تركيا وإسرائيل.. السيناريوهات العلنية والخفية
محمد عيسى
بما أن الحرب في غزة قد تكون دخلت في الربع ساعة الأخيرة من أطوارها، وفق ما تشير إليه الكثير من الدلائل والمؤشرات؛ فان صفحة جديدة من تطورات هذه الحرب،أو من التداعيات المرتبطة بها، قد تكون بدأت تحدث أوبدأت تأخذ مكانها في دورة الصراعات والمخططات المرسومة والمُبَيَّتة في المنطقة وجوارها.
فمن جهة هناك من ينتظر في أنقرة أية هبة ريح ليتهم حزب العمال الكردستاني بالتسبب بها، وفي إطلاق موجة جديدة من أمواج الحرب وتعطيل مقوّمات الحياة واستهداف منشآت البنية التحتية، بقصد إحداث التهجير والتطهير العرقي بحق السكان السوريين الكرد.
ومن جهة أخرى هناك إسرائيل والحلف الامريكي الغربي، الذي لم يكن قد حشد عشرات البوارج وحاملات الطائرات، واستدعى المئات من ألوف قوات الاحتياط لمواجهة قوات “حماس” في رُقعة جغرافية محدودة من الأرض.
فهذه الحرب المندلعة منذ قرابة أشهر ثلاث، والتي دأب الإعلام القطري، ومنذ الأيام الأولى لانطلاقتها، على تصويرها بأنها “حرب قد خسرتها إسرائيل”، وهي بطريقها إلى تسجيل خسارة إستراتيجية فيها لصالح “حماس” وتنظيمات ماتسمى بـ”الجهادية الإسلامية”، وتكرار نغمة أن “حماس” قد دخلت التاريخ وكأن غزة بقيت في مكانها ولم تُدَمَّر بيوتها ومنشأتها ولم يُهَجَّر شمالها إلى جنوبها، وشرقها إلى غربها، ويقضي فيها مليوناً ونصف بين مُهَجَّر وقتيل أو مُعاقٍ بلا مأوى.
وبالعطف على التخدير الإعلامي الذي تلعبه آلة الإعلام القطرية، ومن باب التعامل الموضوعي مع الواقع، فإنه من المفيد في هذا الإطار التذكير بما كتبه الكاتب السوري “نمرود سليمان” ساخراً ومنذ الأيام الأولى للحرب “صحيحٌ أن غزة قد أدخلتها “حماس” إلى التاريخ، لكن قد أخرجتها من الجغرافيا”. ولأن الحرب قد تكون طالت أكثر من اللازم أو أكثر من المتوقع؛ فلأنها كانت تختبئ بين مقاربتين مختلفتين، الأولى أمريكية سعت من خلالها الولايات المتحدة إلى أن تكون حرباً قصيرة تنجزهدف القضاء على دور قوى التطرف الإسلامي، وبدون هذا التعرُّض المفرط لحياة المدنيين أو تهجيرهم، ثم السعي إلى طيّ صفحة المشكلة الفلسطينية عبر حل الدولتين، ما يعطي دوراً مهماً لمؤسسات حكومة “محمود عباس” في اليوم التالي للحرب، وبعدها تتفرَّغ لأولويات ترتيب المنطقة وتحجيم الدور الإيراني والروسي. والثانية إسرائيلية تريدها حكومة نتنياهو اليمينية المتشددة حرباً طويلة تمتد لأشهر أو حتى لسنوات، واستئصالية ليس لـ”حماس” و”الجهاد الإسلامي” فقط، بل خطوة لتصفية القضية الفلسطينية،حيث دأبت على رفض أي دور لحكومة “عباس” في صيغة أي حل لمستقبل غزة ما بعد الحرب، يضاف إلى ذلك أن نتنياهو وجدفي إطالتها مهرباً من استحقاقات المساءلة في مرحلة ما بعد الحرب.
وفي جو الجدل الدائر حول أمد الحرب وشكلها ونهايتها، يمكن أن نفهم المغزى من زيارات المسؤولين الأمريكان وعلى رأسهم مستشار الأمن القومي الأمريكي لإسرائيل، تلك الجهود التي قد تكون أثمرت بوضع جدول زمني لإنهاء محطة غزة في هذه الحرب.
أما أن تكون الحرب على غزة على وشك أن تضع أوزارها، فثمة علامات توحي بذلك،أو هناك مؤشرات بدُنُوِّ مرحلة جديدة من مراحل الحروب في المنطقة، مرحلة كان نتنياهو والمحور الأمريكي الغربي قد لمَّحوا إليها منذ انطلاق التحشدات العسكرية الأطلسية الضخمة مع اندلاع هذه الحرب، وما تراجع الأخبار التي تتحدث عن عمليات إطلاق صواريخ نحو المدن الإسرائيلية من قبل “حماس”، وبدء توارد صور عن أنفاق هامة قد تمت السيطرة عليها، والحديث عن آلاف القتلى من مسلحي “حماس”، بصرف النظر عن صحته من عدمه، إلا مؤشراً على قرب الإعلان عن تحقيق أهداف الحرب، بقصد إنهائها والانتقال إلى عتبة أخرى وجبهة أخرى، قد تكون جبهة الشمال والمواجهة مع حزب الله وأتباع إيران في لبنان وسوريا ميدانها المحتمل. وليس أدل على ذلك من إقدام المقاتلات الإسرائيلية مؤخراً بقتل المستشار الإيراني الكبير ومرافقيه في حي”الستزينب” بدمشق،إلا خطوة استفزازية لإيران وتوابعها، بقصد جرها إلى مواجهة محتملة، كانت إيران وحزب الله قد حرصواعلى تجنبها خلال الأشهر الأولى من المواجهة وجعلها في الحدود الدنيا التي تحفظ ماء الوجه لسياسة محور المقاومة، الذي ملأ الدنيا ضجيجاً بوحدة الساحات في الصراع مع الكيان المحتل.
وعلى نحو آخر، وبالانتقال إلى صدى التطورات على الخط التركي السوري، والتركي الإسرائيلي؛ فمن الحَرِيِّ ذكره أن السياسة التركية الأردوغانية قد التزمت بوجهها المنافق والراقص المستفيد من التناقضات، فهي من جهة تحافظ على أفضل علاقات التعاون الاقتصادي مع الدولة العبرية، وكان من أبرز ملامح هذا التعاون، بحسب العديد من المواقع الإخبارية المطلعة، هو إقلاع سفن تجارية عديدة محمّلة بالخضار والفواكه ومواد غذائية باتجاه مرافئ الدولة الإسرائيلية. وفي مقلب آخر، وأمام وسائل الإعلام، وفيما يُعَدُّ تمثيلاً لدور الإسلامي الغيور على مصالح المسلمين، التزمت جانب المتعاطف مع معاناة الغزّاويين، ووجهت عبارات الإدانة والنقد لجرائم الاحتلال بحق المدنيين ودعت إلى معاقبة دولة الكيان.
ولأن السياسة التركية الأردوغانية كانت انتهازية وصيّادة فرص على الدوام؛ فقد أرادت أن تستثمر في الحرب على غزة، لجهة استهداف المدنيين والبنى التحتية في مدن وبلدات شمال شرق سوريا، وذلك على الطريقة الإسرائيلية، بمعنى “ما حدا أحسن من حدا”، فكما تلكأ المجتمع الدولي في الضغط على إسرائيل لوقف عدوانها على المدنيين الفلسطينيين، فهي أيضاً – أي تركيا – قد عمدت إلى انتهاز الفرصة وتنفيذ جرائم من نفس النمط بحق المواطنين السوريين الكرد، حيث أوعزت لطائراتها المسيرة والحربية لتعيث فساداً في عشرات المواقع والمنشآت الحيوية والخدمية المتعلقة بحياة السكان، متناسية، وبغبائها المكشوف، أن سلطات الإدارة الذاتية المسيطرة في تلك المناطق لم تعط الحجة أو المبررات ولم تحذو حَذْوَ”حماس” لمثل هكذا عدوان، ولم تقم بأي نشاط ضد المصالح أو المواقع التركية.
وعلى نحو له صلة بمسار الهروب التركي إلى الإمام، يمكن القول إن تَرَنُّح أداء الجيش العرمرم التركي أمام مقاومة قوات الكريلا في جبال قنديل وإقليم كردستان، قد يكون الدافع لانتهاج سياسة الانتقام من المدنيين الكرد نفسها المتبعة في إسرائيل ضد الفلسطينيين.
ولأن النفاق التركي قد وصل إلى حدود غير مسبوقة؛ فقد ارتطم أخيراً بالحائط الإسرائيلي ولم تسلم جرة أردوغان هذه المرة، و”جاء من يعرفك يازعرور”، هكذا يقول لسان حال نتنياهو لأردوغان الذي أطلق تصريحات حادة تجاه إسرائيل مشبّهاً عدوانها بـ”الحرب النازية”، ليقول لأردوغان أما أنت؛ فلا، أنت آخر من يحق له التفوّه بقضايا حقوق الإنسان، فتاريخك مليء بالجرائم وسجلك سجل ارتكاب ممارساتوانتهاكات بحق الكرد والصحفيين.وفي خطوة لها الكثير من الدلالة؛ جرى سحب السفير الإسرائيلي من أنقرة. وأردف وزير الخارجية الإسرائيلية في لهجة استهجان وتحدٍّ”أن السفير لن يعود إلى أنقرة طالما بقي أردوغان في مكانه”.
بقي أن نشير إلى أن التوتر الحاصل في العلاقات بين إسرائيل وأنقرة لا يمكن النظر إليه بعيداً عن القلق وعن رائحة البارود، التي قد تكون اشتمتها إدارة أردوغان من تحشيد الأساطيل في شرق المتوسط، وحيث كررت انتقادها لهذه التحشدات مراراً.وإذا أضفنا إلى هذا المُعطى بعدين، الأول أن تركيا اليوم صاحبة مشروع قومي إسلاموي ضالع برعاية وتسويق الإرهاب، والثاني إعلان النوايا الذي أطلقه نتنياهو يوم 7 أكتوبر الماضي بقوله “وجهتنا نحو تغيير وجه الشرق الأوسط بأكمله”، وإذا أضفنا إلى ذلك الخلاف التركي مع اليونان وقبرص وتطلع الأتراك الأردوغانيين إلى نهج يجعلهم في واقع أن جسمهم في الأطلسي ورأسهم إلى خارجه، يصبح للخلاف التركي الإسرائيلي معنى مختلفاً هذه المرة.