نيران العراق ومصير كركوك
محمد محمود بشار
تتشابه كثيراً أحوال العراق كدولة وأحوال آبار النفط في كركوك، حيث من الصعب جداً إخماد نيران الاثنين.
فكلاهما لا يعرفان الهوادة والتوقف، لا نيران الحرب في العراق ولا نيران آبار النفط في كركوك، فلا حرب في العراق من دون أن يكون لكركوك النصيب الأكبر منها.
عوامل غنى وقوة هذه المدينة هي نفسها أسباب تعاسة أهلها، فهي من أكثر الأماكن اختلاطاً وتنوعاً من حيث تركيبتها السكانية، وبنفس الوقت هي من أغنى المحافظات العراقية بمصادر الطاقة وثرواتها الباطنية. ودستورياً هي من المناطق المتنازع عليها بين بغداد وإقليم كوردستان.
لا مكان ولا وقت للراحة والهدوء في هذه المدينة، وحالها كحال الدولة التي تتواجد ضمن حدودها. في العراق إن كان هناك سبب للسلام والاستقرار، فسيكون هناك بالمقابل ألف سبب وسبب للدخول في حرب جديدة.
بعد إسقاط نظام صدام حسين، باتت كركوك بحكم أمر الواقع خاضعة لإدارة الحزبين الحاكمين في إقليم كوردستان العراق، وحينما تم وضع دستور جديد للعراق، تم تثبيت مادة دستورية خاصة بالمناطق المتنازع عليها بين المركز والإقليم وعلى رأسها كركوك وهي المادة 140 والتي كان يجب أن يتم تطبيقها عبر ثلاثة مراحل، إلا أنه ولحد اليوم لم يتم تطبيق هذه المادة من دستور العراق الجديد.
وعلى الرغم من سيطرة الأحزاب الكردستانية على المدينة بشكل شبه كامل، إلا أن القوى الكردية اتبعت استراتيجية لإشراك ممثلي جميع المكونات القومية والدينية في عملية إدارة المدينة.
وكان للرئيس الراحل جلال الطالباني الدور الأكبر في جعل جميع المكونات تشارك في عملية إدارة كركوك، حيث اقترح الرئيس الطالباني تمثيل كل مكون من المكونات الثلاث بنسبة الثلث لكل مكون في جميع المؤسسات الإدارية في المحافظة، مع ضمان تمثيل الأقليات داخل مجلس المحافظة.
وعلى الرغم من كل التحديات والتدخلات الدولية والإقليمية، فقد تمت إدارة كركوك بهذه الطريقة التي اقترحها أول رئيس منتخب لجمهورية العراق بعد إسقاط صدام حسين.
- استفتاء 25 أيلول ومصير كركوك المجهول
جاء الاستفتاء الذي تم تنظيمه في 25 أيلول عام 2017 للتصويت على استقلال إقليم كوردستان، فتحول الوضع في كركوك إلى وضع مختلف تماماً. حيث تلاشى المنطق الذي كان يتم من خلاله إدارة هذه المدينة، وبات الكردي الذي كان حاكماً لها، إما نازحاً في محافظات الإقليم أو مطلوباً من قبل الجهات الأمنية والعسكرية العراقية، أو إنه بقي في كركوك خاضعا لأي حكم يتم إقراره ضده من قبل الحكام الجدد للمدينة.
وتم الاستيلاء على مقرات ومكاتب الأحزاب الكردستانية من قبل فصائل الحشد الشعبي أو قطعات الجيش العراقي، وباتت هذه الأحزاب خارج العملية الإدارية في كركوك.
حتى إن محافظ كركوك المنتخب الدكتور نجم الدين كريم بات خارج المحافظة ولم تعد له أي سلطة على مفاصل ومؤسسات المحافظة، وتم تعيين محافظاً بالوكالة وهو راكان الجبوري الذي مارس سياسة عنصرية ضد الوجود الكردي في كركوك و حاول بشتى السبل لإبعاد المكون الكردي عن مفاصل الإدارة وعن العملية السياسية برمتها داخل هذه المحافظة.
ولكن الكرد لم يستسلموا للأمر الواقع، وعلى الرغم من الخلافات الحادة بين الأطراف الكردستانية وخاصة بين الحزب الديمقراطي الكوردستاني والاتحاد الوطني الكوردستاني، إلا أن كل الأحزاب كانت تحاول العودة بطريقة ما إلى داخل هذه المنطقة المتنازع عليها.
ويبدو إن الاستراتيجية التي اعتمد عليها الاتحاد الوطني الكوردستاني برئاسته الجديدة هي التي كانت الأنجع في طريق العودة إلى كركوك، حيث تبوء نجل الرئيس الراحل جلال الطالباني، بافل الطالباني رئاسة الحزب في مؤتمره الأخير الذي تم عقده نهاية شهر أيلول هذا العام في مدينة السليمانية، وأكد الطالباني الابن على أحقية الشعب الكردي في إدارة نفسه وقيادة العملية الإدارية مع المكونات الأخرى داخل هذه المحافظة.
- انتخابات ديسمبر والعودة من جديد
يبدو أن الاستراتيجية الجديدة التي اعتمدتها القوى والأطراف الكردستانية و في مقدمتها الاتحاد الوطني الكوردستاني لم تكن مرتبطة باستخدام القوة العسكرية، بل كانت تعتمد على الكتلة البشرية الهائلة التي ستشارك في عملية التصويت في انتخابات مجالس المحافظات العراقية.
وبالفعل كان للكركوكي كلمته، وكانت أصوات الكرد في كركوك هي الجسر الذي مهد مرة أخرى لعودة الأحزاب الكردستانية وانخراطها في عملية إدارة هذه المحافظة، فكان للصوت أثره الفعال وحقق أهالي هذه المدينة ما عجزت عنه بنادق العسكر في أكثر المراحل حساسية ومصيرية بالنسبة لراهن ومستقبل إدارة هذه المحافظة الغنية بمقدراتها الطبيعية والمتميزة بتنوعها السكاني.
حسب النتائج التي أفرزتها هذه الانتخابات، فلن يتمتع المكون بالكردي بتلك السلطة التي كان يمتلكها قبل استفتاء 25 أيلول، ولكن سيكون له حضور قوي ضمن مجلس محافظة كركوك وسيكون جزء فعالاً في العملية الإدارية، وإن تمكَن الطالباني الابن من إحياء السياسة التي تبناها الطالباني الأب وتم تطبيقها لإدارة كركوك منذ عام 2003 ولغاية يوم الاستفتاء، فربما يتولى الكرد مرة أخرى دفة القيادة في كركوك، ولكن لن يكون الأمر كما كان عليه في السابق. فالعراق بلد للمتاهات والأزمات، ومن الصعب إخماد الحرائق التي تشتعل في هذا البلد، وكذلك لا يمكن إيجاد ما تم فقدانه داخل هذه البلاد.