الجثث التي أنهت أسبوع “راجي” في السويداء
أيمن الشّوفي
الجُثثُ الستُّ لأشخاصٍ وجِدوا مقتولين بالرَّصاص، مرميَّةً عند دوّار “المشنقة”، في الصباح الباكر من يوم الجمعة الماضي، بمقدورها أن تحكي الحكاية بلا تلعثُمٍ، وبكثير من الانتباه أيضاً. كما صار بمقدورها أن ترتاحَ بعدما أتمّت طقوس الطواف على مراكز الفصائل المحلّيّة المُسلَّحة التي أرادت استعارتها، منهيةً بذلك أسبوعاً رمى كثيراً من الفرح، ثُمَّ كثيراً من الأسئلة والإحباط المشؤوم أمام الوجوه، وكأنَّ الحياة هنا لا تزال تمارس لعبتها المُفضَّلة، تراوغُ الجميع باقتدارٍ، ولا تسمح لأحدٍ بأن يراوغها.
صناعة الرُّموز وإنهاءها
يُشبه صعودُ نَجم “راجي فلحوط” متزعِّم عصابة عتيل، أو قائد ما كان يُسمّى بحركة “قوّات الفجر”، صناعَةَ المُنتج المحلّيّ المُعِدِّ للاستهلاك، والذي يحمل غالباً تاريخ انتهاء صلاحيّته، مع فارقٍ بسيطٍ هو أنَّ المُصنِّع لـ”راجي فلحوط” لا يقول لأحد أسرار مكوِّنات التَّصنيع، ولن يسمح لأحدٍ بالاطّلاع عليها.
لقد أدار الأمن العسكريّ الحياة في السُّويداء كيفما يشاء، وبتفويضٍ مباشَرٍ من نظام دمشق؛ خوّله فعل ذلك، ولم يتباين عهدا “وفيق ناصر” و”كفاح الملحم” اللَّذان تناوبا على رئاسة ذاك الجهاز الاستخباراتيّ سوى ببعض الأمور التكتيكيّة في إدارة ملفِّ المحافظة التي ظلّت متكيّفة وظيفيّاً مع الظلم والإجحاف المطبَّق عليها، فالأوَّل كان ديماغوجيّاً صِداميّاً ميّالاً للحسم المباشر، والثّاني كان براغماتيّاً يُتقِنُ صناعة التَّحالفات المحلّيّة وإدارتها، وما الأدوار التي تدرّجَ فيها “فلحوط” خلال مسيرته القصيرة سوى انعكاساً موضوعيّاً لطريقة السُّلطة في إدارة الشأن العام داخل محافظة الدُّروز الجنوبيّة، إذ بدأ “فلحوط” مسيرته كمتزعِّمٍ لعصابة محلّيّة تمتهن الخطف لأجل الفدية، وسرقة السيّارات وبيعها، وإدارة جانب من سوق المحروقات السَّوداء، وترويج المخدِّرات ومن ثُمَّ صناعتها. ولم يكن الرَّيع الماليّ المتأتّي من تلك الأعمال المشبوهة يذهب كُلُّه لتمويل نشاط العصابة ذاتيّاً، فجزؤه الأكبر كان يصبُّ في رصيد الجهة التي تغطّي نشاط العصابة، وتحميه. وعند إعلان التَّحالف ما بين “حزب اللّواء السُّوريّ و”قوَّة مكافحة الإرهاب” التي كان يتزعّمها “سامر الحكيم”، شعر النِّظام حينها بأنَّ الأرض لم تَعُدْ ممسوكةً بالكامل له، بعدما كان قد نجح بلملمةِ ولاءات الفصائل المحلّيّة المُسلَّحة أو كبحها على الأقل، وفي مقدِّمتهم القيادة الحالّية لحركة رجال الكرامة.
وعند إخفاق ما تُعرف بقوّات “الدِّفاع الوطنيّ”، أحد الميليشيّات المُسلَّحة الموالية للنِّظام، في تحجيم قوّة “الحكيم” المتنامية، انتقل “فلحوط” إلى دورٍ جديدٍ، فصار قائداً لحركة “قوّات الفجر”، وامتلكت عصابَته مقرّاً محصّناً في بلدة “سليم” الملاصقة لبلدة “عتيل” التي ينحدر منها “فلحوط”، وتمّ تجهيزه لمعركة تصفية “الحكيم” و”قوَّة مكافحة الإرهاب”، ونجح في ذلك بمؤازرة من الأمن العسكريّ ومن فصائل مُسلَّحة أخرى مقرَّبة منه، ثُمَّ تَمَدَّدَ دور “فلحوط” ليصير أشبه بالحاكم العسكريّ للسُّويداء، ابنُ البلد العاق يحكم بلده، وهذا دورٌ جديدٌ لم يُخلَق “راجي فلحوط” من أجله، فشخصيَّته المثيرة للشفقة، وحضوره الباهت لم يخوّلاه يوماً لملء ذاك المكان، فبصعوده الأخير كان يخوض معركة تصفيته في آن، بعدما كَلَّفه الأمن العسكريّ بمتابعة ملف ما تبقّى من “قوَّةِ مكافحة الإرهاب” التي فقدت قائدها، والتي يعتقد النِّظام بأنَّ جزءاً من حاضنتها هم من “آل الطويل” في مدينة “شهبا”، فاختطف “راجي” وعصابته “جاد الطويل”، ومن هنا بدأت معركة نهايته.
النِّهايَةُ المفتوحةُ على القلق والأسئلة
الكُلُّ كان يراقب صعود ظاهرة “راجي فلحوط” كَبالونٍ، من دون أن يستطيع أحدٌ الجَّزمَ بأيِّ ارتفاعٍ سينفجر، فتحالف العديد من الفصائل الدُّرزيّة المُسلَّحة – ومن أبرزها تلك التي جاءت من مدينة “شهبا” وبلدة “عريقة” بالإضافة إلى بيارق حركة رجال الكرامة – كانت كفيلةً بإنهاء أثر العصابة ومحوها من الوجود خلال يومين فقط، بعدما تمادت في خطف مدنيّين ينتمون إلى مدينة “شهبا”، حيث “آل الطويل” من خلال حواجز أنشأتها لهذه الغاية، وتجاوزَ عدد المخطوفين لديها قبل بدء المعركة حوالي عشرة أشخاص، في حين بلغ عدد قتلى معارك يومَيْ الثُّلاثاء والأربعاء الماضيين نحو 15 أغلبهم من أفراد عصابة “فلحوط”، ونحو 35 مصاباً غالبيّتهم من أفراد العصابة أيضاً.
كان الرَّأيُ العام المحلّيّ في السُّويداء ورُبَّما في سواها متلهِّفاً لسماع اعترافات مدجّجة بالغرائبيّة والرُّعب، كان من المفترض أن يتلوها على مسامعهم “الزَّعيم الظاهرة” راجي فلحوط، بعدما أحاطت الجميعَ معلوماتٌ تشي بأنَّه مُصابٌ بقدمه، وصار أسيراً بحوزة بيرق الشَّيخ “خدّاج” أحد بيارق رجال الكرامة التي شاركت باقتحام مقرّات عصابة “فلحوط”، غير أنَّ هذا الذي لم يحدث، بعدما خرج بيانٌ متأخِّرٌ ليلة الأربعاء من حركة رجال الكرامة ينفي فيه صحَّةَ أن يكون “راجي” أسيراً لديهم، والأدهى من ذلك أنَّهم لا يعرفون مكاناً لوجوده، الأمر الذي يسوقُ عِدَّةَ سيناريوهات إلى واجهة الأحداث دُفعةً واحدةً، أوَّلها أن يكون قد تَمَّ نقله إلى دمشق بصورة سُرّيّة، وبتواطؤ من الشّيخ “يحيى الحجّار” قائد “حركة رجال الكرامة”، هناك سيكون بأمان حيث دولة أبيه الرّوحيّ اللّواء “كفاح الملحم”، أو رُبَّما هو بالفعل أسيرٌ لدى الشِّيخ “يحيى الحجّار” ولا يريدون الإفصاح عن ذلك؛ ظنّاً منهم بأنَّهم يملكون الصندوق الأسود للفظائع التي ارتكبها جهاز الأمن العسكريّ في السُّويداء، أو تلك التي كان يُخطِّطُ لارتكابها، وأنَّهم يجمعون مزيداً من الأدلَّة والمُعطيات والقرائن، وقد يحتاجون وقتاً لإتمام ذلك، ومن ثُمَّ رُبَّما يُعلنون أنَّهم وجدوا “راجي فلحوط” أخيراً ساعة يَحينُ ذلك الإعلان، وثالث تلك السيناريوهات هو أن يكون الزَّعيم الظاهرة “فلحوط” قد مات بالفعل متأثِّراً بجروحه، لكن وبمجرَّدِ إعلان موته سيُقفل باب التكهُّنات على هذا الملفّ، وإلى الأبد. أمّا الإيحاءُ بأنَّه غير موجود لدى “حركة رجال الكرامة”؛ فهذا يعني مزيداً من استمرار لعبة شَدِّ الأعصاب بين الأقطاب الفاعلة على الأرض في السُّويداء، ومزيداً من الانتظار المؤلم أثناء تمارين العَضِّ على الأصابع.
أمّا الجُثث الستّ لأفراد العصابة، والتي وُجدت مرميّةً حول دوار المشنقة، هناك حيث انتظر النّاس مُلاقاة جثّة “راجي فلحوط” بدلاً منها، فقد تكون رسالةً لتهدئة الخواطر القلقة، والتي فقدت الثِّقة بقيادات الفصائل المحلّيّة المُسلَّحة، ورُبَّما اتَّهمتها بالعمالة إلى أجهزة المخابرات السُّوريّة، تلك التُّهمة التي إن ثَبُتت ستُفقِدُ محافظة السُّويداء ملاذاً كانت تعتبره ملاذها الأخير، وسيعذّبَها هذا الفقدانُ زمناً طويلاً قبل أن تتعافى منه.
الآراء المنشورة في المنصة تعبر عن وجهة نظر كتّابها