الشمالية في لبنان وسوريا.

وعلى ضوء كل ذلك، لا يجوز أن يخامر الشك أحداً بأن حرباً كبرى قادمة، وقد تكون أشد فتكاً واتساعاً، وربما لا تشكل حرب غزة إلا تطعيماً صغيراً تجاه أهوالها، يدخل إلى جانب إرهاصاتها السابقة إيماءة بقرب وقوعها جاءت من الحكومة الألمانية، وتتبعتها في ذلك حكومات دول الاتحاد الأوروبي،لتطلب من رعاياها مغادرة الأراضي اللبنانية على وجه السرعة.وبعيداً عن جدل حصولها؛ فإن مفارقاتها حين تحصل سيكون حزب الله هو من سيلبس التهمة فيها، أو من وقع في فخ إشعالها، لأنه قد أصبح بعد واقعة “العاروري” بوضع صعب ولم يعد بإمكانه التواري تحت مظلة حرب الاستنزاف الخفيفة التي تقنع جمهوره بأنها الخيار الأنجح والأكثر فعالية، والتي تخفف من حرجه تجاه جمهور شعار “وحدة المساحات” و “أوهى من عش العنكبوت”.

حزب الله الذي لم يعد بوسعه التحكم بحجم مشاركته في الحرب القائمة، ولأنه كان قد ألزم نفسه بالنظر إلى أي اغتيال يحصل في الأراضي اللبنانية من قبل إسرائيل، وضد أي من أطراف حلف المقاومة على أنه خط أحمر، وبالتالي هو بذلك قد وضع هيبته ومصداقيته على المحك، أضف إلى أن الشهية الإسرائيلية لقتل المزيد من كوادر وقيادات فصائل المقاومة في ازدياد دائم.

وهو،أي حزب الله، إذا كان حتى الآن في موقع من يحاول الاختباء خلف إصبعه، الأمر الذي عكسه خطاب أمينه العام الأخير المطول، والذي لم يقل فيه شيئاً مهماً، ودار على فكرتين؛ الأولى بأنه سيرد على عملية الاغتيال بدون تلك اللهجة المعتادة والقاطعة.والفكرة الثانية أنهأ دخل مفهوم المصالح الوطنية لكل طرف من أطراف محور المقاومة ضمن معادلة “وحدة الساحات” وفيها، وكأنه يبرر تلكؤ الحزب في الانخراط عميقاً في الحرب من بدايتها، ثم في مفهوم المصالح الوطنية لأطراف معادلة “وحدة الساحات”، مقصد آخر يستجدي فيه اللبنانيين للوقوف معه في مواجهة الاعتداء المحتمل.

ولأنه بات متخوفاً من ضمور جمهوره،أو يلمس فارقاً نوعياً بين حجم التأييد الذي كان يتمتع به في أوساط اللبنانيين وأوساط الشعوب العربية عشية العام 2006، وبين حجمه اليوم. ففي العام 2006؛  كان حزب الله قد قدم نفسه لشعوب المنطقة على أنه ناهض بأعباء حركة تحرر وطني ولا شأن له أو طموح لديه للاستئثار بسلطة البلاد.أما اليوم فهو وغيره من أطراف محور المقاومة منغمس بلعبة اختلاس السلطة والسطو على القرار السيادي في البلاد، ثم ناهيك عن تورطه في موبقة المخدرات. فهذه مسائل لا تجعل جمهوره يبتعد عنهفقط؛ بل حين يصبح قرار الدولة، أي دولة، وتوجهاتها الإستراتيجية ومقدراتها بيد حزب أو شخص أو مدرسة سياسية؛ يصبح الوطن كله في نظر الغالبية في خبر كان.

زر الذهاب إلى الأعلى