قراءة في تاريخية المعارضة السورية وحاضرها
محمد عيسى
بعد وصول حزب البعث إلى السلطة في سوريا،إثر انقلاب عام 1963 من القرن الماضي؛ بدأت تتكرس ملامح نظام شمولي ذو نزعة استبدادية في حكم البلاد، كانت أكثر تبلوراً ورسوخاً بعد الحركة التي قادها حافظ الأسد والذي تبوأ بعدها رئاسة البلاد وموقع الأمين العام لحزب البعث الحاكم على مدى عقود ثلاث، استمرت حتى وفاته في العام 2000 وتولي المنصب بعده من قبل نجله الرئيس الحالي بشار الأسد.
هذا المنعطف في الحياة السياسية السورية نما وتطور بفعل عاملين؛ الأول، توفر حوله تفاهم دولي عزَّزه احتضان الاتحاد السوفيتي السابق الذي كان قد ضاق زرعاً بالسياسات الراديكالية التي دأب تيار “صلاح جديد” على انتهاجها وكانت متناقضة في حينها مع التفاهمات الدولية والتسويات المطروحة حول الصراع العربي الإسرائيلي، والثاني، وفاة الرئيس المصري جمال عبد الناصر الذي كان داعماً بقوة لسياسات البعث القديم المناهضة للرجعية العربية وإسرائيل.
ومع تبني بيان القيادة القطرية المؤقتة لحزب البعث في العام 1970 بمقولة إن حركة التحرر العربية تواجه بالدرجة الأولى تحدياً وطنياً يتركز حول أولوية الإعداد للحرب مع إسرائيلوتحرير الأرض، وليس لتحدي اجتماعي يعطي المكانة الأولى للعدالة الاجتماعية، كان من الطبيعي أن يحصل على خلفية ذلك انقسام حاد في بنية القوى والأحزاب السياسية القائمة، وكانت البداية مع الحزب الشيوعي السوري الذي انقسم منذ العام 1972 إلى فصيلين متناقضين ومتناحرين، الأول تمثل بتيار “خالد بكداش”، الذي تحالف مع نظام البعث ضمن صيغة “الجبهة الوطنية التقدمية”، والثاني فصيل الحزب الشيوعي السوري–المكتب السياسي بقيادة “رياض الترك”، والذي انتهج بعد ذلك نهجاً معارضاً لسلطة الأسد ونهج البعث، ولتشهد الساحة السورية انقسامات مشابهة ولنفس الدواعي والمقاربات، شملت الأحزاب والتيارات القومية والناصرية القائمة، بعضها دخل في الشراكة مع البعث أسوة بـ”خالد بكداش” مثل مجموعة “فايز إسماعيل” وصفوان قدسي” وآخرين، وبعضها لزمت صفوف المعارضة، وكان الأبرز في هذا الاستقطاب دور حزب الاتحاد الاشتراكي بقيادة الدكتور “جمال الأتاسي” ذي النزعة الديمقراطية العلمانية، و”تيار الجراح” ذو الميول الإسلامية وآخرين.
ومما يجدر ذكره أيضاً أن حركة الاستقطابات قد طالت أيضاً تيار البعث، ولتتشكل في المعادلة السورية وعلى المستوى القومي العربي، وعلى خلفية ما جرى في العام 1970 توجهات بعثية ثلاث، تمثلت بالإضافة إلى تنظيم السلطة تيار “بعث العراق”، وآخر حمل اسم “البعث العربي الديمقراطي” تولى قيادته من الجزائر وزير خارجية سوريا الأسبق الدكتور “إبراهيم ماخوس”. هذا التيار الذي تآكلت قاعدته الحزبية كثيراً بعد منتصف سبعينات القرن الماضي لصالح فصائل ماركسية أخرى، كان جلها ينضوي تحت اسم تنظيم وليد دُعِيَبـ”رابطة العمل الشيوعي”، عرفته الساحة السورية في ذلك الوقت، ثم تطور لاحقاًإلى مسمى “حزب العمل الشيوعي”، كما ذهب البعض الآخر إلى صفوف تيار “الترك”.
بقي أن نشير إلى أن تيار الإخوان المسلمين المشكل منذ الثلاثينيات، لم يهادن مع النظام الذي بدأ يرسّخ أقدامه كلاعب مؤثر في المشهد المحلي والعربي، وخاصة بعد حرب تشرين في العام 1973، بل خاض معه معركة كانت ذات دوافع طائفية حول دين رئيس الدولة في دستور 1973 من نفس العام. ثم بالاعتماد على صداقته مع نظام الملك حسين ونظام بعث العراق؛ صعد من مواقفه ضد نظام الأسد الذي لم يشفع له تقربه من رجال الدين واهتمامه المتزايد بتفعيل دور المؤسسة الدينية وتنشيط حركة بناء المساجد. ولأنه كان قد وقف في ذلك الحين ضد اتفاقية”كامب ديفيد” بين مصر وإسرائيل، عمد تنظيم الإخوان جراء ذلك إلى تطوير جناح عسكري دُعِيَ بـ”تنظيم الطليعة المقاتلة” بقيادة “مروان حديد”، الذي نظم ونفذ مجزرة المدفعية الشهيرة بحلب في حزيران من العام 1979، راح ضحيتها مجموعة كبيرة من طلاب الضباط العلويين، قادها وأدارها الضابط البعثي المزدوج التنظيم ومسؤول الأمن النقيب “إبراهيم اليوسف”، ولتترافق هذه المجزرة مع حملة واسعة من الاغتيالات طالت نخباً علمية وأمنية من الطائفة العلوية، وذلك ضمن سلسلة عمليات تمرد للانقلاب على النظام، ما دفع الأخير إلى إبداء ردّات فعل شديدة انتهت بسحق التنظيم العسكري للإخوان، وتخللتها مجازر ومآس عديدة، دفع السوريون الأبرياء جراءها أثماناً باهظة.
وعلى ضوء ذلك الصراع الدامي في أواخر السبعينات وبداية الثمانينات بين جناح الإخوان المسلمين المسلح ذي الرؤية والنهج الإسلاموي الإرهابي، من جهة، والطائفي، من جهة أخرى، بدأت تتشكل ملامح اصطفاف القوى السياسية السورية،وتمظهرت من خلال تكوّن عناصر اللغط والالتباس في طبيعة وتوجهات المعارضة السورية، والتي مازالت ترخي بظلالها على المشهد السوري العام حتى الآن.
تجلى ذلك اللغط بإصرار فئات في المعارضة السورية على توصيف تحرك الإخوان المسلمين آنف الذكر بـ”الانتفاضة الشعبية الوطنية” ضد وضع لا وطني، مثلته سياسات النظام الذي كان في أوج مناهضته لاتفاق الصلح والتطبيع مع إسرائيل،إضافة إلى ذروة علاقته مع السوفييت، حيث ارتبط معهم باتفاقية الصداقة والتعاون ذات العلامة الدالة. وللتاريخ؛ يجب أن يكون واضحاًأن “رياض الترك” كان مهندس فكرة الصدام مع النظام في اللحظة الخطأ،إضافة إلى أنه كان منسق التحالف الخفي مع حركة الإخوان المسلمين، والذي يسجل عليه رفضه إدانة مجزرة المدفعية ووصفها بالعمل الإرهابي.
كما ساهم “رياض الترك” في تأسيس”التجمع الوطني الديمقراطي” الذي تشكل في العام 1981 من أحزاب قومية عربية وأخرى ماركسية، كان من بينها تيار “البعث العربي الديمقراطي”، و”الاتحاد الاشتراكي” جماعة “جمال الأتاسي” و”حزب العمال الثوري”، بالإضافة إلى حزبه “الحزب الشيوعي السوري –المكتب السياسي”. هذا التجمع الذي لم يكن جميع فرقائه من مؤيدي التقارب مع الإخوان المسلمين، كما بيَّنت التطورات اللاحقة، وخاصة مواقف “جمال الأتاسي” و”يوسف الهوشي” الذي تولى قيادة الحزب بعد اعتقال “الترك”. وكما يجدر بالذكر أن تنظيم “حزب العمل الشيوعي” لم يوافق على فهم “الترك”للتطورات الجارية بالبلاد، ولم يكن موافقاً على وصف تحرك الإخوان بـ”الانتفاضة الشعبية”، بل قال حينها إنه “صراع بين برجوازية بيروقراطية حاكمة، وأخرى كلاسيكية طامحة، وهما وجهان لعملة واحدة”.
هذه الاستقطابات والتناقض في الموقف من حركة الإخوان المسلمين، شكل الوجهة التي حكمت التداعيات التي حصلت في الساحة السورية بعد اندلاع الحرب الأهلية الأخيرة، والتي مازالت تشابكاتها مستمرة حتى الآن. فالحراك الذي بدأه ناشطون سوريون في آذار 2011، وضمن موجة الربيع العربي الذي بدأ في تونس وانتقل إلى مصر ومعظم البلدان العربية، بدأت مثل كرة الثلج في خطواته الأولى، كحركة مطالِب ديمقراطية واجتماعية ذات حدود إصلاحية لطبيعة النظام الشمولي الذي ضاق الشعب السوري ذرعاً من مظاهر الفساد والاستبداد ومصادرة الحريات في سلوكه.
حراك دشنه نَسَقٌ من مثقفين ونشطاء ديمقراطيين سوريين عبر اعتصام سلمي أمام وزارة الداخلية السورية، كان من بينهم أسماء لامعة وقامات فكرية وسياسية أمثال الدكتور الراحل”طيب تيزيني” والدكتور “عارف دليله” والراحل الأستاذ “بسام يونس” وآخرين.
هذا الحراك الذي تطور فيما بعد إلى ثورة عارمة عمت أغلب المدن والبلدات السورية، لم يكن طارئا أو مقطوع الجذور عن تراكمات سبقته،بل حرضت عليه وحكمت آفاق تطوره، من بينها الجو الذي ساد في سوريا بعد خطاب القسم للرئيس السوري، والذي بدا من خلاله أنه مستعد لإجراء إصلاحات في بنية النظام القائم، ومنفتحاً على النخب السياسية والثقافية السورية، ومهتماً بإحياء نوع من مجتمع مدني، حيث انتعشت المنتديات والجمعيات الثقافية، التي كان من أبرزها نشاطات “منتدى جمال الأتاسي”،وكذلك “منتدى الثلاثاء الاقتصادي”،هذا النشاط الذي جرى في سياقه،أو كان من ثماره التوقيع على “إعلان دمشق”، والذي كان أيضاً من بُناته الأساسيين “رياض الترك” و”علي البيانوني” مرشد الإخوان المسلمين مع تشكيلات معارضة اخرى عديدة.
بالترافق مع ذلك؛ ظهرت نشاطات ومساعي لأطراف ومثقفين علمانيين وديمقراطيين ثوريين، أبرزها “بيان المثقفين المئة”، وكذلك”بيان الموقعين الألف”.هذا الحراك السياسي والمدني وصل إلى حد لا يستطيع أي مراقب أن يتجاهل تشكل زخم واضح لتيار ديمقراطي ثوري في المعادلة السياسية السورية، أضعف دوره لاحقاًسلسلة من العوامل،أبرزها نجاح كل من طرفي الصراع في النظام والمعارضة على عسكرة أعمال الثورة، ثم التواطؤ لإعطائها لبوساً طائفياً. ومع ولادة الهيئات التي تنطحت لقيادة وتمثيل الحراك الثوري، عبر نشوء “المجلس الوطني السوري” ثم لاحقاً “الإئتلاف”؛ سجلت القوى العلمانية والديمقراطية الثورية تخاذلاً مزدوجاً تجلى بقبولها العمل تحت سقف الإسلاميين الفكري والسياسي، والرضوخ اكثريته التمثيلية في كلا الهيئتين “المجلس الوطني” والائتلاف، ثم عبر السير في ركابهم والامتثال للتأثير الخارجي التركي والقطري، وبالتالي عدم الظهور بأي موقف مخالف لمظاهر العسكرة والعنف والإرهاب التي بدأت تكتنف سلوك المعارضة.
وبالمجمل يمكن القول إن المعارضة الديمقراطية الثورية واليسارية لم تتخلَّ فقط عن وجهها الفكري المستقل في تحالفها مع جماعة الإسلام السياسي؛ بل أبدت دونية سياسية تجاهه وافتتاناً بدوره،وظهرت من خلال مواقف وسلوكيات واضحة في تصريحات شخصيات من أمثال “جورج صبرا” الشيوعي، والذي ظهر إخوانياًأكثر من الإخوان أنفسهم، و”سهير الأتاسي” وآخرين.ولما كان الشيء بالشيء يذكر؛ فعلى الضفة الأخرى لم يشذ حزب “خالد بكداش” عن القاعدة نفسها أثناء عمله في مؤسسات الجبهة مع النظام، حيث رضي على نفسه أن يلعب دور ذيل للنظام، مفتوناً أيضا بما لا يمكن فهمه.
إلى ذلك يمكن القول، ودون الوقوع في خطأ كبير،إن القوى الشيوعية واليسارية الديمقراطية لم تفلح بإنتاج مشروع سياسي يحظى بتأييد جدي من الشارع السوري، بل كانت تتماهى على الدوام مع مشروع الإسلام السياسي،أو مشروع السلطة القائم أيضاً، على تغافل من حقائق الواقع ومنطق التاريخ. وعليه يمكن الجزم أنها قوى لم توظّف جهدها لحسابها في الغالب الأعم؛ بل تعمل لحساب غيرها، وبالتالي،ومن هذه الزاوية، زاوية النظر التقليدية لخارطة القوى الفاعلة في الوضع السوري؛ فإن احتمال حدوث اختراق مهم لجهة تطوير خطة عمل توحد جهود السوريين نحو برنامج عمل وطني ديمقراطي مدني علماني، أساسه دولة العدل والقانون، يكون بديلاً عن مشروعي النظام والإسلام السياسي،هو احتمال ناضب الفرص.
لكن وفق نظرة بانورامية للواقع ولتاريخ الأحداث، تظهر وبما لايدع أي مجال للشك، أن الحلول الوطنية العادلة والمخارج التاريخية للصراع في سوريا وفي أزمات المنطقة ليست بعيدة أو مستحيلة، بل بذورها قد برزت بعد 2012، ومع ولادة الوحدات الأولى لقوات سوريا الديمقراطية، والتي تبلورت لاحقاً في مشروع (مسد)، مشروع مجلس سوريا الديمقراطية الذي يحاكي هموم جميع السوريين ويتقاطع مع أحلامهم في دولة العدل والقانون والحريات، دولة جميع الثقافات والأعراق الواحدة واللا مركزية، دولة أخوة الشعوب الحرة، دولة حرية ومكانة المرأة. فهذه القوات اليوم مع مجلسها السياسي؛ تشكل حصن السوريين جميعاً وملاذهم الوحيد الذي يتمتع بوضوح النظر السياسي والواقعي للخروج الآمن واللائق من حالة الحرب والفقر والتشرذم والفوضى.