في العَقدِ الاجتماعيّ للإدارة الذّاتيَّة والمهامِ المستقبليَّة
جميل رشيد
صادقَ مجلس الشُّعوب الدّيمقراطيّة (المجلس العام سابقاً) في شمال وشرق سوريّا، على مسوَّدَةِ العقد الاجتماعيّ، بعد نقاشات مطوَّلة ومستفيضة حوله تحت قُبَّةِ المجلس، وقبلها من جانب اللّجنة المختصَّة من المشرِّعين والخبراء التي شكَّلها المجلس، واستغرقت أعمال الإعداد له من قبل اللّجنة، أكثر من عامين ونصف، ما يضعه في مصاف العقود الاجتماعيّة للكثير من البلدان الدّيمقراطيّة، خاصَّةً إذا علمنا أنَّ المشاركين في إعداده ينتمون لمختلف مكوّنات شمال وشرق سوريّا.
لا شكَّ أنَّ العقد الاجتماعيّ ينظِّمُ العلاقة بين الإدارة بمختلف مؤسَّساتها بما فيها المؤسَّسة التَّشريعيّة، وبين المجتمع بكافَّة شرائحه الاجتماعيّة، وتُسَنُّ بموجبه قوانين وأنظمة نافذة، ترسم إطار التَّفاعل السِّياسيّ والاقتصاديّ والاجتماعيّ بين الإدارة ومختلف مكوّنات المجتمع، وبما يحفظ حقوقها، ويمنع تعدّي الإدارة على تلك الحقوق أو قمعها، وتحت أيِّ ذريعة كانت. فالهدف من بناء الإدارة ومؤسَّساتها التَّشريعيّة والتَّنفيذيّة هو حماية المواطن وحقوقه من عُسفِ الإدارة، وليس العكس، كما يقول المفكّر “عبد الله أوجلان”.
بداية أجرى العقد تغييرات على تسمية الإدارة الذّاتيَّة، لتضاف إليها كلمة “إقليم”، وتصبح “الإدارة الذّاتيَّة الدّيمقراطيّة في إقليم شمال وشرق سوريّا”، وكذلك غيَّر بعض التَّسميات الأخرى، مثل المجلس العام الذي غدا اسمه “مجلس الشُّعوب الدّيمقراطيّة”، وهو تطوّر له دلالاته السِّياسيّة الكبيرة على المستوى الوطنيّ السُّوريّ والإقليميّ والدّوليّ،والذي يبدو أنَّ الإدارة ذهبت نحو تقسيم سوريّاإلى أقاليم جغرافيّة عِدَّة، وهذا لا يعني تقسيماً سياسيّاً، بل هو يعزِّزُ من الوحدة الوطنيّة السُّوريّة ويسهل العمل الإداريّ، ويخلق مناخات أوسع أمام شعوبها ومكوّناتها لتتفاعل بشكل أقوى مع الحالة الوطنيّة السُّوريّة العامَّة المنشودة.
يمكن وضع بعض الملاحظات على النُّسخة النِّهائيّة للعقد الاجتماعيّ والتي صدرت من قبل المجلس، ولا يُعرف بعد إن كان العقد سيخضع للاستفتاء العام أم لا، حيث من المتعارَف عليه أنَّ كُلَّ عقد اجتماعيّ يصدر من جهة تشريعيَّة، وفي أيّ بلد كان، يُمرَّرُ عبر الاستفتاء العام من قبل المواطنين، ليغدو نافذاً ويأخذ الصِّفة الشَّرعيَّة الكاملة. غير أنَّ أهم ما ميَّزَ هذا العقد أنَّه اشتمل على عِدَّة مواد أساسيَّة حول المرأة وحقوقها، خاصَّةً في الدّيباجة والمبادئ الأساسيَّة، وكذلك في فصل الحقوق والواجبات. إنَّ إيلاء قضيَّة المرأة تلك الأهميَّة التي تستحقُّها، إنَّما يجعله من العقود الاجتماعيّة المتقدِّمة، حيث أنَّه يعزِّزُ من مكانة المرأة ضمن المجتمع، عبر تمكينها من ممارسة دورها في جميع المؤسَّسات والإدارات، بما فيها القيادة، خاصَّةً أنَّه ركَّزَ على مبدأ “الحياة الندّيّة” بين الرَّجل والمرأة، وفي كُلِّ المجالات، دون أيّ تفريق بسبب الجنس.
كما أنَّ اتّخاذ اللّغات الثَّلاث “العربيَّة، الكُرديَّة والسُّريانيَّة” لغاتً أساسيَّةً رسميَّة في الإدارة، إنَّما يؤكِّدُ على نهجها الدّيمقراطيّ الذي يقبل بالتعدُّديَّة الثَّقافيَّة واللُّغويَّة ضمن إطار الجغرافيا الواحدة، وهذا بحَدِّ ذاته لا يتعارض مع الوحدة الوطنيّة السُّوريّة وإنَّما يغنيها أكثر. وتعتبر هذه المادَّة وحدها إنهاءً لمرحلة التَّهميش والإقصاء التي مَرَّت بها المكوّنات السُّوريّة الأساسيَّة وفي مقدِّمتهم الكُرد. فيما جاء هرم التَّنظيم المجتمعيّ على شكل وحدات مجتمعيَّة متعدِّدة، بدءاً من الكومينات وحتّى المجالس الأعلى، شكلاً متطوِّراً عمّا هو موجود ومتعارَف عليه في غيرها من البلدان. فمن خلال تجربة السَّنوات التِّسع الماضية من عمر الإدارة الذّاتيَّة، وبمجالسها وكوميناتها وكُلّ إداراتها ومؤسَّساتها، أثبتت أنَّها الشَّكل الأنجع في تنظيم جميع شرائح المجتمع، من خلال ديناميكيَّتها وقدرتها على حَلِّ مشاكل الأحياء والقرى، إلى جانب تقديم الخدمات وحفظ الأمن والاستقرار. وحدَّدَ العقد الاجتماعيّ بشكل دقيق مهام وعمل كُلّ هيئة ومجلس تابع له.
تضمَّنَ العقد /134/ مادَّةً، توزَّعت ما بين المبادئ الأساسيَّة والحقوق والواجبات، ومجلس الشُّعوب وكذلك التَّنفيذيّ، وأيضاً مواد تَخصُّ مبدأ الدِّفاع الذّاتيّ والمفوضيَّة العليا للانتخابات، ونظام العدالة في الإقليم، والتوزيع العادل للثَّروات، وكذلك المحكمة الدّستوريّة العليا، فضلاً عن المواد المتعلِّقة بوحدات حماية المرأة وعوائل الشُّهداء وجرحى الحرب، والأحكام العامَّة المتعلِّقة بقضايا سحب الثِّقة من المجلس التَّنفيذيّ أو أيّ عضو فيها، وكذلك المسائل الإجرائيّة وشروط التَّمثيل في مجلس الشُّعوب والمجالس التَّنفيذيّة، فيما قَسَّمت الإدارة الذّاتيَّة في إقليم شمال وشرق سوريّا إلى سبع مقاطعات، هي كالتّالي: “الجزيرة، دير الزور، الرِّقَّة، الفرات، منبج، عفرين والشَّهباء والطبقة”.
تُعتبر المصادقة على العقد الاجتماعيّ في هذه الفترة العصيبة التي تَمُرُّ بها سوريّا والإدارة الذّاتيَّة على حَدٍّ سواء، إنجازاً يذكر للثانية، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار التحدّيات الكبيرة التي تواجهها، خاصَّةً من قبل دولة الاحتلال التُّركيّ، التي تُهدِّدُ بين الحين والآخر بشَنِّ عدوان جديد على مناطق شمال وشرق سوريّا. إنَّ تنظيم الحياة السِّياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة في تلك المناطق، يُعَدُّ ضرورة لا يمكن تجاهلها في ظِلِّ اتّساع دائرة الاستهدافات لها، فالعقد الاجتماعيّ يحصّنها ويجعلها أكثر قدرة على تجاوز تلك التحدّيات، الدّاخليّة والخارجيّة، ودون أكلافٍ كبيرة.
يُفترَض بالإدارة الذّاتيَّة، وبمجلسيها، أن تُعيدَ هيكلة مؤسَّساتها الإداريَّة والخدميَّة والسِّياسيّة والاقتصاديّة، وبما تُلبّي حاجة شعوب ومكوّنات المنطقة، خاصَّةً أنَّ العقد الاجتماعيّ أَعَدَّ الأرضيَّة الدّستوريّة والقانونيَّة أمامها، لتنطلق نحو إعداد أنظمتها الدّاخليّة وتطوير ما هو موجود سابقاً، إضافة لمعالجة حالات الفساد الإداريّ، خصوصاً بعد إقرار العقد فصلاً خاصّاً بهيئة مكافحة الفساد وتشديد الرَّقابة على عمل كُلِّ هيئات المجلس التَّنفيذيّ، على اعتبار أنَّ الهيئة مسؤولة أمامه بشكل مباشر وتقدِّمُ له تقاريرها بشكل دوريٍّ.
من الملاحَظ أنَّ توقيت المصادقة على العقد الاجتماعيّ من قبل المجلس العام (الجهة والسُّلطة التَّشريعيّة في الإدارة الذّاتيَّة) لم يكن عبثيّاً واعتباطيّاً، خاصَّةً بعد الانفتاح الكبير الدّوليّ الكبير الذي حقَّقته في الفترة الماضية، لجهة زيارة وفود أجنبيّة عديدة لها، وكذلك زيارات العمل الدِّبلوماسيّة المتواصلة لدائرة العلاقات الخارجيَّة في الإدارة لعدد من البلدان، وخاصَّةً الأوروبيَّة، والاجتماعات التي عقدتها مع مسؤولين كبار في خارجيّاتها وبرلماناتها، رغم المحاولات المستمرِّة من قبل دولة الاحتلال التُّركيّ لوضع العُصيِّ في عجلات الإدارة، ومنعها من التَّواصل مع الخارج، وجعلها أسيرة ضمن جغرافيّتها. فالتَّرتيبات السِّياسيّة التي تجري على المستوى الوطنيّ السُّوريّ والإقليميّ والدّوليّ، بالتَّوازي مع الحرب في غزَّة، وانعكاساتها على مختلف القوى والأطراف، قد تكون إحدى الأسباب التي دفعت الإدارة إلى الاستعجال بإعداد العقد الاجتماعيّ، ورُبَّما يلحقها إجراء انتخابات عامَّة وتشكيل إدارة تنفيذيَّة جديدة. فالتغييرات على مستوى منطقة الشَّرق الأوسط متسارعة، ويتوجَّب أخذ كُلّ الاحتياطات لتجنُّب التَخلُّف عن مواكبتها، وهذا ما أقدمت عليه الإدارة الذّاتيَّة.
رُبَّما تتعالى بعض الأصوات التي تتَّهم الإدارة الذّاتيَّة بالإعداد لمشروع انفصاليّ عن سوريّا، لتصل حَدَّ نعتها بإنشاء “دولة مستقلّة” وإلصاقها بالشَّعب الكُرديّ فقط. غير أنَّ قراءة موضوعيَّة ومتأنيَّة لمواد العقد الاجتماعيّ؛ تُفنِّدُ بكُلّ سهولة تلك الادّعاءات التي ما فَتِئت تتشدَّقُ بها، وتحاول أن تَجِدَ ثغرةً في العقد الاجتماعيّ أو حتّى في مؤسَّسات الإدارة الذّاتيَّة كي تتسلَّل منها وتوجِّهَ سهام النَّقد للإدارة، عبر إلصاق شتّى التُّهمِ بها والتَّقليل من شأنها.
الثّابت أنَّ قطار الإدارة الذّاتيَّة قد أقلع مَرَّةً ثانية، رغم تكالب الهجمات عليها من كُلِّ حَدبٍ وصَوبٍ، فهي استطاعت خلال السَّنوات الماضية من احتواء مختلف الهجمات عليها، والتَّعامل معها بذكاء سياسيٍّمنقطع النَّظير، وليس الاعتماد على المواجهة العسكريَّة فقط. فمناطق الإدارة الذّاتيَّة حتّى الآن هي الأكثر أمناً واستقراراً في سوريّا، ويشعر المواطن فيها بكرامته وحُرّيَّته على خلاف المناطق الأخرى، وهذا مَرَدُّه إلى الإدارة والذِّهنيَّة التي تُدارُ بها، ولا يعتقد أحدٌ أنَّما هو قائم على الأرض وليد اللَّحظة ومؤقَّتٌ، وأنَّه سينتهي بمجرَّد تَغيُّر الأوضاع، فالإدارة أصبحت الرَّقمَ الصَّعبَ والأساسيّ في معادلة الحَلِّالسُّوريّة النِّهائيَّة، ولا يمكن تجاوزها والوصول إلى أيِّ حَلٍّ دون مشاركتها فيه، وغداً لناظرهِ قريبُ!