أردوغان والعَودَةُ للخطابِ الشَّعبويّ
جميل رشيد
أفرزت الحرب في غزَّة استقطابات عديدة وجديدة، في ظِلِّ مخاوِفَ تُراوِدُ أنظمة المنطقة من اتّساع رُقعتها، لتطال دولها، وتُغيّر في معادلات التَّوازن السِّياسيّ والعسكريّ، التي طالما حافظت على ديمومتها من خلالها، وبالتّالي وجدت – في غفلة من الزَّمن – أمامها مساحة كافية من المناورة بين محاور القوى العالميّة لتثبت بموجبها أركان حكمها، وتتساوق معها في الحفاظ على مصالحها.
لَعَلَّ الصراع الدّائر في غزَّة يَجمَعُ في مفرداته طبيعة الصراع العالميّ، فإن كانت الحرب في أوكرانيا هي العنوان لحرب عالميّة ثالثة؛ فإنَّ الحرب في غزَّة، بتفاصيلها وحيثيّاتها اليوميّة؛ تُعَدُّ شكلاً من أشكال إسقاطات هذه الحرب في الشَّرق الأوسط، واستطاعت أن تمتصَّ– نوعاً ما– زخم الاهتمام العالميّ بحرب أوكرانيا، تَجلَّت في انخراط معظم الأطراف الإقليميّة والدّوليّة فيها، أو التأثُّرَ والتَّأثير بها بشكل مباشر مثل إيران وتركيّا والولايات المتّحدة الأمريكيّة وأوروبا، وكذلك السُّعوديّة ودول الخليج، بشكل غير مباشر.
احتفظت تركيّا بصمتها طيلة أكثر من خمسة عشر يوماً، وظَلَّت تصريحات ومواقف مسؤوليها تتراوح ما بين الدَّعوة إلى التَّهدئة ووقف إطلاق النّار، وبين تبادل الأسرى والإتيان بحَلٍّ سياسيٍّ، رغم أنَّها كانت أوَّلَ الأطراف المتورِّطة في إشعال فتيل الحرب، من خلال دعمها المفتوح لحركة “حماس”، ضمن إطار منظومة “الإخوان المسلمين”، التي ينتمي إليها حزب “العدالة والتنمية” الحاكم، ويعتبر “أردوغان” زعيمها المفترض.
خروج الرَّئيس التُّركيّ منذ أيّام بتصريحات أمام كتلة حزبه في البرلمان؛ ودفاعه المستميت عن “حماس” وعدم اعتبارها “حركة إرهابيّة”، وإنَّما “حركة تَحرُّرٍ وطنيّة”، يشير بكُلِّ وضوحٍ إلى استبعاد تركيّا، على الأقَلِّ أمريكيّاً، من أيِّ ترتيباتٍ في المنطقة ما بعد حرب غزَّة، مثل مشاريع الطاقة وطريق/ ممرّ الهند، الذي طُرِحَ في قمَّة دول العشرين في دلهي. والغضب التُّركيّ من هذا التهميش تُرجِمَ من خلال إعادة التمسُّك بورقة “حماس” والتَّهديد بها، عبر إطالة أمد الحرب، في مسعى لخلط الأوراق والتَّصعيد ضُدَّ الدّول الغربيّة المتحالفة مع إسرائيل والرّافضة لأيّ دور تركيّ في المنطقة.
على المستوى الإستراتيجيّ؛ يَسودُ اعتقاد لدى أوساط ونخب سياسيّة تركيّة، أنَّ رئيسهم أردوغان يسير عكس التيّار وفي الطريق الخاطئ، ولا يأخذ مصالح الدّولة التُّركيّة القوميّة بعين الاعتبار. وقد وجَّهَ نائبٌ في حزب الشَّعب الجمهوريّ المعارض تُهمَة الازدواجيّة إلى الرَّئيس وسياسته، عندما طرح سؤال على أردوغان، إن كُنتَ تعادي إسرائيل، فماذا يفعل صهرك “بيرقدار” على ظهر سفينة إسرائيليّة قبل أيّام، وهو ما يفضح سياسة الخداع التي يمارسها أردوغان في التَّعامل مع خصومه وأصدقائه وحلفائه، فهو بارعٌ في الانقلاب على خصومه وحلفائه، فقد يكون خصم الأمس صديقاً، والحليف خصماً، لمجرَّدِ إدراكه بالخطر، فهو يُقدِمُ على التّنازلات، دون حدود، وعلى استعداد للتَّضحية بمصالح بلاده وشعبه في سبيل ديمومة نظامه.
يتَّكِئ أردوغان على الإسلام السِّياسيّ في الحفاظ على شعبيّته التي تدهورت بعد الانتخابات، خاصَّةً بعد أن واجه ضغوطاً خارجيّة في تحجيم دور حركات الإخوان المسلمين المختلفة التي احتضنها في ظِلِّ ثورات الرَّبيع العربيّ التي اجتاحت المنطقة. فبعد أن قَلَّمَ أظافر الإخوان المصريّين؛ التفت إلى “حماس”، حيث أكَّدَت بعض المصادر أنَّ رئيس مكتبها السِّياسيّ “إسماعيل هنيّة” كان في تركيّا، عشيَّة الحرب في غزَّة، وأنَّه توجَّهَ منها إلى قطر، ليُطِلَّ منها على الإعلام، حيث تكهَّنت بعض الأوساط السِّياسيّة أنَّه تَمَّ طرده من تركيّا، كنوع من إبداء التَّقارب مع إسرائيل والولايات المتّحدة. ولكن عودة أردوغان إلى تصعيد لهجته ضُدَّ إسرائيل، والدِّفاع عن “حماس”، إنَّما يعني أنَّه يسعى توريط الأخيرة في حرب لا طائل منها، فهو وغيره وحتّى “حماس” نفسها يدرك أنَّه لا يمكن أن تحقِّقَ “حماس” أيَّ نصر حقيقيّ في ظِلِّ الدَّعمِ الغربيّ المفتوح لإسرائيل، فأمثال أردوغان يعتاشون على الحروب والنِّزاعات، وهو الذي تورَّط في أكثر من صراع في المنطقة.
من جانب آخر الدَّور الوظيفيّ لتركيّا في المنطقة، وتنافسها مع إيران في ريادة حركات الإسلام السِّياسيّ، يدفعها إلى إعادة احتضان “حماس”، وسحب هذه الورقة من إيران، التي طالما قَدَّمت دعماً عسكريّاً واستشاريّاً لها. فرغم طبيعة “حماس” السُنّية؛ فإنَّ إيران نجحت – إلى حَدٍّ ما – في استقطابها وضمِّها إلى ما يُسمّى حلف “المقاومة”، وتنسِّقُ معها عسكريّاً وسياسيّاً. وتصريحات أردوغان تُدلِّلُ، بما لا يَدَع مجالاً للشَكِّ، بأنَّه يحاول مَرَّةً أخرى جذب “حماس” إليها، رغم شعوره بالامتعاض منها، عندما انفردت بالمصالحة مع الحكومة السُّوريّة دون التَّنسيق معها، حينما عادت “حماس” إلى تعديل مواقفها من الصراع الدّائر في سوريّا، وعدم انجرارها خلف مواقف تركيّا والإخوان السُّوريّين في نصب العداء لدمشق، خاصَّةً أنَّها في هذه الحرب تبحث عن متنفَّسٍ لها، في ظِلِّ الحصار السِّياسيّ والاقتصاديّ المفروض عليها من دول الطوق والدّول الغربيّة وإسرائيل.
كما أنَّ أردوغان يحاول من خلال بوّابة تأييد “حماس” استعادة شعبيّته، وإضعاف مواقف المعارضة القوميّة عبر التَّلويح بورقة الإسلام السِّياسيّ، والعودة إلى الخطاب الشَّعبويّ المُثير لعواطف النّاس، رغم معارضة نخبة رجال الأعمال والطبقة الرَّأسماليّة لسياساته الدّوغمائيّة، لقناعتها أنَّها لم تجلب لتركيّا سوى الدَّمار والخسائر الاقتصاديّة والعزلة السِّياسيّة عن حلفائها التَّقليديّين في الغرب. ويعمل أنصار أردوغان في هذه الفترة، إلى حشد الرَّأي العام ضُدَّ إسرائيل والدّول الغربيّة، وصولاً إلى إرسال متطوّعين للقتال بجانب حركة “حماس”.
من جهة أخرى إفلاس سياسات أردوغان وحكومته في التَّوافق مع الدّول الغربيّة، ويأسه من انضمام بلاده إلى الاتّحاد الأوروبي، يدفعه إلى التشدُّد والتمسُّك أكثر بحركات الإسلام السِّياسيّ، والتَّناغم مع المشاريع الرّوسيّة والصّينيّة، والانحياز إلى الشَّرق، وهو دأب سياسته التي اتَّسمت بالمناورة واللَّعب على المتناقِضاتِ الدّوليّة والإقليميّة، ولا أدَلُّ على ذلك إلا صفقات الأسلحة مع روسيّا، وبناء نفق مرمرة بأموال صينيّة، إضافة إلى توقيعه اتّفاقيّات اقتصاديّة وعسكريّة مع روسيّا والصّين، ومحاولته انضمام بلاده إلى معاهدة “شنغهاي”.
الخطاب التَّصعيديّ والمنحاز لـ”حماس” جاء بعد فشل الجهود التُّركيّة في الإفراج عن الرَّهائن الإسرائيليّين والأجانب لدى “حماس”، وكذلك عدم تمكُّنها مع مصر إيصال المساعدات الإنسانيّة إلى المحاصَرين في غزَّة، يُفسِّرُ عدم إيلاء أيِّ طرف فاعل في الحرب، وخاصَّةً إسرائيل والولايات المتّحدة بدور تركيّا في الحرب، بل قوبلت الجهود التُّركيّة بالتَّجاهل، حيث حثَّت إسرائيل رعاياها في تركيّا بضرورة مغادرتها على وجه السُّرعة، تداركاً لهجمات قد يَشُنُّها المتطرِّفون الإسلاميّون الموالون لحزب العدالة والتَّنمية وأردوغان عليهم وضُدَّ المصالح الإسرائيليّة في تركيّا.
يترقَّب البعض انقلاباً وشيكاً في مواقف أردوغان، وهو الذي عوّدنا عليها،ولينتقل إلى الضفّة الأخرى، ويَنضَمَّ إلى جوقة المؤيّدين لإسرائيل، وهو ربُّما يكون قد حدث دون الإعلان عنه، ويلقى صَداهُ في عزوف “حماس” عن الرَدِّ والثَّناء على مواقف أردوغان المؤيّدة لها، لإدراكها جيّداً أنَّه يعمل في هذه الفترة على التَّضحية بالإخوان وتقديمهم كِبشَ فداءٍ على مذبح مصالحه.
سيحاول أردوغان انشغال العالم بالحرب في غزَّة، عبر تصعيد الموقف العسكريّ ضُدَّ مناطق شمال وشرق سوريّا، من خلال شَنِّ هجمات مكثَّفة عبر الطيران المُسيَّر والحربيّ والأسلحة الثَّقيلة، كما تستغلُّها إيران الآن في استهداف القواعد العسكريّة الأمريكيّة في سوريّا، وهو ما قد يدفع الولايات المتّحدة إلى اتّخاذ مواقف أكثر ردعاً لتركيّا، خاصَّةً بعد نشرها منظومات متطوِّرة من الدِّفاع الجوّيّ، وشَنِّها ضربات جوّيّة ضُدَّ أهداف إيرانيّة في سوريّا.
إنَّ ديدن تركيّا القضاء على تجربة الإدارة الذّاتيّة ومحاربة الكُرد، وهذا الموضوع ثابت في سياسات الحكومات التُّركيّة المتعاقبة، ولكن ارتفعت وتيرتها مع أردوغان وحزبه، حيث أضفى على حربه ضُدَّ الكُرد طابعاً إسلامويّاً، من خلال جمعه كُلَّ شُذّاذ الآفاق وزَجِّهم في معاركه بعفرين وسري كانيه وكري سبي، وكان لحركة “حماس” دور أساسيّ في حروب أردوغان ضُدَّ الكُرد، خاصَّةً بعد احتلال تلك المناطق، حيث ساهمت مع تركيّا في بناء المستوطنات في المناطق المُحتلَّة، وتوطين الفلسطينيّين فيها، ورُبَّما سادَ اعتقادٌ لدى “حماس” أنَّ فلسطين انتقلت إلى عفرين، وعمل أردوغان وحزبه على تغذية هذا الشُّعور، ليكون شريكاً في ضياع القضيّة الفلسطينيّة أكثر.
لا يُساوِرُ أحداً شَكٌّ بأنَّ أردوغان سيتماهى عاجلاً أم آجلاً مع المشروع الغربيّ– الإسرائيليّ في المنطقة، ولديه القدرة على تنفيذ الدَّور المنوط به وفق الحسابات الغربيّة، متجاهلاً كُلِّ تصريحاته السّابقة، وليغدو جزءاً من الحرب المفروضة على شعوب المنطقة.