الإسلام السياسي.. أدوارٌ مشبوهة وبيئة مولّدة للتطرّف والإرهاب
محمد عيسى
لا يخامر الشك أحداً اليوم من أصحاب العقل والتفكير الموضوعي أن الإسلام السياسي هو المعضلة الأولى التي باتت تواجه مصير الدول ووحدة المجتمعات واستقرارها في منطقتنا العربية، وعلى نطاق الشرق الأوسط عامة، ولامبالغة في القول إنه أداة التهديد الأكبر للسلم العالمي.
بعد انطلاق المغامرة الأخيرة في غزة تحت مسمى “طوفان الأقصى”، وبِهَدْيٍ من الشعارات الراديكالية لتنظيمات الإسلام السياسي، متمثلة بحركتي “حماس” و”الجهاد الإسلامي” الفلسطينيتين، والتي وقعت في فخ الطرف الإسرائيلي الحذق، من جهة، والمتفلت من أي ضوابط أخلاقية أو إنسانية، من جهة أخرى،ما أحال ليكون الإسلام السياسي، وضمن ما يسمى بـ”الأطر الجهادية” و”تحرير المقدسات”، وبتحريض من روّاد المشاريع الجهادية القرووسطية في طهران وأنقرة قد دفعت بالشعب الفلسطيني المُعذَّب إلى محرقة فظيعة وإلى مواجهة رحلة عذاب وتهجير واقتلاع جذور جديدة لم يشهد التاريخ مثيلاً لها، إلا فيما تختصره الذاكرة الجمعية الفلسطينية عن كوابيس الترانسفير والتي ترافقت مع قيام دولة إسرائيل وحرب الـ/48/،أو فيما واجهه اليهود أنفسهم من اشتواء في أفران النازية،أو على نحو يذكّر بمجازر الأتراك العثمانيين بحق الأرمن والكُرد والروم وباقي الأعراق والمكونات.
فالإسلام السياسي الذي يتلطى اليوم خلف شعارات تحرير “المقدسات” وأفكار الجهاد لنصرة الدين وتعميم قيمه، لم يكن ومنذ نشأته ممثلاً بحركة “الإخوان المسلمين” في عشرينيات القرن الماضي بعيداًعن التطرف والإرهاب، وفي جميع تنظيراته وممارساته،أو بريئاً من خاصتين مذمومتين؛ الأولى: اعتماد العنف والإرهاب أسلوباً في العمل السياسي، وهو ما نجد تمهيداً له في كتابات “سيّد قطب” مُلهم ومؤسس الجماعة. والثانية: ضلوعه في خدمة المشاريع الخارجية المشبوهة، وفي الوقوف ضد قوى التحرر والديمقراطية ورموزها.ومن الأمثلة على التخلّق بالعمالة والإرهاب يأتي تورطها في محاولة اغتيال الزعيم المصري الراحل “جمال عبد الناصر” وفي اغتيال الرئيس “أنور السادات” على يد تنظيم “التكفير والهجرة” المتولد من مفقسة “الإخوان المسلمين” في مصر. وبعدها الجرائم التي تورّطفيها تنظيم “حركة الطليعة المقاتلة/ جماعة مروان حديد” في سوريا، والتي خرجت بدورها أيضاً من عباءة حزب “الإخوان المسلمين”، وقد طالت جرائمها العديد من النخب العلمية المسالمة وكثيراً من العُزَّل العلمانيين السوريين الأبرياء في سبعينات وثمانينات القرن الماضي.
وبالاستناد إلى هاتين الخاصتين، الإرهاب والعمالة، كانت التنظيمات الإسلامية وتيار “الاخوان المسلمين” على وجه الدقة، تمثل حصان الإمبريالية ورأس حربتها طيلة الحرب الباردة في مواجهة الاتحاد السوفيتي والأحزاب الشيوعية وحركات التحرر الوطني والاجتماعي، أما لماذا هي حركات الإسلام السياسي دون غيرها هي من حظيت بهذا التوظيف لدى دوائر رسم السياسات في الغرب؟ فلأن المسألة تتعلق بطبيعة الصراع الذي كان دائراً بين المنظومتين، الرأسمالية العالمية والشيوعية، ونظراً لأن الشيوعية كانت تمثل في حينها تحدياً تاريخياً للرأسمالية، تحدياً يمتلك مقومات سياسية وقيمية إيديولوجية، الأمر الذي كانت تفتقده الرأسمالية باعتبارها منظومة اقتصادية تعتمد على الحرية ومرونة الأسواق وليست أيديولوجيا، ما جعلها بحاجة إلى استئجارالأيديولوجية الإسلامية المتوفرة عند الإسلام السياسي لتشغيلها في مواجهة الفلسفة الماركسية، التي بدت متقدمة في تفسيرها للتاريخ ومتماسكة في تنظيراتها الطبقية، وتبشيراتها الداعية إلى إقامة حكم دولة البروليتاريا، عبر نضال أممي متواصل على مساحة العالم، الأمر الذي أيقظ عند الرأسمالية تدبيرين في غاية الأهمية والفعالية، الأول: مداورة الأزمات الاقتصادية الدورية في بلدانها، واستقطاب الطبقة العاملة، عبر منحها جزءاً مهمّاً من حقوقها.والثاني: هو توظيف القوى الإسلامية في البناء الفوقي للمجتمع، وإجبار الشيوعية على إخلاء مكانها في رؤوس الجماهير، تحت دعوى أنها ايديولوجيا إلحادية. ثم في معاركها ذات الصلة، سيما حربها في أفغانستان والتي كان من سماتها أن الإسلام السياسي كان اللاعب الأكبر في كسبها ضد مصلحة الاتحاد السوفيتي السابق، .وفي أتونها ولد “تنظيم القاعدة” بقيادة “أسامة بنلادن”.
وعلى ضوء ذلك؛ يمكن القول إن تنظيمات الإسلام السياسي كانت طرفاً مستفيداً من الحرب الباردة وسوطاً بيد الإمبريالية ضد طموحات الشعوب الساعية إلى العدالة والديمقراطية، ولم يكن صعود نجمه– أي الإسلام السياسي – في إيران الخمينية التي أفرزت أحزاباً لله في لبنان سوريا والعراق، كبديل عن الأحزاب الوطنية العلمانية واليسارية الديمقراطية، وما تنامي دوره في تركيا؛ إلا تثميناً ومكافأة على ضلوع الأتراك خلال فترة الحرب الباردة في قمع قوى التحرر اليسارية، وكذلك في مؤازرة إسرائيل والصهيونية خلال حروبها ضد الشعوب العربية ومنظمة التحرير الفلسطينية.
ولا يجوز أن نتغافل أثناء تقييم المكافأة التركية من جانب دول الغرب الرأسمالي، ولمصلحة التسامح حيال الصعود في دور حزب “العدالة والتنمية” وقبله في “حزب الرفاه”، عن مسألتين مهمتين، الأولى:أن الجذور الماركسية والطبيعة الديمقراطية الثورية لحزب العمال الكردستاني (PKK) والمحسوب في دورة الاستقطاب الكوني على قوى التحرر العالميةفي مواجهة ما كانتتدعى بالإمبريالية، تلك الحركة التي تعتبر جزءاً من تيار اليسار الثوري الجديدالذي ولد بعد حركة الطلبة الثوريين اليساريين في فرنسا وانتفاضة الكسندر “دوبتشيك” في تشيكوسلوفاكيا السابقة عام 1968،تلك العوامل لعبت دوراً في غضِّ الطرف الغربي الرأسمالي عن تنامي حركة العدالة والتنمية الإسلامي في تركيا الراهنة، واستخدمتها أداة رئيسية لها في تغيير مسار ثورات الربيع العربي وإجهاضها.
والمسألة الثانية: لقد ساد انطباع لدى الكثير من المراكز البحثية والإعلامية، ولدى الكثير من المثقفين، وخاصة بعد انهيار الشيوعية،أن ثمة “إسلام سياسي معتدل” يتمثل بالنموذج التركي الأردوغاني، وبأنه قابل للتسويق في باقي مناطق الانتشار الإسلامي، الأمر الذي دحضته الوقائع الجارية على الأرض وتطورات ثورات الربيع العربي.هذه التطورات التي بيَّنت حجم التورط الإسلاموي التركي فيها، من جهة،عبر أسلمة الحراك الثوري وتطييفه في أكثر من بلد عربي، بدءاً بليبيا ومصر وليس انتهاءً بسوريا التي كان الوجه التركي فيها أكثر قتامة والنشاط أكثر ضلوعاًفي العنف والإرهاب، وكذلك الفشل في ضمان سلمية الحركات الإسلامية، من جهة أخرى.
هذا الفشل المريع والذي كانت علامته الفاصلة تورط المخابرات التركية في دعم ومساندة العمل الإرهابي الذي قضى بتفجير السفارة الأمريكية في طرابلس الليبية عام 2012، هذه الواقعة التي حسمت الموقف حول طبيعة “حزب العدالة والتنمية” وطبيعة حركة “الإخوان المسلمين” والنظر إليها باعتبارها مَفرَخَةُ الإرهابيين ومدرسة مرحلة التأسيس لحركات “داعش والنصرة” ومن لف لفها.
ومن الدلائل التي لا تحمل الجدل عن قطع السياسات الغربية مع وَهْمِ الإسلام المعتدل، وعن اليقين بالفشل التركي في تقديم صورة واقعية تسند ذلك، هو الدعم الذي قدم في العام 2013 للحراك الشعبي المصري الذي أطاح بحكومة “مرسي” الإخوانية في مصر.