الإدارةُ الذّاتيّة واستِحقاقاتُ ما بعدَ المعركةِ الوجوديّةِ
جميل رشيد
لاتزال ارتداداتُ الحربِ الدّائرة رحاها في غزَّة، تُلقي بظلالها على منطقة الشَّرق الأوسط، وتُعمِّقُ أزمات أنظمتها، وتزيد من معاناة شعوبها الحائرة والباحثة عن خلاص لها، ولو من خُرم إبرة.
فإن كان ما يُسمّى بـ”ربيع الثّورات العربيّ”، قد زحف إلى معظم البلدان التي تتطلَّع شعوبها للحُرّيّة والدّيمقراطيّة؛ فإنَّ حرب غزَّة نسفت إلى حَدٍّ بعيد كُلِّ النِّضالات والتَّضحيات التي قدَّمتها شعوب تلك البلدان، وجعلتها نسيَّاً منسيّاً، في لُجَّةِ التموّج الإقليميّ والدّوليّ وانشغال الجميع بنتائج ما بعد حرب غزَّة، والتي لا بُدَّ وأنَّها ستتوقَّف في يوم ما، بعد أن تستنفد شروطها وتحقَّق لموقدي نيرانها أهدافهم من ورائها.
يتراءى من خلال تتالي الأحداث وتلاحقها وراء بعضها البعض؛ أنَّ مناطق الإدارة الذّاتيّة في شمال وشرق سوريّا، هي أولى المناطق المتأثِّرة بهذه الحرب، إن كان لجهة المخطَّطات التي تُعِدُّها الأطراف المتورِّطة في الحرب، أو تلك التي تقف على هامشها وتتحيَّن الفرصة المناسبة لاقتناصها والتمدُّد في منطقة الإدارة وفرض سيطرتها عليها، أو لجهة الاستهدافات المستمرّة لعناصر قوّات سوريّاالدّيمقراطيّة، بينهم قيادات، وكذلك لقواعد قوّات التَّحالف الدّوليّ، الأمر الذي يُنذِرُ بعودة التوتُّر إلى تلك المناطق، رغم حرص قوّات سوريّا الدّيمقراطيّة على عدم الانجرار إلى حرب هامشيَّة لا ناقة لها فيها ولا جمل.
يمكن قراءة الأحداث التي تشهدها مناطق شرق دير الزور، واستهداف قواعد قوّات التَّحالف وعناصر (قسد)، من زاوية حرب الاستنزاف التي تقف وراءها قوى إقليميّة ومحلّيّة، سعياً إلى إضعاف (قسد) وتقويض الإدارة الذّاتيّة. إلا أنَّ المفارقة العجيبة والغريبة تكمن في غضِّ النَّظرِ عن المناطق المُحتلَّة تركيّا، وكذلك تلك الواقعة تحت سيطرة “هيئة تحرير الشام” المُصنَّفة على قوائم الإرهاب العالميّ، والمجموعات الإرهابيّة المُستظلَّة بالدَّعم والحماية التُّركيّة، والتي تُشكِّلُ خطراً آنيّاً ومستقبليّاً على سوريّا والمنطقة وحتّى العالم. هذا التُّركيّز على مناطق الإدارة الذّاتيّة يثير العديد من التّساؤلات المنطقيّة، لعلَّ أهمُّها، هل يستهدفون من خلالها الشَّعب الكُرديّ، باعتباره القوَّة الأكثر تنظيماً في المنطقة، خاصَّةً أنَّه تمكَّنَ من بناء علاقات تشاركيّة عميقة جدّاً مع جميع مكوِّنات وشعوب المنطقة، وهل بات هذا التحوّل الدّيمقراطيّ في مناطق الإدارة يُشكِّلُ خطراً على القوى الإرهابيّة، وكذلك تلك المعتمدة على الفكر والإيديولوجيّة القومويّة في بناء دولها وأنظمتها، أم أنَّ وقوع جُلّ مصادر الثَّروة (النَّفط والغاز والحبوب) في مناطق الإدارة، جعلت سِهام الكُلّ تتوجَّهُ نحوها، أم أنَّ التسيُّب وحالة الإهمال وضعف الإدارة وغياب الشَّفافية في عمل مؤسَّساتها وندرة الخبرات الأكاديمية لديها، دفع بالأطراف المعادية تنهش في جسدها الغضِّ، ويجد فيها المتسلِّقون والانتهازيّون فرصة لتحقيق مآربهم الشَّخصيّة والنَّفعيّة.
إنَّ جميع تلك التساؤلات تغدو صحيحة ومشروعة في الحالة الرّاهنة للإدارة الذّاتيّة، إلا أنَّ جوهر التحدّيات أمامها سياسيٌّ وعسكريٌّ قبل أيّ شيء آخر، وهو يرتبط بعوامل أحياناً تفوق قدرة الإدارة التغلُّب عليها أو احتوائها، ضمن الإمكانات المحدودة لديها، تزامناً مع حالة الحصار المفروض عليها من الحكومة السُّوريّة، وتتّبُع تركيّا لكُلِّ خطوة لها ومعاداتها المفتوحة على كُلّ الاحتمالات، أقلُّها شَنُّ الاعتداءات بشكل يوميّ، ما يُعَدُّ عامل عدم استقرار في مناطقها. وتَظَلُّ مخاوف شَنِّها عدواناً عسكريّاً على غرار ما جرى في عفرين وسري كانيه وكري سبي قائمةً ما دام ما يُشغِلُ العقل السِّياسيّ والعسكريّ التُّركيّ محو أيّ إنجاز يتعلَّق بالكُردِ ومصيرهم في المنطقة، وتركيّا ونخبها السِّياسيّة وحتّى الثَّقافيّة مأخوذة بالفوبيا الكُرديّة.
إنَّ حدود الصراع بين قوى الهيمنة الرَّأسماليّة والأنظمة القومويّة والثيوقراطيّة في المنطقة، تجد تعبيراتها السِّياسيّة والعسكريّة بشكل أكثر جلاء في مناطق الإدارة الذّاتيّة. فرغم تواجد قواعد للتَّحالف الدّوليّ هناك؛ إلا أنَّ الطرفين المتصارعين لا يختلفان كثيراً عندما يتعلَّق الموضوع بالكُرد والشُّعوب المشتركة معه في مشروعهمالدّيمقراطيّ، لجهة محاولات تقويض تلك التَّجربة، وعدم تمكينها للعبور إلى حالة سياسيّة سوريّة عامَّة، لتشكِّلَ معها نقطة جذب واستقطاب للقوى الوطنيَّة والدّيمقراطيّة. وفي هذا الصدد يجدر بالذِّكر أنَّ صمت قوّات التَّحالف الدّوليّ عن الاعتداءات التُّركيّة اليوميّة على مناطق الإدارة، لا يُفسَّر إلا في إطار عدم رغبتها في تطوير تلك الحالة الدّيمقراطيّة، لتصبح بديلاً مناسباً للشَّعب السُّوريّ. وكذلك المسرحيَّة المكشوفة التي تديرها كُلٌّ من الولايات المتّحدة وإيران عبر استهداف الأخيرة لقواعد التَّحالف في مناطق سيطرة (قسد) والإدارة الذّاتيّة، ما هي إلا لعبة ممجوجة من الطرفين، بهدف جَرِّ المنطقة إلى مستنقع العنف والعنف المضاد، وكذلك للتَّغطية على أدوارهما المشبوهة في حرب غزَّة.
إنَّ موجة تسونامي السِّياسيّة التي تتعرَّض لها المنطقة جرّاء الصراعات متعدّدة الجوانب والأهداف، تُعتبر حالة مكثَّفة ومتطوِّرة من جملة الصراعات العالميّة بين القوى الكبرى، وتجد مرتسماتها بشكل أكثر وضوحاً في جغرافية الشَّرق الأوسط، وتحديداً في فلسطين وكردستان وسوريّا. ولعلَّ مشاريع الهيمنة الجديدة، السِّياسيَّة والاقتصاديَّة والعسكريَّة المطروحة عالمياً، تختصر وتهمّش نضال الشُّعوب في سبيل نيل حقوقها، وتُلجم أيّ تطور ديمقراطي في دولها. فالانكشاف الفظيع والا أخلاقيّ لممارسات تلك القوى، بما فيها المحلّيّة، تتغذّى من التطرُّف الإسلامويّ والقومويّ المُنفلت من عقاله، رغم أنَّها باتت أفكار إيديولوجيَّة بالية عفا عليها الزَّمن، ولم تَعُدْ تستسيغها شعوب المنطقة. أدوات اللُّعبة التي تديرها القوى الرَّأسماليَّة الكبرى، تحاول هي الأخرى أن تجد متنفَّساً لها في ساحة الشَّرق الأوسط، وتأخذ نصيبها من الكعكة، خاصَّةًتركيّا المدفوعة بقوَّة مشاريعها الاحتلاليّة المستندة إلى الإيديولوجيّة التُّركيّة – العثمانيّة– الدّينيّة الهجينة، وإيران المتسلِّحة بإيديولوجيَّتها الفارسيّة المتستّرة بلبوس المذهب “الشّيعيّ”، فيما المونارشيّات والجمهوريّات العربيّة تختبئ خلفَ إصبعها، ولا شيء يُشغِلُها سوى الحفاظ على ديمومة حكمها، ولو كلَّفها ذلك تدمير بلادها أو رهنها للخارج.
ضمن هذه المعمعة المحتدمة أوّارها في المنطقة؛ تُعَدُّ الإدارة الذّاتيّة رقماً صعباً في جملة معادلات التَّوازن والصراع في المنطقة. فإن كانت قد تجاوزت التحدّي الوجوديّ ككيان يُمثِّل إرادة شعوب ومكوِّنات المنطقة؛ فإنَّها في ذات الوقت تَمُرُّ من عنق الزُّجاجة، لجهة حجم التَّهديدات والتحدّيات التي تواجهها، وبالتّالي قدرتها على ردِّها وتجاوزها بأقلِّ الخسائر الممكنة، والعبور إلى مرحلة البدء بالتَّنمية المُستدامة، وبناء أسس إدارة رشيدة، وصولاً إلى الاندغام والولوج في المعادلة الدّوليّة والإقليميّة.
المساحة الزَّمنيّة المُتاحة أمام الإدارة الذّاتيّة لإعادة صياغة قوَّتها الذّاتيّة المبنيَّة على ما اكتسبته خلال سنوات نضالها وكفاحها تضيق أحياناً، وتبدو أنَّها ضرورة مُلحّة تفرض نفسها بقوَّة، طالما كانت هي المنطلق والمستقرّ في بنائها الدّاخليّ، وهو ما تعوّل عليه في حراكها الدِّبلوماسي والسِّياسيّ، ولا شيء غيره تُراهِنُ عليه. وفي هذا السِّياق، تبدو عمليّات التَّحصين الدّاخليّ والاعتماد على الأكفّاء والمخلصين، وغربلة وتطهير مؤسَّسات الإدارة من العناصر الفاسدة، استحقاقاً آنيّاً لا مجال للتَّأجيل والتَّسويف فيه، بل ينظر العديد من المراقبين والمحلّلين أنَّ الإدارة تأخَّرت كثيراً للبدء بهذه الخطوة، والتي دون شَكٍّ ستلقى استحساناً من قبل جميع أبناء المنطقة والغيورين على الإدارة من القوى الوطنيَّة والدّيمقراطيَّة. فإن كان تنظيم “داعش” الإرهابيّ ومسلّحو الحكومة السُّوريّة الذين يتسلَّلون إلى مناطق الإدارة، يُشكِّلون تهديداً مباشراً للإدارة وقوّات سوريّا الدّيمقراطيّة، فإنَّ عمليَّة النَّخر الدّاخليّرُبَّما تفوقها خطورة، وضرباتها أكثر إيلاماً وضرراً.
ومثلما يُعلِّمُنا التّاريخ والحاضر، بأنَّ السِّياسة لا تمارس بالنَّوايا الحَسَنَة؛ بل هي حسابات دقيقة، وتستند إلى معادلات القوّة؛ ولا يَعتقد أحد أنَّ هذا المبدأ غائب عن أصحاب القرار السِّياسيّ والعسكريّ في الإدارة الذّاتيّة، ولكن يجب ألا تكرِّرُ الإدارة تجربة أنظمة المنطقة، بأن تلهيها معاركها الخارجيّة عن معركة البناء الدّاخليّ، فالأولى تستمدُّ قوَّتها من الثّانية، ولا نصر ونجاح فيها دون بناء داخليّ قوي ومتين ومحصَّن، وهذا ما أثبتته تجارب شعوب العالم أجمع.
يبقى لدى الإدارة طاقتها وقوَّتَها الكمونيّة التي لا تنفد، رغم محاربتها دفاعاً عن وجودها وشرعيَّتها على أكثر من جبهة سياسيّة وعسكريّة فيما مضى من الوقت طيلة عمر الأزمة السُّوريّة، وهي محكومة بحمل أعباء النُّهوض بالواقع السُّوريّ وإيصاله إلى مرحلة الحلول الوطنيَّة والدّيمقراطيَّة النّاجعة، لتعكس رغبات وأماني الشَّعب السُّوريّ برمَّته، خاصَّةً بعدما استهلكت جميع القوى الظرفيّة والآنيّة التي وُلِدَت مع الأزمة قوَّتها وأفرغت ما في جعبتها وفقدت كُلَّ ديناميكيّاتها ودخلت مرحلة الانقراض بالمعنى السِّياسيّ، بالمقابل فإنَّها– أي الإدارة – تصوغ الآن مشروع دَمقرَطَةِسوريّا وإيصالها إلى بَرِّ الأمان.