ماذا تفعل تركيا وسط الدراما العربية؟
محمد محمود بشار
أَثْرَتْ الدراما العربية أغلب شاشات التلفزة التي تبث برامجها بلغة الضاد، وأَثَّرَتْ على أجيال عديدة وخلقت ذاكرة جَمْعية لدى هذه الأجيال ليس فقط من المحيط إلى الخليج، بل أبعد بكثير من الجغرافية التي تُعْرَف اليوم بالعالم العربي.
فالدراما المصرية على سبيل المثال والتي أنتجت مسلسلات (ليالي الحلمية) و(رأفت الهجان)، وكذلك السورية التي أنتجت منذ تقنية الأبيض والأسود مسلسل (صح النوم) وغيره في ذلك الزمن، وصولاً إلى أعمال البيئة الشامية، وأشهرها وأكثرها أجزاءً هو مسلسل (باب الحارة)، حفرت أسماء أبطالها في ذاكرة المتلقّي العربي كما يتم الحفر والنحت في الصخر.
في النتيجة تَسيَّدَت الأعمال الدرامية أغلب القنوات التلفزيونية في العالم العربي، فباتت الأكثر تأثيراً على الرأي العام، وتجاوز تأثيرها الفني في الكثير من الأحيان لتدخل في عالم السياسة من أوسع الأبواب، فأصبحت الدراما تمتلك السيادة المطلقة على المُشاهِدِ من دون مُنازِعٍ.
الدول المحيطة بالعالم العربي، وعلى رأسها تركيا، دائماً ما تراقب مجريات وتفاصيل الشأن العام داخل الدول الأعضاء في جامعة الدول العربية.
وتسعى هذه الدول المحيطة إلى إيجاد موطئ قدم لها داخل هذه البلاد، والعقلية التركية ناجحة في استحضار فترة الحكم العثماني، والتي امتدت لعدة قرون، وإدخالها في ذهن كل فرد أو مسؤول في تركيا الحالية.
واستناداً إلى ما يتم استحضاره من الماضي؛ فإن الأتراك يرون بأن لهم الأولوية في أي تَدَخُّلٍ يتم من قبل أطراف خارجية داخل حدود دول الجامعة العربية.
وقبل أن تتدخل تركيا عسكرياً في العديد من هذه الدول، أطلقت العنان لإنتاجها الدرامي لتحتل حيّزاً كبيراً ومُهمّاً في أيام أغلب المواطنين العرب، من خلال عرض تلك الدراما مدبلجة إلى اللغة العربية عبر القنوات الأكثر مشاهدة في هذا الجزء من العالم.
فكانت تلك الدراما التركية تمر بعدة مراكز في أنقرة قبل أن يتم إرسالها إلى الشاشات التي تبث برامجها باللغة العربية، وفي النتيجة كانت تحمل رسائل سياسية ومجموعة من المعلومات البعيدة عن الواقع، والتي تمَّت صناعتها في أروقة المخابرات التركية وجرى المصادقة عليها من قبل صنّاع القرار في تركيا.
قد يبدو هذا الكلام عند البعض مبالغاً فيه، ولكن بمجرد متابعة تعامل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مع أي نشاط مناهض أو معارض لسياساته، سيتم اكتشاف العديد من الحقائق التي تعتمد عليها هذه الدولة في سياساتها الخارجية. وعلى سبيل المثال لا الحصر، ملاحقة عدة مؤسسات حكومية تركية، وعلى رأسها وزارة الخارجية والقضاء التركي، لشاعر ألماني كتب قصيدة ضد أردوغان، وباتت المؤسسات الإعلامية الرسمية التركية تُسوّق لهذه القصيدة وهذا الشاعر الألماني على إنها حلقة من سلسلة طويلة لمؤامرات غربية تُحاك ضد الرئيس.
في المحصلة كانت أغلب الأعمال الدرامية التركية المدبلجة للعربية تسعى إلى إظهار الكردي الذي يرفض الظلم التي تمارسه عليه الدولة التركية منذ عقود، على أنه “متخلف ومتوحش وبعيد عن الحضارة وغير مبال بالقوانين والمواثيق العصرية”، وكذلك صَوَّرَته على أنه “غير مسلم ومناهض للإسلام”، وذلك في نفس الوقت الذي يعتنق أغلب الأكراد الدين الإسلامي الحنيف.
وتمكنت من زرع هذه الصورة في إذهان ومخيلة عدد كبير من مشاهدي ومتابعي هذا النوع من الأعمال الدرامية، فظهرت من بين ما ظهر من نتائجها، “تكفير الكرد في سوريا” عندما نشبت الحرب في سوريا في عام 2011 وهاجمت العديد من الفصائل المسلحة المدن والقرى الكردية، تحت يافطة “الحرب على الكفّار”.
الانتقال من الدبلجة إلى الإنتاج المباشر باللغة العربية
لكل مرحلة جديدة أدواتها ومفرداتها وإستراتيجيتها الخاصة. تدخّلت تركيا عسكرياً بشكل مباشر في عدة دول عربية. وبحسب القانون الدولي؛ فإن خرق تركيا واجتياحها لحدود عدة دول عربية وإخضاع العديد من المناطق ضمن حدود تلك الدول لسلطة الجيش والمخابرات التركية، يُعْتَبَرُ احتلالاً واضحاً وصريحاً.
وبعد هذا التدخل العسكري، جاء دور الدراما التي تمتلك السيادة على أغلب الشاشات ولها حضور داخل كل منزل، لتكمل ما بدأته الآلة العسكرية.
حيث ظهرت مؤخراً أعمال درامية هجينة، أي أن الممثلين عرب ويتكلمون بلغتهم الأم، إلا أن السيناريو تركي والإخراج تركي وحتى أن أغلب أعضاء طاقم العمل الذي يجلس خلف الكاميرات، هم من الأتراك.
الجو العام للمسلسل هو تركي بامتياز، من حيث مواقع وطريقة التصوير والأزياء التي يظهر بها أبطال المسلسل.
الحلقات طويلة جداً، والحوارات خاوية لا تتضمن أي جملة مفيدة، فقط يكون التركيز على جسد المرأة وتسويقها على أنها علة العلل وسبب كل المصائب، وبالتالي يهدف مالك العمل من خلال هذا النوع من الدراما إلى تشويه حقيقة المرأة العربية، وكذلك جعل المتلقي العربي يبتعد عن جوهر المشاكل الحقيقية التي يعيشها.
وبشكل غير مباشر يتم إظهار تفوق التركي على العربي، وهذا مايريده القائمون على هذه المسلسلات، وبنفس الوقت يسعون إلى نسف الذاكرة الجمعية القديمة وتأسيس ذاكرة جديدة وخاصة للجيل الجديد، وتكون تلك الذاكرة قائمة على ما يقدمه التركي من دراما وأفكار، ظاهرها مظاهر من الرفاهية، وباطنها فيروسات يصعب التخلص منها لعقود من الزمن.
حروب الربيع العربي والإنتاج الدرامي
لجأ الحكّام العرب إلى الدراما للوقوف في وجه الدعاية التي استهدفت مناصبهم وسيادة دولهم، فأصبحت الدراما العربية بعد الربيع العربي، إما ظلاً للحاكم، أوسيفاً بيد المعارضة والحركات الجهادية والتكفيرية، الأمر الذي زاد من نفور وابتعاد المتلقي أو المشاهد العربي عن هذا النوع من الإنتاج الدرامي، وبالتالي بدأ برحلة البحث عن بديل جديد، يشكل له مخرجاً، ولو آنياً ولو لساعة واحدة في اليوم، من هذه الأوضاع التي تمر بها منطقته.
هنا فشل القائمون على الدراما العربية بتقديم ما يَسُدُّ حاجة المتلقي، فدخل الأتراك على الخط، ليقدموا أنفسهم بشكل مغاير تماماً وليحتلوا الشاشات العربية كما احتلوا أراضي العديد من الدول العربية.
في ظل هذه المعركة الدرامية، هناك تغييب للدراما العالمية في المجتمعات العربية، وذلك لأسباب عديدة، ولكن ماذا لو وجدت الدراما العالمية طريقها إلى الشاشات العربية ووصلت إلى المتلقي العربي؟