عندما يَغدو القَتلُ والتَّدميرُ عَقيدَةً
جميل رشيد
يقف المرء مذهولاً أمام حجم التغوُّلِ التُّركيّ في القتل والتَّدمير عبر الهجمات التي تَشُنُّها على مختلف مناطق شمال وشرق سوريّا، وهو ما يُعيدُ إلى الأذهان تاريخ المجازر التي ارتكبها أسلاف التُّرك “العثمانيّون” على مدى أربعة قرون من حكمهم وسيطرتهم على المنطقة، ويكشف بكُلِّ جلاء، أنَّ ما راكمته البشريّة من ثقافات وشرائع وقوانين، لا علاقة للدَّولة التُّركيّة ونُخبها السِّياسيّة بها، فهي دائماً تجد نفسها فوق كُلِّ النُّظُمِ والقوانين، وحتّى الأديان أحياناً كثيرة، وإلا لا تفسيرَ آخرَ على الدَّمار الهائل الذي ألحقته بتلك المناطق، لتغدو أثراً بعد عين، وكُلُّ ذلك؛ لا يرضي الغرور والعُنجُهيّة التُّركيّة الطورانيّة المنفلتة من عِقالِها.
يخبرنا التّاريخ القريب للجمهوريّة التُّركيّة، أنَّ في جعبتها دائماً ذرائعها وحججها في إطلاق حملات الإبادة ضُدَّخصومها وأعدائها المفترضين من الشُّعوب المجاورة، فهي من ارتكبت مجازر “السّيفو” ضُدَّ السُّريان والأرمن بحجّة أنَّهم “كُفّار”، ويغدو الأمر أكثر وحشيّة ودمويّة عندما يتعلَّقُ الأمر بالكُرد ونضالهم من أجل الحُرّيّة ونيل حقوقهم المشروعة. فقد ارتكبت “الجمهوريّة التُّركيّة”، التي كانت وليدة تآمر دوليّ على كردستان ومنطقة الشَّرق الأوسط، سلسلة مجازر ضُدَّالكُرد المطالبين بإنصافهم على غرار الأتراك، ولكنَّها أغرقت جميع مطالبهم في بحار من الدِّماء، ابتداءً من بداية القرن الماضي وحتّى أواخر الثّلاثينيّات منه.
تركيّا، الدَّولة والنُّخب الفكريّة والسِّياسيّة، تُمسِكُ بعنق تاريخها الدَّموي وتجرُّهُ إلى حاضرها، وحتّى تسعى بكُلِّ قوَّةٍ أن يغدو مستقبلاً لها، وترسم سياساتها وخططها العسكريّة على قاعدة الإبادة والتَّهجير والعنف والتغيير الدّيمغرافيّ، وكُلُّ حديث أو طرح خارج هذه المنظومة الفكرية والسِّياسيّة والعسكرية، يغدو هُراءً،وإنَّما تجد فيها فناءها. فهي ترى أنَّالدّيمقراطيّة تهديد لوجودها، وبذات السويّة تُروِّجُ لأكذوبة باتت إحدى التابوهات والقناعات الرَّئيسيّة لديها؛ بل مبادئ تبني عليها دولتها؛ مفادها أنَّ نيل الكُرد لحقوقهم يفضي إلى زوال كيانهم، وسوَّقت لهذه الديماغوجيا في الأوساط الشَّعبيّة والرَّسميّة، وحتّى في المحافل الدّوليّة أيضاً.
تحاول الدَّولة التُّركيّة دائماً تجديد ميكانيزمات القتل والإبادة لديها، وبما يحفظ لها ديمومة كيانها، فهي تلجأ إلى شَنِّ الحملات العسكريّة ذات اليمين والشّمال، بغرض تعويم نفسها كقوَّة لها شأن في المعادلات والتّوازنات الإقليميّة والدّوليّة، فما تعجز عن حلّها بالسِّياسة، تحاول حسمها بطريقة عسكريّة صرفة، وهو ديدنها، وعليها كوَّنت نفسها وبنت أمجادها المزعومة.
ما يحصل من هجمات بربريّة في مناطق شمال وشرق سوريّا، يتجاوز السِّياسة والمبادئ والأخلاق، بل تبرهن الدولة التُّركيّة عبرها أنَّها لا تفهم ولا تؤمن بغير لغة الحديد والنّار في حَلِّ مشاكلها الدّاخليّة، وتحاول طيلة مئة عام من تاريخ دولتها، إلى تصدير جميع أزماتها المتراكمة إلى الخارج، وتعمل بنظرية “المؤامرة” وحماية “الأمن القومي” المزعوم، رغم أنَّها هي من تهدِّدُ أمن دول الجوار والمنطقة ككُلّ، بل باتت أكبر تهديد لاستقرار المنطقة وشعوبها، وفق مشاريعها الاحتلاليّة التي تطرحها علناً، ودون حياء أو خجل.
اتّخذت تركيّا عمليّة أنقرة ذريعة لشَنِّ هجماتها على مناطق روجآفا وشمال وشرق سوريّا؛ رغم تأكيد الجهات الرَّسميّة، وخاصَّةً قوّات سوريّا الدّيمقراطيّة، عدم صلتها بالهجوم، إلا أنَّها تنظر إلى مناطق الإدارة الذّاتيّة وقوّات (قسد) على أنَّها الخاصرة الرَّخوة في سوريّا، وستتمكَّنُ منها بسهولة، فلجأت إلى استهداف البنى التَّحتيّة والمنشآت الاقتصاديّة الحيويّة، مثل محطّات المياه والكهرباء وآبار ومصافي النَّفط، اعتقاداً منها أنَّها ستوقف عجلة الحياة في مناطق شمال وشرق سوريّا. فهي استخدمت نظرية “الرُّعب” على غرار تنظيم “داعش” الإرهابيّ، لترهيب السُكّان ودفعهم للنّزوح والهجرة، من خلال استهداف مصادر الدّخل للإدارة الذّاتيّة وللسُكّان. فهي تحاول تحقيق عِدَّة أهداف من خلال العدوان؛ أوَّلها إضعاف الحاضنة الشَّعبيّة للإدارة الذّاتيّة وقوّاتسوريّاالدّيمقراطيّة، وإبقاء المنطقة ضمن أجواء الحرب والإرهاب والعيش تحت تهديداتها بالإبادة والتَّطهير العرقيّ، إضافة إلى شرعنة احتلالها لمناطق من روجآفا وشمال وشرق سوريّا، عبر الضغط على كُلِّ الأطراف الفاعلة في الأزمة السُّوريّة بقبول احتلالها كـ”أمر واقع” لا يمكن تغييره.
غير أنَّ قوّات التَّحالف الدّوليّ، وعلى رأسها الولايات المتّحدة الأمريكيّة، ورغم إسقاطها لطائرة مُسيَّرة تركيّة في اليوم الأوَّلِ للعدوان، لكن كُلّ المؤشِّرات تؤكِّدُ تماهيها مع دولة الاحتلال التُّركيّ، على الأقلِّ في هجماتها الأخيرة. فالتَّصريحات الصادرة عن كُلٍّ من وزارتي الدِّفاع (البنتاغون) والخارجيّة، إنما تشير إلى حجم التَّناقض بينهما، حيث شدَّدت الأولى على ضرورة وقف الهجمات التُّركيّة، في حين شرعنتها الثّانية، عبر الادّعاء أنَّه من حَقّ تركيّا “الدّفاع عن نفسها ضُدَّ الهجمات الإرهابيّة، ونحن نؤيّدها، ولكن كان من المفترض أن تنسّقُ معنا”. وهذا دليلٌ كافٍ أنَّ الولايات المتّحدة ضالعة في المؤامرة، وهي من منحت دولة الاحتلال الإذن والضوء الأخضر في شَنِّ الهجمات، وإلا لما تجرَّأت الأولى إلى توسيع نطاق استهدافاتها بهذا الشَّكل المُريع، دون أن تردعها الولايات المتّحدة، حيث أنَّ أصوات الانفجارات وأدخنة الحرائق كانت تخترق آذان الأمريكيّين وتزكم أنوفهم، دون أن يحرّكوا ساكناً، فقط هم يبحثون عن ضمان أمن قوّاتهم المتواجدة على الأراضي السُّوريّة، ولا يعنيهم إن جرى إحراق المنطقة بأكملها، وهذه هي العقيدة الأمريكيّة التي خبرناها منذ زمن بعيد.
فيما روسيّا هي الأخرى تبدو صامتة أيضاً؛ وهي تأخذ وضع المزهريّة إزاء الدَّمار الحاصل في شمال وشرق سوريّا، وتنتظر الفرصة المناسبة لإضعاف الأمريكيّين ودفعهم نحو حزم حقائبهم والخروج من سوريّا، لتغدو المتصرّف الوحيد في السّاحة السُّوريّة دون أيّ منافس لها. فيما جاءت التَّصريح الذي أطلقه الرَّئيس الرَّوسيّ بوتين بنيّة بلاده لعب دور الوساطة بين (قسد) والحكومة السُّوريّة في الوصول إلى حَلٍّ سياسيّ، وكأنَّه يتشفّى بالإدارة الذّاتيّة، وهو موقف “شماتة” أكثر ممّا هو موقف يَنُمُّ عن جدّيّة في مساعي بلاده لتحقيق نوع من التَّفاهم والتَّوافق بين الطرفين. ويبدو أنَّ القراءة الرّوسيّة للموقف متخلّفة نوعاً ما، أو مبنيّة على أخطاء وأوهام لا تمُتُّ للواقع بشيء. فالإدارة الذّاتيّة ومعها قوّاتسوريّاالدّيمقراطيّة، ستخرج من هذه المعركة غير المتكافئة منتصرة نوعاً ما، ويكفيها شرف الصمود والحفاظ على ديمومتها ومؤسَّساتها مقابل حجم الاستهداف الوحشيّ الذي لا حدود له، فهي تقاوم الاحتلال والعدوان بما تملكه من أدوات سياسيّة وعسكريّة، ولم تراهن في يوم ما على أيٍّ من القوى الخارجيّة، فإن كانتروسيّا ومعها رئيسها بوتين تعتقد أنَّ الإدارة الذّاتيّة و(قسد) ستتوسَّل إليها لطلب إنقاذها من فكّي الإبادة التُّركيّة؛ فإنَّ قراءتها منقوصة ويعتريها الكثير من التشويش والأخطاء، فالكُلُّ في روجآفا وشمال وشرق سوريّا؛ على قناعة تامَّةٍ أنَّروسيّا أيضاً هي الضلع الثّالث في مثلَّث التآمر على الإدارة الذّاتيّة، وما يحدث الآن من هجمات؛ تَمَّ التوافق عليها ضمن اجتماع ما تُسمّى بـ”أطراف أستانا” على هامش اجتماعات الجمعيّة العامَّة للأمم المتّحدة في نيويورك الشَّهر الماضي، حتّى المعارك الدّائرة بين ما تُسمّى “هيئة تحرير الشّام/ جبهة النُّصرة سابقاً” والمرتزقة التّابعين للاحتلال التُّركيّ في أرياف إعزاز والباب وعفرين، ما هي إلا ترتيبات جرى التّوافق عليها في ذاك الاجتماع، حيث يقضي بتمدُّد “الهيئة” نحو تلك المناطق، مقابل إخلائها لمناطق إدلب وفتح الطريق الدّوليّ (M4) الموصل إلى اللّاذقيّة.
وما جرى من إرهاب في استهداف الكُليّة الحربيّة بمدينة حمص؛ من قبل جماعات إرهابيّة متمركزة في إدلب ومدعومة من قبل الاحتلال التُّركيّ، لا تختلف من حيث الدَّوافع والنتائج عمّا يحصل في شمال وشرق سوريّا؛ إنَّما يكمِّلُ ذاك السيناريو الدَّمويّ. فحجم الاستهداف؛ يكشف عن حِقدٍ دفينٍ يبحث عن مساحة كي يفرغه، ولا يأبه للحالات الإنسانيّة بأيِّ شكل من الأشكال. فصور أشلاء الضحايا من الأطفال والنِّساء والدِّماء، إنَّما يدفع الجميع لمقاومة الإرهاب بكُلِّ أشكاله وألوانه. فما يحدث في شمال سوريّا، لا يختلف البتّة عمّا حصل في الكُليّة الحربيّة، فيما تُدفَعُ فاتورة الهجوم على الكُليّة من دماء أبناء إدلب وأريافها أيضاً، ولتستمرّ دوامة العنف مجدَّداً ولتحصدَ أرواحَ مزيدٍ من السُّوريّين.
رُعاةُ الإرهاب في سوريّا، تعمَّدوا إلى تجديد آلة القتل والدمار، عبر سَفكِ الدَّمِ السُّوريّ، وفرض وقائعَ جديدةٍ على الأرض، عبر إفلات أدواتها من الجماعات الإرهابيّة وتزويدها بالأسلحة الفتّاكة، وخاصَّةً الطائرات المُسيَّرة، ولكن للشَّعب السُّوريّ القدرة الكافية على إحباط هذه المؤامرات التي تُحاكُ عليه، وسيقول كلمته الفصل في وضع نهاية للإرهاب الذي تدعمه أطراف إقليميّة ودوليّة.