عودة غوستاف لوبون واتساع دائرة الحروب في العالم
محمد محمود بشار
الحروب لا تضع أوزارها إلا بعد مخاض عسير، وعندما تبدأ نيران المعركة بالاشتعال، لا يخوضها الجنود فقط، بل إن تلك النيران تحتل حيّزاً زمنيا ومكانياً أكبر بكثير من قدرة وإمكانيات أول رصاصة.
ومع اتساع دائرة النيران، فلا ملاذ آمن للجميع سوى أرض المعركة، سواء كانوا جنوداً أو مدنيين، فللخسائر والهزائم سطوتها، حالها كحال الانتصارات التي تفرض نفسها على كل الجبهات، فتُسكِتُ المدافع وتضع حداً لإراقة الدماء التي كانت مستباحة من قبل طرفي النزاع، ومن داخل الخنادق والمتاريس التي كانت عنواناً للحمم الملتهبة، يتم تطبيق إعلان إيقاف إطلاق النار، لتبدأ مرحلة جديدة عنوانها (لا للحرب).
على الأرض نيران ودماء وعلى الشاشات مواجهات كلامية
إنه زمن الحرب التي لا تعرف حدوداً ولاميثاقاً، هذه الحرب تأبى على نفسها أن تعترف بالحدود بين الدول والكيانات، فلم يعد للحدود الدولية أي اعتبار سوى أنه يفيد الطرف الذي يتحكم في القوة الأكبر ويمتلك زمام الأمور، وذلك خدمة لتحديد وتحجيم الجبهات ضمن تلك الحدود وعدم خروجها من تلك الحدود لفترة محددة.
في حرب أكتوبر الأخيرة بين طرفي الصراع الذي دخل عقده الثامن، تتحرك جماهير كل طرف ضد الطرف الآخر، غير مبالية بالدمار الناتج عن هذه الحرب، فكل طرف يسعى إلى النصر الحتمي بكافة السبل والوسائل.
كل جهة تسعى إلى فرض لغتها الخاصة في هذه الحرب، فإسرائيل تعتبر حربها هذه المرة ضد حركة “حماس” ومن يساندها، لذلك تستخدم المؤسسات الإعلامية المساندة لإسرائيل مصطلح”حرب إسرائيل وحماس”، ولحد الآن الحرب على أرض الواقع كجبهات رئيسية هي بالفعل بين هذين الطرفين، باستثناء عدة خروقات من الطرف اللبناني أو من الضفة الغربية أو من سوريا في بعض الأحيان، ولكن بشكل غير مؤثر على مجريات الحرب وطرفيها الرئيسيين.
من جهتها المؤسسات الإعلامية التي تساند “حماس” أو حتى التي لم تكن تساندها، ولكن مع استمرار العملية العسكرية وشدة القصف الاسرائيلي، تلجأ إلى استخدام مصطلح “حرب إسرائيل على غزة” أو “حرب إسرائيل ضد القطاع”.
في هذه الحرب بالذات؛ كل طرف يحاول فقط إرضاء “الرأي العام” في بلده، في محاولة لكسب حركة الجماهير والتحكم بالشارع الذي قد يقلب الطاولة على رؤوس أصحاب القرار في الجانبين، حيث تعرضت إسرائيل لأول مرة لهجوم من تنظيم فلسطيني، فقدت فيه هذا العدد الكبير من الأرواح في يوم واحد، فقتلت “حماس” من المدنيين والعسكريين أكثر من ألف وثلاثمئة شخص.
وبالمقابل كان الرد الإسرائيلي عنيفاً جداً ومازالت المعركة مستمرة، حيث يومياً هناك ضحايا بين صفوف المدنيين الفلسطينيين، ومن دون شك هناك قتلى بين صفوف حركة “حماس” التي مازالت تمتلك زمام الأمور في القطاع.
أسرار العلاقة بين الفيلسوف الفرنسي وحروب اليوم
يصف الكاتب والمترجم “هاشم صالح” في تقديمه لكتاب (سيكولوجيا الجماهير) الذي قام بتأليفه الكاتب والفيلسوف الفرنسي “غوستاف لوبون” بأن واضع هذا الكتاب هو مؤسس علم النفس الاجتماعي، ومن خلال هذا الكتاب تبوّأَ”لوبون” مكانته الرفيعة علمياً داخل فرنسا وفي العالم أجمع، حيث اعتمد معظم الباحثين العالميين على هذا الكتاب من أجل دراسة ظاهرة الجماهير.
ويضيف “هاشم صالح” بأن “سيغموند فرويد” أشاد بجهود “غوستاف لوبون”، ولكن من سوء حظه فإن كلاً من “هتلر” و”موسوليني” كانا من قرّائه.
إلا أن مضمون الكتاب هو محاولة علمية لتفسير نفسية الجماهير، وتبيان كيف يتم تحريكها والتأثير عليها من قبل القادة والمتحكمين بالدول.
يسمي “لوبون” العصر الذي عاشه بـ”عصر الجماهير”، ويقول: “إن الجماهير غير ميّالة كثيراً للتأمل، وغير مؤهلة للمحاكمة العقلية، ولكنها مؤهلة جداً للانخراط في الممارسة والعمل. والتنظيم الحالي يجعل قوتها ضخمة جداً، والعقائد الجديدة التي نشهد ولادتها أمام أعيننا اليوم؛ سوف تكتسب قريباً نفس قوة العقائد القديمة: أي القوة الطغيانية والمتسلطة التي لا تقبل أي مناقشة وأي اعتراض. وهكذا نجد أن الحقوق الإلهية للجماهير قد أخذت تحل محل القانون الإلهي للملوك”.
يلقي الكاتب الفرنسي بكل امكانياته العلمية وقدراته على فك الشيفرات النفسية ضمن صفحات هذا الكتاب ويركز كل التركيز على أهمية التقرب من روح الجماهير ومعرفة كيفية التعامل معها، فيكتب التالي: “في الواقع أن أسياد العالم ومؤسسي الأديان أو الامبراطوريات ورسل كل العقائدورجالات الدول العظام،وعلى مستوى أقل زعماء الفئات البشرية الصغيرة، كلهم كانوا علماء نفس على غير وعي منهم، وكانوا يعرفون روح الجماهير بشكل فطري..”.
يصف “لوبون” طبيعة الجماهير بـ”الغرائزية العنيفة” والتي لا تقبل القواعد المشتقة من العدالة النظرية الصرفة وتأثير القوانين، ولكنها تنجذب إلى الانطباعات التي يمكن توليدها في روحها.
يكتب “لوبون” عن (الجمهور النفسي) والذي يتألف من تكتل من البشر، تنطمس فيه الشخصية الواعية للفرد وتصبح العواطف هي التي توجههم، حيث تتشكل روح جماعية ولكنها عابرة ومؤقتة.
أما عن طرق التأثير في الجماهير؛ فيوضح “غوستاف لوبون” بأن هناك عدة خطوات وهي: التوكيد والتكرار والعدوى وهيبة الشخصية القيادية.
هل هو مجرد كتاب أم أنه وصفة سحرية
يمكن لهذا الكتاب أن يحمل الكثير من الصفات والألقاب، ولعل أبرزها هي “الوصفة السحرية” في كيفية التحكم بالحراك الجماهيري وتجييش الرأي العام من قبل أي حكومة أو دولة أو حتى تنظيم سياسي أو عسكري، وذلك للوصول إلى أهداف يصعب الوصول إليها من دون تحرك جماهيري.
صحيح أن مؤلف الكتاب من مواليد الأربعينات في القرن التاسع عشر، إلا أنه عاش ليتجاوز ذلك القرن وليعيش ثلاثين سنة أخرى في القرن العشرين، وبذلك عاصر وعاش الكثير من الأحداث الكبيرة والمصيرية ورافق العديد من الزعماء والملوك والرؤساء والكتّاب والمفكّرين.
عندما تتم قراءة ما كتبه في ذلك الحين، وتتم عملية المقارنة بين كتاباته ومايجري في يومنا هذا، ينتاب القارئ شعور بأن “غوستاف لوبون” جالس بجانبه ويشاهد نشرات الأخبار التي تتحدث عن الحرب الدائرة في وقتنا الحالي في العديد من دول ومناطق العالم.وكأنه يقول للجميع إنها روح الجماهير التي صنعت أسياداً في الماضي مازالت تصنع الكثير إن تمت معرفتها عن قرب والتحكم بالخيوط الخفية التي تحركها.