حرب غزَّة والعلاقات الأمريكيّة – التُّركيّة
جميل رشيد
لاتزال الحرب في غزَّة تلقي بظلالها على التوجُّهات السِّياسيّة لدى العديد من دول المنطقة والعالم، التي انحازت بالمجمل لصالح إسرائيل، في حين ساد الترقُّب والانتظار مواقف البعض الآخر، بعكس ما تروِّج لها ماكيناتها الإعلاميّة، والادّعاء بتأييد حركة “حماس” والشَّعب الفلسطينيّ في حربه ضُدَّ إسرائيل.
على الضفَّة الأخرى؛ اتّصفت مواقف دول أخرى بالازدواجيّة والتَّدليس، عبر التأييد لـ”حماس” في الظاهر، ودعم إسرائيل في الخفاء. فالدَّولة التُّركيّة ورئيسها أردوغان، احتفظا بالصَّمت طيلة أكثر من خمسة عشر يوماً من المعارك الضارية بين “حماس” وإسرائيل، في حين كان التَّواصل مستمرّاً بين الأخيرة وتركيّا، وعلى أعلى المستويات، حسبما سرَّبت وسائل إعلام إسرائيليّة وعالميّة، وأكَّدَت على تقديم أردوغان العزاء للرَّئيس الإسرائيليّ “هيرتزوغ” بمقتل الجنود والمدنيّين الإسرائيليّين، فيما وصلت سفن تحمل مواد غذائيّة لإسرائيل من تركيّا.
هذا الوجه الخفي والظاهر للسِّياسة التُّركيّة، لم تُغيُّره التصريحات الرنّانة لأردوغان بعدم اعتبار “حماس” حركة إرهابيّة، وإدانة الهجمات الإسرائيليّة على قطّاع غزَّة، ولا إلغائه كُلّ الاتّصالات مع الرَّئيس الإسرائيليّ وسحب سفيرها منها، بل عَدَّها البعض نوعاً من المراوغة المعتادة لأردوغان، لانزعاجه جرّاء استبعاده من الصفقات الجارية بين الأطراف المتورِّطة في هذا الصراع، لما بعد حرب غزَّة. فالرَّئيسالتُّركيّ يُدركُ جيّداً أنَّ ارتدادات الحرب وأهدافها أكبر من حدود غزَّة، ولهذا أدان توجُّهَ حاملات الطائرات الأمريكيّة إلى المنطقة لِتَرسُوَ قُبالة الشواطئ الإسرائيليّة، فضلاً عن تواجد عدد كبير من القادة العسكريّين والسِّياسيّين الأمريكيّين في إسرائيل، والدَّعم المفتوح المُقدَّم لها من جميع الدّول الغربيّة، وبأنَّ ما يُخطَّط للمنطقة يتجاوز فلسطين وغزَّة، بل يطال جميع الدّول، ليحقّقَ التفوق الأمريكيّ والإسرائيليّ في المنطقة، ويرسم خرائط سياسيّة جديدة، رُبَّما تصل حدود هذا التغيير تركيّا أيضاً، طالما أنَّ الحرب أضحت نقطة جذب قويّة تجرُّ كُلّ الأطراف والقوى.
فرغم الأهميّة التي تتمتَّع بها تركيّا ضمن المشاريع الغربيّة في المنطقة من الناحية الجغرافيّة والعسكريّة، والتي دائماً استخدمت رأس حربة في تفتيت المنطقة وتقسيمها؛ فإنَّ نوازع الرَّئيس التُّركيّ الحالي المنقسمة بين المطالبة والولاء لمبادئ “العثمانيّة” و”الإسلامويّة”؛ تدفع بتركيّا نحو فقدانها لبوصلتها، وعدم وجود إستراتيجيّة واضحة لها في ظِلِّ الصراعات الجيوسياسيّة التي تجتاح المنطقة والعالم، والاقتصار على النَّهج “الشعبوي” الذي لن يُفضِيَ إلى نتيجة سوى الضياع، بين حوافر “صراع الفيلة”، كما وصفه الرَّئيسالأمريكيّ السّابق “ترامب” سابقاً.
الاستقبال الباهت لوزير الخارجيّة الأمريكيّ “أنتوني بلينكن” في أنقرة قبل عِدَّةِ أيّام، يُعبِّرُ بكُلِّ وضوحٍ عن خروج تركيّا حتّى عن الأعراف البروتوكوليّة المتعارف عليها بين الدّول، حيث استقبل “بلينكن” من قبل نائب والي أنقرة ولم يتوجَّه وزير الخارجيّة التُّركيّ “حقّان فيدان” إلى المطار لاستقباله. وأدرك “بلينكن”، ومنذ لحظة استقباله في المطار، بأنَّ تركيّا تتعمَّد التخفيف من وقع زيارته؛ فلجأ هو الآخر إلى الانشغال بالحديث على الموبايل بعد وصول سيّارته أمام مبنى الخارجيّة التُّركيّة، ما اضطرَّ معه “فيدان” إلى انتظاره ريثما ينزل من سيّارته، وبعد تأخُّره؛ تركه وتوجَّه إلى داخل المبنى، فيما تحاشى “فيدان” من معانقة “بلينكن”، ما تسبَّبَ بحرج كبير للأخير، هذا فيما نُشرت صورة له كتب بجانبها “قاتل الأطفال”، ووضعت بجانب صورة “أبو عبيدة” المتحدّث الرَّسميّ باسم “كتائب عزّ الدّين القسّام” الجناح العسكريّ لحركة “حماس”. وأثناء اجتماع الوزيرين، والذي استغرق نحو ساعتين ونصف، ووصفت المحادثات بينهما بالشّاقة، وُضع بجانب كرسيّ “بلينكن” مجسَّم للمسجد الأقصى ويلفه هلال ونجمة، في إشارة إلى العلم التُّركيّ واحتضان تركيّا للمسجد والدِّفاع عنه. كذلك تهرَّبَ الرَّئيس أردوغان من اللِّقاء مع “بلينكن” عندما ذهب في جولة غير معلنة إلى منطقة شمال شرق تركيّا على البحر الأسود، كرسالة إلى الولايات المتّحدة تُعبِّر عن رفضه لما تُخطّط له الولايات المتّحدة في المنطقة.
لم يرشَّح عن اجتماع الوزيرين أيّة معلومات، حيث لم يعقدا مؤتمراً صحفيّاً بعد الاجتماع، ولا ترشَّحت عنه أيّ تسريبات عن فحوى النّقاشات. فهو إن دَلَّ على شيء؛ فإنَّه يَدُلُّ على عدم الوصول إلى أيّ تفاهمات مشتركة حول الموقف من الحرب في غزَّة ومجمل الملفّات العالقة بين البلدين، رغم أنَّ “بلينكن” يُعَدُّ موالياً للسِّياسات التُّركيّة ضمن إدارة الرَّئيس بايدن، ولكنَّ الغموض الذي لَفَّ محادثاته مع “فيدان” يعكس حجم التَّناقضات بين البلدين.
كذلك تظاهر المئات من الأتراك في محيط قاعدة “إنجرليك” الأطلسيّة، وطالبوا بنقلها من الأراضي التُّركيّة، وأرادت من خلالها القيادة التُّركيّة توجيه رسالة إلى الوزير “بلينكن” بأنَّ لدى تركيّا القدرة على استخدام أوراق قوَّتها ضُدَّ الولايات المتّحدة والأطلسيّ، وأنَّ أيَّ اتّفاقات مع دول المنطقة دونها، إنَّما مصيرها الفشل.
تُرجِمَ عدم التَّوافق الأمريكيّ مع الطروحات والمطالب التُّركيّة، في شمال وشرق سوريّا، عندما أسقطت قوّاتها طائرة مُسيَّرة تركيّة ثانية في أجوائها، وهي كانت الرِّسالة الأقوى والمباشرة من الولايات المتّحدة على الاستخفاف باستقبال وزير خارجيّتها، وخروجها عن الإجماع الغربيّ في دعم إسرائيل في حربها على غزَّة.
الانزعاج التُّركيّ مَرَّدَه تجاهلها واستبعادها من المشاريع الحيويّة والإستراتيجيّة في المنطقة، مثل “الممرّ الهنديّ” وتحويل خطوط نقل الطاقة من الخليج العربيّ والواصلة إلى أوروبا من أراضيها. والجعجعة التُّركيّة وصراخها ينبع من عدم إشراكها في الاتّفاقيّات التي عُقِدَت تحت الرّعاية الأمريكيّة حول نقل خطوط الغاز والنَّفط عبر ميناء حيفا والبحر الأبيض المتوسِّط إلى أوروبا.
سيعمد الرَّئيس التُّركيّ إلى التَّصعيد مع الولايات المتّحدة أكثر في قادم الأيّام، طالما أنَّ الأخيرة أدارت ظهرها للدَّور التُّركيّ في الحرب، حيث لم يأخذ أيُّ طرف بالدَّعوة التُّركيّة إلى وقف إطلاق النّار، بل اعتبر “بلينكن” أنَّ من حقِّ إسرائيل الدِّفاع عن نفسها ضُدَّ “الهجمات الإرهابيّة لحماس”، حسب وصفه.
حتّى أحداً لم يلتفت إلى مطالبتها بتدفُّق المساعدات الإنسانيّة إلى سُكّان غزَّة. الامتعاض التُّركيّ من تجاهل دورها في الحرب، فجَّرته أنقرة خلال زيارة “بلينكن” لها، ولكن ارتدادات الزِّيارة السَّلبيّة ستنعكس على أنقرة وحدها، ولن تكترث الولايات المتّحدة لتركيّا، لطالما اتّخذت الأخيرة نهج الازدواجيّة في المواقف.
لكن يُتوقَّع أن يلجأ أردوغان، عندما يدرك حجم الغضب الأمريكيّ منه، إلى الاستدارة نحوها والانقلاب على نفسه ومواقفه السّابقة، والانخراط في الجوقة الغربيّة المؤيِّدة لإسرائيل، وفي اللّحظات الحرجة التي يتيقَّن فيها أنَّ أكلاف معارضته لأمريكا ستكون باهظة عليه وعلى بلاده، خصوصاً إذا ما تحوَّل الغضب الأمريكيّ إلى دعم الكُردِ والإدارة الذّاتيّة في شمال وشرق سوريّا أكثر من السّابق. وضمن هذا السّياق بدأ الإعلام التُّركيّ يلفِّق الأكاذيب ويمارس سياسة غوبلزيّة مُفرطة ومفضوحة حيال الكُرد والإدارة الذّاتيّة وقوّات سوريّا الدّيمقراطيّة، عندما ادّعى إرسال الأخيرة مقاتلين لها إلى إسرائيل للقتال معها ضُدَّ “حماس”، وهو سُرعان ما فنَّدته عِدًّةُ وسائل إعلام عالميّة، حيث لم تعد تلك الأكاذيب المضلِّلة المختلقة تنطلي على أحد، بعد أن قطعت تركيّا شوطاً كبيراً في دعمها للحركات الإرهابيّة، وفي مقدِّمتها “داعش” و”النُّصرة” و”حركة الإخوان المسلمين”.
وفي ظِلِّ تصاعد الدَّعوات الإسرائيليّة المتطرّفة، والمدعومة غربيّاً، بتهجير الفلسطينيّين من غزَّة وإفراغها من سُكّانها، وبعد رفض كُلٍّ من مصرَ والأردنِّ في توطينهم في أراضيهما؛ من غير المستبعد أن تُقدِّم تركيّا عرضاً سخيّاً على إسرائيل والولايات المتّحدة لتوطين الغزيّين في الأراضي التي تحتلُّها في سوريّا، وخاصَّةً في المناطق الكُرديّة مثل عفرين وسري كانيه/ رأس العين وكري سبي/ تل أبيض، كنوع من “الرَّشوة والمصالحة”، للصَّفح عنها من قبل الدّول الغربيّة، حيث أنَّ ديدنَ السِّياسة الخارجيّة والدّاخليّة التُّركيّة، وفي جميع مراحلها، إبادة الكُردِ وتهجيرهم، من خلال ارتكاب المجازر بحقِّهم وإجراء عمليّات التَّغيير الدّيمغرافيّ في مناطقهم.
تحاول تركيّا عبر استخدام كُلِّ وسائل قوَّتها إيجاد موقع قدم لها في المخطَّطات المستقبليّة حيال المنطقة، ومثلما تدخَّلت بشكل سلبيّ، وبقوَّةٍ، في ثورات شعوب المنطقة ضُدَّ أنظمتها، فإنَّها أيضاً ستعمل على إقحام نفسها في حرب غزَّة، لتغدو طرفاً فاعلاً لما بعد الحرب، وذات دور فاعل مع شركائها الغربيّين في تقسيم المنطقة وتفتيت شعوبها، وفي مقدِّمتهم الشَّعب الكُرديّ.
لن تَركُنَ تركيّا جانب الحياد في حرب غزَّة وفي أيِّ حرب وصراع في المنطقة، وهو ما بات ثقافة مُستدامَة لدى النُّخب التُّركيّة الثَّقافيّة والسِّياسيّة المتعاقبة، بل سترمي بكُلِّ الأوراق التي تمتلكها فيها، من استخدام المرتزِقة السُّوركيّين وزجِّهم في القتال إلى جانب حركة “حماس” ومَدِّها بالأسلحة والعتاد المتطوِّر بما فيها الطائرات المُسيَّرة، وتوثيق تحالفها مع إيران، ومحاولة إشعال جبهات حرب أخرى خلفيّة، وخاصَّةً في مناطق شمال وشرق سوريّا، في ظِلِّ انشغال العالم أجمع بحرب غزَّة، ولكن هل سَتُلجِمُ الولايات المتّحدة تركيّا من اللَّعب في الضُدِّ من مصالحها وتوجُّهاتها في المنطقة؟
هذا ما ستُجيبُ عليه التطوّرات اللّاحقة للحرب، وما ستفرزه من استقطابات وتجاذبات جديدة.