هل تطبيع العلاقات بين السعودية وإسرائيل سيكتب نهاية الصراع في المنطقة؟
محمد عيسى
يكثر الحديث اليوم في الأوساط السياسية والإعلامية عن تطبيع وشيك للعلاقات السعودية الإسرائيلية، هذا التطبيع الذي سيكون له، في حال حصوله، معانٍ ودلالاتٍ في غاية الأهمية، ليس بسبب الثقل الذي تتمتع به السعودية في العالمين العربي والإسلامي فقط؛ بل لارتباط هذا التطور بغيره من تطورات أخرى تلوح في أفق المنطقة، ولأنه سيشكل لازمة من لوازم ولادة تاريخ جديد في شكل المنطقة وفي بنيتها السياسية، وطبيعة الأدوار الاقتصادية والمشاريع والنشاطات التي يمكن أن تنهض بها.
فالدولة العبرية هذه والتي بُدئ الإعداد لإقامتها من قبل اليهود في العالم على أرض فلسطين العربية مع نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، ومن خلال دعم ومساندة دول تحالف الغرب الرأسمالي، وخاصة بريطانيا التي كانت منتدبة على فلسطين. وقد جاء هذا الدعم ترجمة لوعد أطلقه وزير خارجية بريطانيا في ذلك الحين “بلفور”، ولتبدأ، وبالتناغم مع هذا الوعد، عمليات الهجرة المنظمة والتي رعتها المنظمات اليهودية ليهود العالم إلى فلسطين، ثم البدء ببناء المستوطنات اليهودية التي كانت قريبة في بداياتها من شكل التعاونيات التي أقامها البلاشفة الروس في سياق التحولات الثورية التي جاءت بها ثورة أكتوبر الاشتراكية في أراضي الاتحاد السوفيتي الذي انبثق عنها، ثم ليتبع هذا النشاط الاستيطاني تشكيل المنظمات الإرهابية،والتي تولت من ثم اقتلاعهم من أراضيهم المهاجرين اليهود الجدد، وارتكبوا مجازر بحق السكان الفلسطينيين.
ومن الثوابت التاريخية التي لا يمكن القفز فوقها؛ أن دولة عبرية قد قامت على أرض فلسطين في عام 1948 من القرن الماضي، بدعوى أن لليهود حق تاريخي فيها، وبأنها أرض الميعاد بعد نشاط محموم للحركة الصهيونية العالمية، وبعد توفر الدعم والتواطؤ الدولي مع فكرة قيامها، الأمر الذي أدى إلى تهجير ملايين الفلسطينيين الى بلاد الشتات وإلى خارج أرضهم التي ولدوا فيها.
ورغم صدور القرار الدولي القاضي بتقسيم جغرافيا فلسطين إلى دولتين، والذي لم يقبل به العرب والفلسطينيون، فقد ولد بعد ذلك صراع دام وعميق عربي–إسرائيلي، واندلعت عدة حروب مع الكيان الناشئ، شنته دول عربية محيطة به، وكانت في معظمها مجايلة له في تاريخ الولادة، وقد انبثقت عن اتفاقية “سايكس– بيكو” سيئة الصيت، ولم تتوفر لها عوامل القوة والدعم والتنظيم مثلا لكيان الوليد الذي توفرت له رعاية دولية، وعملت على خدمته وتوفير أسباب نجاحه لوبيات مالية وإعلامية يهودية نافذة في أغلب دول العالم صاحبة التأثير، ما سمح للدولة الحديثة العهد في أن تكون وخلال فترة قصيرة في عداد الدول المتقدمة، وصار لها جيشاً عصرياً ودخلت النادي النووي بسرعة منذ خمسينات القرن الماضي، كأول دولة تمتلك القنبلة النووية من خارج دول النادي النووي الخمس.
ومع سيرورة الوقائع التي طبعت هذا التطور في جغرافيا المنطقة؛ يمكن القول إن دولة خاصة لها ميزات وعوامل تكوين تفردت بها، هي ديمقراطية مدنية وعلمانية نسبياً من جهة، انسجاماً مع ماهية البُناة الأوائل والذين جلبوا معهم قيمهم وثقافتهم من بلدانهم الأصلية، ودينية متخلفة، من جهة أخرى، باعتبار الدين اليهودي واللغة العبرية هما العاملين المتوفرين لها فقط من العوامل التي تسمح بوجود الأمة. هذا التناقض في بنية الدولة العصرية؛ جعل إسرائيل تعيش أزمة نمو في بنيتها الأساسية، كذلك جعل منها دولة تواجه تحديات عديدة، ليس بسبب مواجهة مقاومة عربية من الفلسطينيين في أحشائها فقط، ولم تشفع لها حظوتها العلمية والتقنية المتفوقة ونفوذها في السياسة العالمية؛ بل صارت تواجه صراعاً بنيوياً داخلياً حول الشكل الذي يمكن أن تستقر عليه.
وبعيداً عن الشكل الذي سيفرضه ديالكتيك الصراع ومآلاته على شكل ومستقبل الدولة العبرية، فمن نافل القول إن هناك آراء يمكن وصفها بالمتسرعة صارت تنتشر كثيراً في الآونة الأخيرة، تبدي تفاؤلها بأن نهاية حتمية تنتظر إسرائيل؛ جراء هذا الصراع الداخلي، وقد لا يكون لهذا فرصة كافية لكسب الرهان، ولأسباب عديدة، يقع في رأسها أنها دولة ديمقراطية ودولة مؤسسات يناقش في ظلها مجتمع مدني ضاغط، ويمكن أن ينجح في فرض رؤيته لمستقبل الدولة والذي لايمكن أن يتعايش طويلاً مع خرافة الدولة الدينية المزعومة. وما نشهده اليوم ببن نتنياهو وخصومه لا يخرج في الجوهر عن هذه الاعتبارات، وعليه لا يجوز النظر إلى واقع الدولة العبرية من منظور جامد، فالآفاق في دولة إسرائيلمفتوحة عل خيارات عديدة.ومما يسجل لمصلحة هذا الأفق؛أن عرب /48/ ينعمون بحقوق اجتماعية وثقافية وحتى سياسية لا ينعم بها العرب في أي مكان على مساحة العالم العربي، يتمتعون بـ/12/ مقعد في الكنيست الإسرائيلي، وبمنصب نائب رئيس الكنيست، والذي يشغله العربي “أحمد الطيبي”، كما يؤشر إلى أن المجتمع المدني الإسرائيلي صاحب وزن ضاغط ومتنامٍ وقد تكون له الغلبة، وقد ينجح لاحقاً بإنتاج إسرائيل جديدة متعايشة ومقبولة من محيطها، وقد تقبل بحل الدولتين ويُمنَح الفلسطينيونما تأخر من حقوقهم، وفق تسوية تاريخية غيرمستبعدة إن تتوفر شروطها.
وإذا كان ما تقدم يندرج في إطار محاولة تشخيص التطورات القائمةوالآفاق المحتملة لمصير الدولة العبرية؛ فإنه من الجدير ذكره أنه على المقلب الآخر، كان لنشوء هذه الظاهرة وقع الصاعقة على المزاج الشعبي العربي وقد أحدثت دويّاً كبيراً في مجرى الأحداث التي رسمت تاريخ العالم العربي طيلة العقود العديدة الماضية، ونشأ في الثقافة العربية وفي الأدبيات السياسية وبرامج الأحزاب مصطلح “الصراع العربي–الإسرائيلي” كحلقة مركزية،وأصبح في قاموس الدول العربية كمسطرة تُقاس بها، وبحسب الموقف من هذا الصراع تُحدَّد وطنية هذا السياسي أو هذه الحركة،أو تكون معياراً لصحة السياسة العامة لهذه الدولة أو تلك.
وكذلك صار الاصطدام مع المشروع الصهيوني الإسرائيلي من المهام الرئيسية لحركة التحرر العربي بعد ستينات القرن الماضي، حيث ولدت في هذا المناخ من نهضة المشاعر العربية حركة المقاومة الفلسطينية، ذات الطروحات والبرامج العلمانية اليسارية والماركسية، على شاكلة “الجبهة الشعبية والديمقراطية وفتح”، والتي تنطّحت لقياداتها نخب ماركسية أو قومية يسارية في الغالب، وتصدرت بدورها دور الطليعة في حركة الجماهير العربية وأثرت بها إلى حد كبير.في ذلك الوقت الذي كان فيه العالم منقسماً إلى معسكرين؛ معسكر قوى اليسار العالمي، وعلى رأسه الاتحاد السوفيتي ومنظومة الدول الاشتراكية، وتكتل دول الغرب الرأسمالي، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية.وضمن مسلمة أن الدولة الإسرائيليةكانت واقفة وبعنف إلى صف معسكر الغرب الرأسمالي وجزءاً أساسياً، بل رأس حربة فيه،رغم ذلك الدولة السوفيتي ثاني دولة في العالم تعترف بإسرائيل كدولة.
وعلى خلفية هذا الانقسام العالمي؛ انقسمت الدول العربية إلى صنفين من الدول، صنف يُسمي نفسه مُعادٍ للإمبريالية ولإسرائيل، تمثلت في الغالب بأنظمة الحكم الجمهورية ذات الطرح القومي والنهج الراديكالي كمصر عبدالناصر وسوريا والعراق البعثيتان والجزائر وليبيا واليمن، ثم إلى أنظمة ودول معتدلة بالموقف من إسرائيل. تمثَّلَ هذا الصنف من الدول في نموذج دول الخليج ومشيخاته، وقد جاء نعت الاعتدال من أن الأولى تبنت شعارات الحرب لإزالة الكيان الإسرائيليوخاضتعدة حروب في طريق ذلك لم تكسب أياً منها، بينما اكتفت الدول المعتدلة بدور المساعدة اقتصادياً وإعلامياً، وقد يكون المغرب قد شذ عن القاعدة حينما شارك بفعالية لافتة في حرب 73، والأردن بسبب الخصوصية الجغرافية وتركيبة السكان.
ومما يجدر ذكره أن الصنف الأول من الدول كان على الدوام يُرهِنُ برامج التنمية لديه وسياساته الاقتصادية والاجتماعية وحقوق السكان، بأولوية تبعات المواجهة وبأعباء القتال مع العدو، ولأنه حقق بعض الانجازات العسكرية في بعض محطات المواجهة، كحرب تشرين؛ فإنه أنتج في النهاية مجتمعات ودولاً فاشلة لا مكان لها ضمن مقاييس الدول.
وعلى نحو متصل، يمكن القول إن خطاب المواجهة مع المشروع الصهيوني لم يعد يتمتع بعناصر الجذب التي كان يحظى بها قبل عقد من الزمن، لأنه ومع مرور الوقت، يمكن التحقق من حصول عدد من المستجدات كان من شأنها أن افقدت الخطاب القومي وخطاب المواجهة مع المشروع الصهيوني الكثير من بريقه، كان في رأسها انهيار الاتحاد السوفيتي وأفول الشيوعية، وتراجع نغمة مقاومة الإمبريالية، ما غير النظر إلى مسألة الثورة العالمية ودور إسرائيل، يضاف إلى تطور في هوية وطاقم كبين قيادة حركة النضال القومي العربي العام، وفي نسق النضال الفلسطيني، حيث استبدل فيها التيار العلماني اليساري بنخب وكوادر إسلامية الإطار والتوجه، خرج بموجبه اسم ووزن اليسار الفلسطيني ممثلاً بحركات مثل “فتح والديمقراطية والحزب الشيوعي” ليحل اسم “حماس والجهاد الإسلامي” في الواجهة، والتيأدت بدورهاإلى تصفيات في صفوف فتح وباقي المنظمات الفلسطينية.
لا الجماهير العربية قد تيقنت بالممارسة من جفاف المشاريع الإسلامية ونضوبهامن أي مهام حقيقية تمس مصالح الجماهير التواقة إلى الكرامة والحرية، ومن حقيقة أنها مشاريع عابرة لإقامة امبراطوريات تحاكي أحلاماً تستدعي التاريخ، وأن القضية الفلسطينية والانشغال بتحرير القدس، ما هي إلاشماعة لدوام التغطية على مصالحها.
ومع التطورات التي أفرزها الربيع العربي، وخاصةتلك التعقيدات والملابسات التي أحاطت في الوضع السوري خلال السنوات الماضية، فقد تحقق الوعي الجمعي العربي، من أن العزف على آلة الصراع العربي الإسرائيلي، يترك موسيقى ممجوجة ولم يعد يستسيغ سماعها.
نخلص إلى نتيجة مفادها،أن التطبيع اليوم مع إسرائيل يحصل ضمن صيرورة طبيعية، وكانت قد سبقت إليه مصر بعد اتفاق كامب ديفيد، استعادت بموجبه سيناء كاملة دون قتال، ثم الأردن التي تتاخم إسرائيل على حدود طويلة والتي حوالي نصف سكانها من الفلسطينيين، وتنعم هي وشعبها بدرجة لابأس بها من الاستقرار الاقتصادي والسياسي، ثم البحرين وأخيراً الإمارات العربية المتحدة.
ما يفيد هنا أن الحديث الذي نقلته “الفوكس” نيوز” عن ولي العهد السعودي، والذي أقرَّ فيه أن عملاً جدياً يجري الإعداد له للتطبيع مع إسرائيل، هو حديث لم يأتِ من الفراغ؛ بل يجري ضمن بيئة تتغير بشكل متسارع، وبأن أي استطلاع ومن أي درجة في الرأي العام العربي سيقف إلى جانب عودة العلاقات العربية عامة مع إسرائيل، وأصبح هذا الرأي العام يغمز كثيراً من جبهة إيران وتركيا، ويتوجس من صناعة وتسويق الكبتاغون وبما لايُقاس، وأصبح في ساحة الذاكرة لديه أن إيران وتركيا تحتلان مساحات من الأرض العربية ما يفوق بكثير تلك التي تحتلها إسرائيل، كل ذلك يحصل مع ازدياد القناعة في إسرائيل وفي محيطها،أن إسرائيل لا بد أن تطور بنيتها كي تتعايش مع المنطقة، وبأن مادرجت عليه الذاكرة الثقافة الجمعية العربيةوالإسرائيلية على السواء في فهم وصية “بنغوريون” مؤسس دولة إسرائيل، والذي يقول إن من مصلحة إسرائيل كي تعيش؛ عليها أن تحرص على إحاطة نفسها بدويلات طائفية، هذا كلام لم يعد في مكانه وليس في مصلحة إسرائيل، والنخب الاسرائيلية ستتبرأ عاجلاً أمآجلاً من هذه الوصية، لأن الواقع والمنطق يقول يجب أن تحرص إسرائيل على أن تكون جسما طبيعياً في المنطقة كي تعيش، ما يستدعي تعميم ونشر العلمانية والديمقراطية؛ لأنه في مناخ منهذا النوع تعيش المجتمعات في وئام وتسامح، أسوة بباقي الشعوب في العالم.