آراء وتحليلات

ما وراء غدر تركيا وإيران بـ”حماس”

محمد عيسى

إن الحرب المندلعة في غزة اليوم، والتي انطلقت شرارتها في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، ما زالت الحدث الأبرز الذي خطف اهتمام العالم طيلة الأسابيع الماضية، ومازال يُشغل الرأي العام ويرخي بظلاله على عمل الصحافة ووسائل الإعلام،ويحتل الأولوية لدى مراكز صنع القرار في الدول والتجمعات والأحلاف القائمة في منطقة الشرق الأوسط وعلى مستوى العالم برمته.

هذه الحرب التي نجحت فيها الولايات المتحدة في العناوين الأولى وحتى الآن في إحباط شعار “وحدة الساحات”، عبر استخدام سياسة الدفع بالبوارج وحاملات الطائرات والغواصات النووية إلى شرق المتوسط والبحر الأحمر والخليج، ومن خلال التهديد الصريح الذي أطلقه الرئيس الأمريكي “بايدن” في ساعات الحرب الأولى لكل من إيران وحزب الله والقوى والأطراف الإقليمية، بأن الولايات المتحدة ستدخل كطرف في الحرب ضد أي جهة تسعى إلى توسيع نطاق الحرب،أو تستغل انشغال إسرائيل في حرب مصيرية مع “حماس” والمنظمات الإسلامية الأخرى في غزة.

هذا التطور الذي لم يكن في حساب الإسلاميين الغزاويين وقد كسر رهاناتهم التي  فشلت في تصوّرين أو حول قراءتين اثنتين لارتدادات الحرب، الأول، تركهم لوحدهم في مواجهة قوة الضغط الإسرائيلية الهائلة في رعونتها.وحول هذه النقطة لا يجوز أن يعتري أحد الشك بأن حسابات “حماس” كانت  مختلفة. وكان الناطق باسم “حماس” صريحاً بكلامه حين أعلن في بداية الحرب، وبعد ساعتين من انطلاقها، حيث قال”لقد أطلقنا خلال ساعتين خمسة آلاف صاروخ، وقد بدأت حرب “طوفان الأقصى”، وعلى كل يحمل من السلاح  منأطراف وقوى المقاومة توجه سلاحه نحو العدو”، وهو الأمر الذي لم يحصل.

والتصور الثانيالذي خيب أمل “حماس”، هو استهتار إسرائيل بقصة الأسرى وعدم إيلائها الأولوية التي اعتادت إسرائيل على اعتمادها في كل المواجهات السابقة، بل تبين أنها تتحضر لحرب طويلة لامجال لإنهائها بنصف انتصار.

وإذا كان هذا الإنجاز البدئي قد جاء بفعل التحشّدالأطلسي لمؤازرة إسرائيل؛ فإن إسرائيل لم تكذّب الخبر، وقد أخذت فرصتها وما زالت تمعن في استخدام فائض القوة لديها لنقل الثقل السكاني من شمال غزة إلى جنوبها. فهي ومع تطور حربها إلى المرحلة الثانية، ومع تقسيم القطاع إلى مربعات، ثم إلزام مليون ونصف من السكان على مغادرة منازلهم التي دُمِّرت في أغلبها والانتقال إلى الجنوب، لا تكون بذلك قد أجرت تغييراً ديمغرافياً متواتراً، وكل الدلائل تشير إلى أنه بلا نهاية واضحة حتى الآن، بل تكون قد أبعدت في قطاع غزة الكتلة السكانية الأساسية عن البحر أيضاً، ما يحتم عليها أن تبقى في حالة عزلة وحصار دائمين في قادم الأيام، ناهيك عن الترتيبات التي تجريها لاستئصال “حماس”، حيث يدور حديث واسع في الأروقة وتردده مفوضية الاتحاد الأوروبي، بأن حلاً سياسياً يجري التحضير له، على أن يُطبَّق لاحقاً، وبأن غزة الجديدة بعد الحرب ستكون تحت وصاية دولية وبدون أي دور لـ”حماس”.

أما عن الارتدادات المحتملة لهذه الحرب على دول جوار إسرائيل؛ فلا شك بأنه سيكون لها امتداداً مفتوحا في الزمان والمكان على المحيط الإسرائيلي، وعلى وجه الخصوص الساحة اللبنانية والسورية، الساحتان اللتان مثّلتا طيلة ما يقرب من عقدين من الزمن ملعب إيران الرئيسيلنشر وإشاعة سياسة الممانعة والممر الإجباري لطريق “تحرير المقدسات”، هذا الهدف الذي لم تتقاعس حكومة أردوغان والسياسة التركية عن التوظيف فيه أيضا.

ولأن الوقائع اليومية تثبت صحة هذا الانطباع، وحيث لم تغادر الطيارات الإسرائيلية السماء السورية واللبنانيةفي السنوات الماضية. وبالمقابل كان يدور في الذهن الجمعي الإسرائيلي والعربي، على السواء، مُسَلَّمَةُ مئات الألوف من صواريخ “حزب الله” وهاجس الوصول الى الجليل، والتي بدت مزحة أوهى من عشّ العنكبوت و”ما بعد بعد حيفا”، ضمن نظرية أن “حزب الله” وأطراف المحور الإيراني بالمرصاد للخطر الصهيوني. ولأن الأمر كذلك؛ فقد كان متوقعاً ومفهوماًأن يكرر “نتنياهو” كلامه، في إشارة واضحة إلى أن المقصود منها هو الساحة السورية واللبنانية وحتى العراقية، ..وذلك عندما قال “سنغير وجه الشرق الأوسط بأكمله”.

هذا الكلام الذي أعاد التأكيد عليه في المؤتمر الصحفي الذي عقده ليلة البارحة مع وزير دفاعه لمناسبة الهدنة المؤقتة وتبادل بعض الأسرى، والذي أكد فيه أن إسرائيل متّجهة بعد الهدنة إلى الحرب، وأن هدفها هو تحقيق  النصر المطلق.

أمافي الرسائل الكونيةلزوبعة غزة؛ فيمكن القول إن هذه الحرب لم تكن حرباًإسرائيلية بحتة؛ بل كانت أمريكية وأطلسية إلى حد كبير، وقد سجلت فيها الولايات المتحدة حضورين هامّين؛ الأول، عودة فعالة إلى المنطقة بالاعتماد على سياسة البوارج، بعد أن كانت قد أخلتهابعد عام 2007 لصالح إيران. والثاني؛ حضور في سوريا واسع النطاق، بعد أن كانت قد أوكلت هذا الدور لروسيا بعد عام 2015.

 أما الرسالة الأهم؛ فهي الباب الذي فتح أمام الولايات المتحدة للعودة إلى تبوء موقعها بأنها القطب الأهم في قيادة العالم، هذا الدور الذي كان قد أصابه بعض التشويش بعد الحرب الأوكرانية.

هذه الرسائلالتي لابد أن تكون قدوصلت إلى عناوينها، على خلفية الوقائع والتطورات التي تماشت مع الحرب، والتي كان من أبرزها الظهور الخافت أو الخجول للدور الروسي، هذا الدور فشل في جَرِّ المنظمة الدولية ومجلس الأمن إلى اتخاذ قرار بوقف الحرب، ولقد انحصر جهدها ببيانات الإدانة لسلوك إسرائيل وبضرورة حماية المدنيين، ثم في الانضباط الواضح  للدور الإيراني بعدم توسيع نطاق الحرب. هذا الانضباط الذي تشوبه بعض المعاكسات الخفيفة أو الاستفزازات للقوات الأمريكية المتواجدة في قواعدها في كل من سوريا والعراق.

تلك الاستفزازات التي كثرت في الآونة الأخيرة، وحظيت بردود فعل أمريكية دون مستوى التحدي، على الغالب. ورغم أن البنتاغون في الولايات المتحدة قد رفع من لهجته حيالها مؤخراً؛ فقد يكون القصد الإيراني منها أحد أمرَين؛ الأول، يندرج في إطار رفع العتب الذي بدأ يتنامى في أوساط الشارع العربي والإسلامي، والذي بدأ يومئ إلى تخاذل إيران ويتهمها بتوريد الغزاويين وتركهم لمصيرهم.والثاني، أن تكون السياسة الإيرانية قد استنتجت خطأ موقفها في تجنّب الانخراط في الحرب، وبأن هذا التجنب لن يعفيها من مواجهة محتملة مع إسرائيل حين تنجلي حرب غزة.

بقي أن نشير إلى أن معطيات عديدة  تتضافر، لتؤكد الانطباع بأن شيئاً  كبيراً يجري الإعداد له لإعادة صياغة المنطقة، وبأن خط النقل الجديد الذي يوصل الهند بالخليج وبإسرائيل، وصولاً إلى دول الاتحاد الأوروبي، سيكون حاضراً في ترتيبات المنطقة أو في لزوم إعادة هيكلتها لاستساغة هذا التحول، والذي بدوره سيرفع من حرارة الأتراك أيضاً إضافة إلى الايرانيين والروس. الأتراك الذين أصابهم القلق الكبير والذي عكسته تصريحات أردوغان المتذمّرة والخلبية من الحشود الأطلسية في شرق المتوسط. الاتراك الذين قد يكون أصابهم نفس الشعور الذي أصاب الإيرانيين من أن الدورة قادمة نحوهم، لطالما كانوا معاً شركاء في دعم “حماس” وتسويق الإرهاب في المنطقة والعالم، وبذلك قد يتحضرون في وارد العزف على حلمهم الدائم؛ بتنفيذ اجتياح جديد للأراضي السورية وخلق خلط جديد للأوراق، الأمر الذي من شأنه أن يعرقل الخطط الأمريكية.

وفي سياق ردات الفعل والمواقف الدولية؛ فيجب التوقف عند ملاحظتين، الأولى برودة الموقف الروسي وتراجع الضوء عن الحرب الأوكرانية، ماقد يفيد باحتمال ضلوع الروس بصفقة من نوع ما مع الأمريكان،ما يمكنهم من إعادة شيء من ماء الوجه الذي فقدوه في أوكرانيا، مقابل مساهمتهم بسحق إرهاب الإسلام السياسي في الشرق الأوسط، هذا الاحتمال الذي نجد مادته الأولى في خريطة الطريق الذي رسمها لقاء رؤساء مجالس الأمن القومي الأمريكي (جون بولتون) والروسي مع الإسرائيلي في القدس عام 2019، والذي أعيد عقده مؤخراً.

والملاحظة الثانية، الاجتماع المطول الذي عقده الرئيس “بايدن” منذ أيام مع الرئيس الصيني، والذي قد يكون اشتغل على ملفات وصفقات كبرى، من قبيل أولوية مواجهة الإرهاب، وبخاصة المصنوع في أنقرة، والذي دريئته تحريك  جماعة الإيغور في الصين.

زر الذهاب إلى الأعلى