تركيّا وحرب غزَّة
جميل رشيد
لاتزال ارتدادات الحرب الدّائرةُ رحاها في غزَّة بين إسرائيل وحركة “حماس”، تتفاعل إقليميّاً ودوليّاً، وتفرز مزيداً من التَبِعات على شعوب المنطقة وأنظمتها التي انساقت غالبيَّتها وراء البروباغاندا والتَّضليل الإعلاميّ لحركة “حماس”، وتصوير الصراع بأنَّه بين “المسلمين” و”اليهود”، أو بين “العرب” و”إسرائيل”.
وفيما غدا الفصل بين حوامِلِ الصراع الدّائر، ونسبه إلى مفهوم أو نظريّة سياسيّة أو عقيدة معيّنة، نوعاً من المُستحيل؛ يبدو أنَّ كُلَّ الأسباب قد اجتمعت معاً، لتوقِدَ النار تحت مرجل الخلافات الإثنيّة والمذهبيّة والدّينيّة المُحرِّكة لكُلِّ أنواع الصراعات، لكن يأتي في مقدَّمتها ما تسعى الدّول المهيمنة عالميّاً لإعادة رسم الخرائط السِّياسيّة والعسكريّة في منطقة الشَّرق الأوسط، وبما يتناسب مع توجُّهاتها الجديدة، في هندسة المنطقة على أسس رأسماليّة صرفة، وتُعيدُ إحياء هياكل أنظمة جديدة، وبما يتوافق مع مصالحها الحيويّة.
إنَّ حصر أسباب الحرب في صراع بين “الفلسطينيين والإسرائيليين” تبدو قراءة ناقصة وفيها الكثير من الإجحاف، نظراً لهول ما يحدث على الأرض، ودخول دول وأطراف دوليّة مهيمنة على خطّ الحرب، وبكُلِّ قوَّتها، وعلى رأسها الولايات المتّحدةالأمريكيّة ودول أوروبيّة عديدة، وكذلك تركيّا وإيران، الحاضرتان الغائبتان عن مسرح الحرب عبر أدواتهما في المنطقة، وخاصَّةً في سوريّا ولبنان.
فإن كانت سوريّا ضحيَّة الصراع على المنطقة؛ فإنَّ ما يجري في غزَّة، يعتبر بداية فرض وقائع مغايرة على الأرض بعد قمَّة دول العشرين الأخيرة في الهند، حيث اتَّفقَ المجتمعون في “دلهي” على إنشاء “الممرّ الهنديّ” لِمَدِّ خطوط الطّاقة من الغاز والنَّفط، وكذلك اعتماده كطريق تجاريّة، لقطع الطريق على مشروع “الحزام – الطريق” الصّينيّ، وكذلك “المشروع الأوراسي” الرّوسيّ. ففيما قرَّرت القمَّة أنَّ ميناء “حيفا” في إسرائيل آخر نقطة برّيّة للممرّ الهنديّ المار من دول الخليج والسّعوديّة والأردنِّ؛ فإنَّ إزالة كُلِّ العقبات التي تعترض سبيله، تعتبر الخطوة الأولى في بناء المشروع، وأوَّلها حركة “حماس” التي هي جزء من منظومة “الإخوان المسلمين” العالميّة، والتي لاتزال ترفع شعار “إزالة إسرائيل من الوجود وتأسيس الأمَّة الإسلاميّة”.
وفيما تجاهل المشروع دور كُلٍّ من تركيّا وإيران؛ فإنَّ التَبِعات السِّياسيّة والعسكريّة، انعكست على شكل التّوازنات والتَّحالفات في المنطقة. فالدَّولتان مشاركتان في حرب غزَّة، بشكل شبه مباشر، بعد أن أدركت الاثنتان الخطر المحدق بهما، جرّاء استبعادهما من فرض التَّرتيبات الجديدة. فإيران التي دخلت الحرب عبر إشعال جبهة جنوب لبنان، ودفع أداتها “حزب الله” والتيتقحم لبنان معها في الحرب، تخطِّطُ من ورائها إلى خلط الأوراق، في مسعى فرض شروطها، حيث تحاول أيضاً إشعال جبهة الجنوب السُّوريّ مع الجولان المُحتلّ، ما يزيد من احتدام المواجهات واتّساع رقعة الحرب، وزيادة الحرائق في المنطقة. فإيران المدعومة بموقفي كُلٍّ من روسيّا والصّين؛ تحاول عرقلة المشروع الغربيّ “الممرّ الهنديّ” عبر تحريك أذرعها في لبنان وسوريّا، وتثبيت قدمها كلاعب إقليميّ فاعل في كُلّ التَّرتيبات والتَّوازنات في المنطقة. ويُتوقَّع أن تنخرط إيران أكثر فأكثر في حرب غزَّة، وتغدو طرفاً مباشراً فيها، ولم تعد التَّصريحات التي أطلقها المسؤولون الأمريكيّون والإسرائيليّون في بداية الحرب بأنَّ لا دلائل على اشتراك إيران في الحرب بشكل مباشر مقنعة لأحد، رغم يقينهم التّام من دعمها لحركة “حماس” ماديّاً وعسكريّاً، وتزويدها بالخبرات العسكريّة لصنع الصَّواريخ التي تقصف بها حتّى عمق الأراضي الإسرائيليّة، متجاهلة الخلافات المذهبية بينها وبين “حماس”.
إنَّ إيران المُدركة لقواعد اللُّعبة بشكل جيّد، ستحاول بكُلِّ قوَّتها هي ومن معها إلى جَرِّ لبنان وسوريّا نحو مستنقع الحرب في غزَّة، لتزيد من حالة الانقسام في سوريّا ولبنان أيضاً، وتنسف كُلِّ الجهود الرّامية لحَلِّ الأزمة السُّوريّة، فمثل هذه الأنظمة الشُّموليّة والديكتاتوريّة تتغذّى على الحروب والصراعات، ولا تفكِّرُ مطلقاً بتنمية مجتمعاتها وشعوبها.
في الطرف الآخر؛ تصريحات الرَّئيس التُّركيّ أردوغان حول غزَّة ودفاعه عن الفلسطينيّين؛ يُعيدنا إلى سيناريو سفينة مرمرة عام 2010، عندما أوهم فيها العالم أنَّه يسعى إلى فكِّ الحصار الذي فرضته إسرائيل على غزَّة، في حين كانت العلاقات التُّركيّة – الإسرائيلية في أوجها، ووقَّعت تركيّا في تلك الفترة عِدَّةَ اتّفاقيّات عسكرية واقتصاديّة مع إسرائيل، منها إنشاء مصانع مشتركة لصناعة الطائرات المُسيَّرة والحربيّة، فيما زاد التَّعاون الاقتصاديّ بينهما، ووصل إلى مستويات غير مسبوقة.
فإن كان الرَّئيس التُّركيّ ووزير خارجيّته يذرفان الدُّموع على غزَّة، ويدَّعيان بأنَّه كيف يمكن لأهالي غزَّة استمرار العيش في ظِلِّ انقطاع الكهرباء والمياه وكُلِّ أنواع الطّاقة مع الحصار الذي تفرضه إسرائيل عليهم؛ فإنَّها تبدو كذبة سَمِجَةً وممجوجَةً، حيث أنَّه وقبل حرب غزَّة وقبل أن تفرض إسرائيل الحصار على غزَّة، دَمَّرَ هو وجيشه المُحتلّ ومرتزقته كُلَّ مصادر الطّاقة وأسباب العيش في مناطق شمال وشرق سوريّا، حيث أعلن وزير خارجيّته “حقّان فيدان”، وبكُلِّ وقاحة ودون أيَّ خجل أو حياء، وقبل شَنِّ الهجمات، بأنَّ قوّاته ستستهدف كُلَّ مصادر الطّاقة والمراكز الحيويّة في شمال وشرق سوريّا، ودون أن تقدم قوّات سوريّا الدّيمقراطيّة على إطلاق أيّ طلقة تجاه الأراضي التُّركيّة، وليس مثل حركة “حماس”، فكيف يمكن أن تتّهم إسرائيل بارتكاب جرائم حرب، وأنت بالذّات قد أوغلت فيها قبلها، وكيف تستقيم الأمور لدى الرَّأي العام والمجتمع الدّوليّ من خلال هذ الازدواجيّة والديماغوجيا التي لا تقنع حتّى طفلاً. كان من المفترض أن يلتزم المسؤولون الأتراك الصَّمت حيال ما يجري في غزَّة من جانب إسرائيل، فهم ارتكبوا أبشع من تلك الجرائم قبلها.
مَرَّةً أخرى يحاول الرَّئيسالتُّركيّ الاستثمار في حرب غزَّة، عبر إبداء تأييده لحركة “حماس” والادّعاء بأنَّ لهم الحقّ الكامل في قتال إسرائيل، واتّهام الأخيرة بأنَّها ترتكب جرائم حرب، في حين وصلت المساعدات التُّركيّة إلى إسرائيل في اليوم الأوَّل للحرب، عندما قصفت “حماس” المستوطنات الإسرائيليّة بالصَّواريخ، وقَدَّمَ أردوغان تعازيه إلى الرَّئيس الإسرائيليّ “حاييم هيرتزوغ” بسقوط ضحايا القصف، هذا يعكس بشكل جليٍّ سياسة التَّضليل التي تمارسها تركيّا مع الفلسطينيّين، وما يحزُّ بالأنفس أنَّ حركة “حماس” تُبرر لها أفعالها، وما رفع صورة كبيرة تجمع أردوغان مع أمير قطر وزعماء “حماس” وسط غزَّة؛ إلا دليل على تماهي الأخيرة مع التوجُّهات التُّركيّة الإخوانيّة.
تزداد المخاوف لدى العديد من الأطراف العربيّة في الضغوط التي تمارسها إسرائيل ومن ورائها كُلٌّ من الولايات المتّحدة والعالم الغربيّ عموماً في تهجير أهالي غزَّة، والكُلُّ يعمل للاستثمار في مأساة الغزاويّين، من خلال توطينهم في أماكن أخرى. ففيما طرحت إسرائيل توطينهم في صحراء سيناء، وهو ما رفضته مصر جملة وتفصيلاً، وطرحت الولايات المتّحدة ترحيلهم إلى وادي جنوب قطّاع غزَّة، فإنَّتركيّا بدورها تتطلَّع لنقلهم إلى مناطق الشَّمال السُّوريّ التي تَحتلُّها، وخاصَّةً عفرين وسري كانيه/ رأس العين وكري سبي/ تل أبيض، وهو ما عملت عليه منذ اليوم الأوَّل لاحتلالها تلك المناطق، في سعي لتغيير ديمغرافيّة المنطقة، وتهجير سُكّانها الكُرد الأصليّين، وحركة “حماس” ضالعة في هذا المخطَّط الإجراميّ من بدايته وهي جزء أساسيٌّ منه، فهي التي موَّلت العديد من المُنظَّمات والجمعيّات الإخوانيّة لبناء المستوطنات في عفرين، ووطَّنت الفلسطينيّين المُهجَّرين من مخيّماتهم في دمشق وباقي المناطق السُّوريّة فيها، وغير مستبعد أن تُقدِمَ “حماس” مَرَّةً أخرى إلى الموافقة على الطلب التُّركيّ، لطالما أنَّها كانت شريكتها في التغيير الدّيمغرافيّ، كما بارك قادتها غزو عفرين؛ بل شارك بعض عناصرها في عمليّة احتلالها أيضاً.
زيارة وزير الخارجيّة التُّركيّ لمصر، والتي لم يعلن أحد عن فحواها، وكذلك مشاركة الرَّئيس التُّركيّ أردوغان في مؤتمر حول السَّلام العالميّ بالقاهرة، تدور حول العروض التي تُقدِّمُها تركيّا لتوطين الفلسطينيّين في المناطق المُحتلَّة من قبلها في سوريّا، وهو أخطر ما يُهدِّد سوريّا، وبهذا الطريقة والأسلوب تسعى تركيّا لإقحام نفسها كشريك في المشروع الغربيّ.
إنَّ موافقة الدّول الغربيّة وكذلك إسرائيل على العرض التُّركيّ من عدمه؛ إنَّما تتوقَّف على نتائج الحرب، ففي حين تستمرُّ تركيّا بدعم “حماس”؛ فإنَّه من المُستبعد أن توافق على خطط تركيّا، ومؤشِّراتُ الرَّفض تمثَّلت في دعوة إسرائيل مواطنيها في تركيّا بمغادرتها على وجه السُّرعة، بعد أن انكشف الغطاء عن أردوغان وحزبه، الذي يحاول جمع وتحشيد الرَّأي العام التُّركيّ في نقل متطوّعين للقتال في غزَّة جانب حركة “حماس” تحت شعار “حماية القدس” والدِّفاع عن المسلمين، وهو ما يعكِّر أيّ صفقة تقدم عليها تركيّا في الأيّام القادمة، رغم أنَّ أردوغان عَوَّدَ الجميع على استداراته وانقلاباته على خصومه وحلفائه وأصدقائه في اللَّحظة التي يجد فيها أنَّ مصالحه قد تتعرَّض للاهتزاز.
تبقى مواقف جميع الأطراف في المنطقة رَهنُ تطوُّرِ الموقف العسكريّ ونتائجه، وهو أيضاً مرسوم بِدِقَّةٍ من قبل الدّول الغربيّة وإسرائيل. فدول المنطقة، وبلا استثناء، تبني مواقفها وفق الرؤية الأمريكيّة – الإسرائيليّة، ولا يمكنها الإقدام على أيِّ خطوة خارج النَّسق الموضوع لها، وتركيّا أيضاً لا يمكنها فرض أجندتها على الأطراف الفاعلة في الحرب، لكنَّها تنتظر لاقتناص الفرص وتمرير مشاريعها الاحتلاليّة في المنطقة، وفي مقدِّمتها ضُدَّ الكُرد في سوريّا، عبر توسيع عمليّة التغيير الدّيمغرافيّ واستمرار اعتداءاتها وهجماتها، ولكن بكُلِّ الأحوال الحرب في غزَّة سترسم مسارات أخرى، تتناقض مع المشاريع التُّركيّة الاحتلاليّة، وقد تنسف كُلَّ الحسابات التُّركيّة مستقبلاً.