التغيير الديمغرافي والاستيطان في عفرين “1”
حسن حسن
١ – مقدّمة تاريخيّة وجغرافيّة:
سُمِّيَت عفرين تيمُّناً باسم نهرها، وتشتهر بجمال جبالها وغابات الصنوبر والبلّوط، وحقول الزَّيتون الشّاسعة. عفرين أرض التِّلال والسُّهول الخّصبة التي تتمتَّع بمياهٍ وفيرةٍ وأمطارٍ جيّدة معدّلها السَّنويّ نحو 400 ملم، وموارد زراعيّة غنيّة، فضلاً عن محاصيل البحر الأبيض المتوسِّط المتنوِّعة من الخضار والفاكهة والبقول والحبوب، إلى جانب على 18 مليون شجرة زيتون وأشجار مثمرة أخرى وثلاثين ألف هكتار من الغابة المتوسِّطيّة التي تعرَّضت للتَّدمير الشّامل بعد احتلال تركيّا للمنطقة.
عفرين هي أصغر المناطق الكُرديّة السُّوريّة الثَّلاثة في شمال سوريّا، وهي عبارة عن شريط من الأرض تبلغ مساحته 3850 كيلومتراً مربّعاً تسكنه الأغلبيّة الكُرديّة السّاحقة منذ مئات السنين. وتتكوَّن من سبع مناطق فرعيّة (جندريسه/ جنديرس، موباتا/ معبطلي، شيه/ شيخ الحديد، راجو، بلبله/ بلبل، شرّا/ شران، وشيراوا) مع نحو 360 قرية كُلّها تابعة للمركز وهي مدينة عفرين.
قسم كبير من الأقليّة العربيّة في عفرين كانت قد طردت قسراً من قبل الأتراك من لواء إسكندرون بعد سلبه في عام 1939، بينما عشيرتا “البوبنّة والعميرات” في الأصل دخلوا إلى هذه المنطقة من المناطق الشَّرقيّة لمحافظة حلب كرُعاةٍ للأغنام في الخمسينيّات والسّتينيّات من القرن الماضي، ومنحوا أراضٍ زراعيّة خلال برنامج الإصلاح الزِّراعيّ في السّتينيّات.
إجمالاً كانت هناك 56 عائلة غير كُرديّة في مدينة عفرين في عام 1957، حسب إحصاء أجراه رئيس بلديّة عفرين آنذاك، المرحوم الدّكتور “مصطفى نوري”. كانت هناك عشرات العائلات العربيّة من الحضر والمعّازة والغنّامة، الذين أغروا فيما بعد عائلات من عشائرهم من الرِّقّة وشرق حلب للانضمام إليهم في عفرين في السَّنوات اللّاحقة، بينما انتقل الأرمن والمسيحيّون بعد ذلك من عفرين إلى مدينة حلب.
مدينة عفرين هي عاصمة هذه المنطقة، كان عدد سكّانها قبل الحرب 570.000 نسمة، وفقاً لتعداد عام 2004.
عندما اجتاح متمرّدو المعارضة السُّوريّة، بمن فيهم الجهاديّون العالميّون، مدينة حلب عام 2012، أصبحت عفرين موطناً لعدد أكبر من النّازحين، نظراً لتدفّق 500 ألف كُرديّ وعربيّ نازح من أحيائهم في حلب.
اكتسبت عفرين سُمعةً علمانيّةً إلى حَدٍّ ما، وكان سُكّانها عادةً غير متزمُّتين دينيّاً. ومع ذلك، كانت عفرين سابقاً موطناً لشبكات صوفيّة نابضة بالحياة، فضلاً عن مجموعات صغيرة من الإيزيديّين والعلويّين والمسيحيّين.
احتفظ الصوفيّون والإيزيديّون والعلويّون في المنطقة بأضرحة في جميع أنحاء الرِّيف قبل تدنيسها وتدميرها على يد ميليشيات الجيس الوطنيّ التّابع لتركيّا، وغالباً ما كانت مقابر الشّيوخ والشَّخصيّات المُقدَّسة، والتي كانت بمثابة مكانٍ يَحُجُّ إليه النّاس أيّام العطل والاحتفالات الدّينيّة الجماعيّة.
يعود الوجود الإيزيديّ في المنطقة إلى القرن الثّالث عشر على الأقل، وكانت هناك حوالي 60 قرية يَغلب عليها الإيزيديّون في ثلاثينيّات القرن الماضي.
لكنَّ معظمهم كانوا قد أُجبروا بالفعل على اعتناق الإسلام في العهد العثمانيّ، وهاجر آخرون إلى أوروبا خلال الخمسين عامّاً الماضية. إجمالاً، كان هناك حوالي 35 ألف إيزيديّ في عفرين قبل الاحتلال في عام 2018.
فَرَّ أكثر من 35 ألف إيزيديّ في جميع أنحاء المنطقة من منازلهم ومزارعهم خلال الهجوم التركيّ، لكنَّ بعضهم عاد، على أمل المطالبة بممتلكاتهم، ليجدوا أنفسهم يتعرَّضون للسُّخريّة والمضايقات وأجبروا على اعتناق الإسلام، وقد نُهبت منازلهم ونُهِبَت أيضاً مراكزهم الدّينيّة والثَّقافيّة، ليعمد الاحتلال التركيّ والميليشيّات الإخوانيّة التّابعة له إلى إنشاء مدارس دينيّة إسلاميّة عوضاً عنها.
كما نزخ ما يقرب من 3000 مسيحيّ إنجيليّ من هجوم تركيّا، ولم يجرؤ أيّاً منهم على العودة اليوم؛ لأنَّهم سيواجهون موتاً مؤكَّدَاً، لأنَّهم يُعتبرونهم “مرتدين” بنفس الطريقة التي يَتُمُّ بها استهزاء الإيزيديّين بـ”الكفّار” من قبل أتباع تركيّا.
كما تعرَّضت كنيسة “الرّاعي الصالح” للنَّهب والتدنيس ودُمِّرت الرُّسومات على الجرافيك، وكتبت بأسماء الجماعات المسلَّحة، “جيش الشرقية والسلطان مراد” الذين تقاسموا طوابق المبنى المختلفة.
أعاد النّازحون المسيحيّون في عفرين بناء كنيسة “الرّاعي الصالح” في مخيّم “سردم” في منطقة الشَّهباء، حيث تعيش 250 عائلة مسيحيّة نزحت قسراً من عفرين، بينما لجأ الباقي إلى حلب ولبنان وشمال شرقي سوريّا والشَّتات.
المجتمع العلويُّ الوحيد النّاطق باللّغة الكُرديّة في سوريّا كان علويّو عفرين، الذين استقرّوا بالمنطقة على مدى القرون الماضية، هاربين من نوبات الاضطّهاد في كردستان تركيّا.
عاش العلويّون في عفرين داخل منطقة معبطلي (المعروفة أيضاً باسم موباتا) ذات الموقع المركزيّ. قُدِّرَ حجم المجتمع العلويّ بحوالي 20.000 إلى 25.000 نسمة قبل الاحتلال، ولم يجرؤ معظمهم على العودة إلى ديارهم مخافة تعرُّضهم للاضطّهاد، أوَّلاً لأنَّهم “كُرد”، وثانياً، لأنَّ متمرِّدي المعارضة السُّوريّة يعتبرونهم متعاونين مع حكومة الأسد.
٢ – التغيير الدّيمغرافيّ والتتريك والتَّعريب:
أ – المرحلة الأولى:
المرحلة بين اندلاع أحداث العنف في سوريّا حتّى الغزو التُّركيّ (من آذار 2011 إلى آذار 2018):
شهدت هذه المرحلة نوعاً من التغيير في التركيبة السُكّانية لعفرين، والتي تجسَّدت في عمليّات نزوح كبيرة من مناطق مختلفة من سوريّا وخصوصاً من مدينة حلب نحو عفرين والشَّمال، لا سيّما من المناطق التي شهدت صراعات دامية بين جيش النِّظام السُّوريّ ومقاتلي المعارضة.
تمتَّعت عفرين، خلال تلك الفترة، بنوعٍ من الاستقرار والأمن الدّاخليّ رغم فرض الحصار عليها وشَنِّ الهجمات المتكرّرة عليها من قبل الجماعات التَّكفيريّة والجيش الحُرّ. ترسَّخ الاستقرار الدّاخليّ تدريجيّاً مع سيطرة القوّات الكُرديّة على الوضع وإحداث هيكليّة نظام “الإدارة الذّاتيّة الدّيمقراطيّة” للكانتونات الثّلاثة ذات الغالبيّة الكُرديّة في شمال سوريّا.
على رغم من عدم وجود إحصائيّات دقيقة عن أعداد النّازحين المتدفِّقين إلى عفرين، إلا أنَّ بعض الأرقام التي ذكرتها بعض المنظَّمات الحقوقيّة والمدنيّة أشارت إلى أنَّ نسبتهم تجاوزت 500 ألف شخص خلال 2012 و2013.
يجب أن نلفت الانتباه إلى حدوث هجرة عكسيّة مقابل هذا التدفّق المتمثِّل في هجرة عددٍ كبيرٍ من سُكّان عفرين الأصليّين الذين انتقلوا إلى البلدان المجاورة وأوروبا وأماكن أخرى، وكان غالبيّتهم من الشَّباب، خاصَّة سُكّان الأحياء الكُرديّة في حلب، وذلك لأسباب واعتبارات مختلفة، أهمّها البحث عن عمل، ومعيشة أفضل، وخدمات جيّدة وفرصٍ تعليميّة، وأمان من جيب محاصر حصاراً خانقاً فرضته تنظيمات “داعش والقاعدة وكتائب المعارضة السُّوريّة” من البلدات السُّنيّة المجاورة كإعزاز وأطمه ودارة عزّة.
يتبع……
الآراء المنشورة في المنصة تعبر عن وجهة نظر كتّابها