في خلفيّات العدوان التّركيّ على الإدارة الذّاتيّة
جميل رشيد
جاءت الموجة الثّانية من الاعتداءات التُّركيّة على مناطق شمال وشرق سوريّا في هذه اللَّحظة الحرجة التي تَمُرُّ بها المنطقة عموماً،وسوريّا ومناطق الإدارة الذّاتيّة بشكل خاص، لتضيف إليها مزيداً من الأعباء والتحدّيات، فضلاً عن محاولة دولة الاحتلال التُّركيّ تصدير أزماتها المتفجّرة في الدّاخل للخارج.
لا شَكَّ أنَّ أسباب عديدة تقف وراء شَنِّ دولة الاحتلال عدوانها المكشوف على مناطق الإدارة؛ لعلَّ أولها يتمثَّل في عدم قدرتها على تَقَبُّل التطوّرات المتسارعة التي أقدمت عليها الإدارة في الآونة الأخيرة، خاصَّةً بعد أن تمكَّنت إلى حَدٍّ بعيد من ترميم ما دمَّرته آلة الحرب التُّركيّة خلال العدوان الذي شَنَّته في الخامس من أكتوبر/ تشرين الأوَّل الماضي، حيث أعادت إحياء محطّات الكهرباء والمياه وآبار ومصافي النَّفط، وغدت الحياة شبه طبيعيّة في جميع المرافق العامَّة، أي أنَّها رمَّمت جروح العدوان نوعاً ما، وبدأت مرحلة جديدة، عنوانها الرَّئيس مواكبة التطوّرات السِّياسيّة والعسكريّة التي تعكسها التغييرات في المنطقة والعالم، ساعية إلى تجنُّب انعكاس الحرب في غَزَّة على مناطقها، لكن يبدو أنَّ دولة الاحتلال التُّركيّ تسعى جاهدة إلى استغلال الحرب في غزَّة، ونقلها بكُلّ تراجيديتها إلى مناطق شمال وشرق سوريّا.
إنَّ أوَّل ما يتبادر إلى الأذهان أنَّ دولة الاحتلال التُّركيّ شعرت بالصدمة حيال خطوة الإدارة الذّاتيّة في الإعلان عن العقد الاجتماعيّ، وهو أمرٌ تُعِدُّهُ تركيّا موجَّهاً ضِدَّها بالدَّرجة الأولى. فهي دائماً تفكّر بتقويض الإدارة بكُلّ الوسائل، وأوَّلها عبر العدوان وشَنِّ الهجمات. فقد أعلنت دولة الاحتلال في أكثر من مناسبة أنَّها لن تسمح بإنشاء “كيان إرهابيّ على حدودها الجنوبيَّة”، وتعني بها الإدارة الذّاتيّة، رغم أنَّ الإدارة، وفي متن عقدها الاجتماعيّ تؤكِّدُ على عمقها وانتمائها السُّوريّ، ودائماً تحاول تركيّا أن توصمها بأنَّها “إدارة كُرديَّة” ويتوجَّب عليها تدميرها والقضاء عليها، ووجدت أنَّ أفضل وسيلة لتنفيذ مخطَّطها هو استهداف البُنى التَّحتيَّة والمرافق الحيويَّة والمنشآت الاقتصاديّة العامَّة والخاصَّة، لتعلن بشكل فاضح أنَّها تحارب الأهالي في لقمة عيشهم واستقرارهم.
المسألة الأكثر خطورة هي أنَّ دولة الاحتلال التُّركيّ تحاول شرعنة عدوانها وهجماتها تحت شعارات مزيَّفة، عبر خداع الرَّأي العام الدّاخليّ في تركيّا والعالم أيضاً، مدَّعية بأنَّها “تحارب الإرهاب وتحمي أمنها القوميّ”. فلم تعد تلك الأكاذيب والخديعة تنطلي على أحد، بعد أن ثَبُتَ أنَّها لم تستهدف أيّاً من النِّقاط العسكريّة لقوّات سوريّا الدّيمقراطيّة، بل جميع الهجمات تركَّزت على الهياكل المدنيَّة والاقتصاديَّة. ولا يوجد في جعبتها أيّ مُبرِّرٍ لشَنِّ العدوان، سوى حقدها الدَّفين تجاه الإدارة الذّاتيّة وتجربتها الفتيَّة، فهي لا تستطيع أن تكتمَ غيظها حيال كُلِّ تطوّرٍ يحصل في مناطق الإدارة، وتفجّره على شكل اعتداءات سافرة وهجمات وحشيَّة.
التطوّر الآخر الذي زاد من وتيرة الغِلِّ التُّركيّ تجاه الإدارة؛ هو انعقاد المؤتمر الرّابع لمجلس سوريّاالدّيمقراطيّة (مسد)، وفي العاصمة المزعومة لربيبتها السّابقة “داعش”، التي تحوَّلت بعد تحريرها إلى ظِلٍّ وارِفٍ لجميع الأطياف السِّياسيّة والمكوِّنات السُّوريّة. فالمؤتمر، وضع (مسد) من خلال مشاركة واسعة من قبل قوى وشخصيّات وطنيّة سوريّة في المؤتمر، لأن يغدو القوَّة المرشَّحة لأن تقودَسوريّا إلى بَرِّ الأمان وحَلِّ أزمتها، بعدما أفلست كُلِّ الهياكل التي أسَّستها تركيّا وقطر وجماعة الإخوان المسلمين الإرهابيّة، وباتت كُلُّ الآمال الآن معلَّقة في قدرة (مسد) على إطلاق حوار وطنيّ سوريٍّ– سوريٍّ يُفضي إلى توافقات حول الحَلِّ النِّهائي، وهو بالتَّأكيد لا يَسُرُّتركيّا وأعوانها التي لا زالت تعوِّل على الحرب وتعويمها من جديد، رغم الجهود الدّوليَّة في وضع الأزمة السُّوريّة على سِكَّةِ الحَلِّ السِّياسيّ.
كما أنَّ الضربات التي مُنِيَ بها جيش الاحتلال التُّركيّ في إقليم كردستان على يد قوّات الدِّفاع الشَّعبيّ، ومقتل عدد كبير من جنودها وضباطها، دفعها لتصُبَّ جامَ غضبها على مناطق شمال وشرق سوريّا، باعتبارها مناطق مكشوفة، وكأنَّها تعتبرها أنَّها الخاصرة الرَّخوة للكُرد ولجميع المكوِّنات في سوريّا، تستطيع من خلالها لَيَّ ذراع جميع الأطراف واللّاعبين الإقليميّين والدّوليّين في سوريّا لفرض شروطها وتثبيت دورها الهدّام فيها، وشرعنة احتلالها لمناطق واسعة من سوريّا. فالأزمة التي عصفت بأردوغان وحزبه بعد وصول جثث قتلى جيشه الغازي في إقليم كردستان، دفعت بالعديد من عوائل القتلى إلى رفض استقبال أردوغان أثناء تشييعهم جثثهم، وكذلك وُجِّهت انتقادات كثيرة إليه من قبل أحزاب المعارضة، خاصَّةُ من قبل رفيقه القديم أحمد داود أوغلو الذي اتَّهمه بالتورُّط في شمال العراق وسوريّا، حسب قوله. كذلك الضربة غير المتوقَّعة له فيما يتحضَّر هو وحزبه لخوض الانتخابات المحلّيّة المزمع إجراءها في مارس/ آذار المقبل (هبطت شعبيَّة أردوغان إلى أدنى المستويات منذ الانتخابات الرِّئاسيّة في مايو/ أيّار الماضي)،فهو تَعوَّدَ على إضعاف خصومه من خلال التَّرهيب وفرض مناخ من الفوضى والتوتُّر والقتل العشوائيّ، لأنَّه يُفكِّر بعقليَّة المجرمين وقطّاع الطرق الذي يصطادون في المياه العكرة، ويوهم الجميع بأنَّ الخطر قادم من خارج الحدود، وقد نجح خلال السَّنوات الماضية في استخدام هذا الأسلوب في التّرويع،وحصد نتائج لصالحه في الانتخابات الرِّئاسيّة والبرلمانيَّة، خاصَّةً تجربته في الانقلاب على نتائج الانتخابات البرلمانيَّة عام 2015 عندما لم يحقِّق فوزاً بالأغلبيّة لتشكيل حكومة بمفرده، فبادر بعدها مباشرة إلى البدء بحرب إبادة شاملة ضُدَّ الشَّعب الكُرديّ.
إلا أنَّ المسألة الأخرى الفارقة في الأسباب التي دفعت أردوغان وحكومته لشَنِّ العدوان؛ إنَّما تأتي على خلفيَّة إتمام المساومات والصفقات التي تمكَّن من إبرامها مع الولايات المتّحدة الأمريكيّة–والتي يعتبر بارعاً فيها– في مقايضة قبول اللَّجنة القانونيَّة بالبرلمان التُّركيّ بضَمِّ السّويد إلى حلف النّاتو، مقابل صمت الولايات المتّحدة عن هجماته على مناطق شمال وشرق سوريّا، والأخيرة أيضاً لها مصلحة في إضعاف الإدارة الذّاتيّة لإملاء شروطها عليها، وخاصَّةً على قوّات سوريّا الدّيمقراطيّة في الضَّغط عليها وحملها على فتح مواجهة مفتوحة مع إيران وميليشيّاتها في جبهات دير الزور لقطع الطريق أمام إيصالها إمدادات السِّلاح إلى توابعها في سوريّا ولبنان، وهو ما ترفضه (قسد) حتّى الآن، لعدم قناعتها بها، وفق ما أعلنته في أوقات سابقة.
غير أنَّ جميع الأطراف المتدخِّلة في تفاصيل الأزمة السُّوريّة والتي لا تؤمن بسوريّا ديمقراطيَّة، تختبئ وراء العدوان التُّركيّ، وتدعمه بشكل أو بآخر، إن كان من خلال صمتها، أو توجيه شتّى التُّهم إلى الإدارة الذّاتيّة ومحاولة نعتها بـ”الانفصاليَّة” أو ما شابه ذلك. فروسيّا التي تتحكَّم بكثير من خيوط اللُّعبة في سوريّا، وقفت مَرَّةً أخرى تتأمَّل مشهد الخراب والدَّمار في مناطق شمال وشرق سوريّا، وكأنَّها منطقة خارج الجغرافيا السُّوريّة، فإن كانت بصحيح تدَّعي دفاعها عن السِّيادة السُّوريّة، كان من المفترض أن تكون الأولى في وقف الهجمات وردع المعتدي، لا أن تقف خلفها بشكل غير مباشر، وكذلك لم تتحرَّك الحمية لدى قوّات التَّحالف الدّوليّ التي أزكمت أنوفها رائحة الحرائق المشتعلة في صوامع الحبوب وآبار النفط، وكان عليها أن تبادر فور بدء العدوان إلى وقفه، وهي بكُلّ تأكيد قادرة على فعله؛ لكنَّها جزء من مخطَّط الاستهداف وشريكة المعتدي، فكيف لها أن تَصُدَّ الهجمات.
يقول الكاتب اللُّبنانيّ ورئيس تحرير صحيفة الشَّرق الأوسط “غسّان شربل” في إحدى تغريداته على حسابه في منصَّة “X” قبل أيّام: “لو سأل أردوغان أسلافه؛ لأبلغوه أنَّ قتل الأكراد لا يَقتُلُ قضيَّتهم”. وهذا يسري على مناطق الإدارة الذّاتيّة وقواها السِّياسيّة والمجتمعيَّة أيضاً، فلن تقتل ضربات الطائرات الحربيَّة والمُسيَّرة والمدافع الثَّقيلة والدبّابات قضيَّة شعوب شمال وشرق سوريّا في السَّير نحو سوريّا ديمقراطيّة موحَّدة خالية من الإرهاب والمُحتلّين، وكُلُّ الاعتقاد أنَّ الإدارة فهمت جيّداً المعادلة التي يعمل وفقها أردوغان وحكومته، فكما يقول المثل الشَّعبيّ “الضربة التي لا تقتلك تقوّيك”، وسيكون بمقدور شعوب المنطقة احتواء هذه الضربة أيضاً، رُبَّما لتستَعِدَّ لمواجهة قد تقلب الموازين رأساً على عقب.