دير الزور والرِّهاناتُ الخاسِرَة لإشعالها
جميل رشيد
عاد التوتُّر مَرَّةً أخرى إلى بلدات ريف دير الزور الشَّرقيّ، مع تسلُّل مجموعات تابعة للحكومة السُّوريّة وإيران، لتَشُنَّ هجمات على نقاط وحواجز قوّات سوريّا الدّيمقراطيّة وقوى الأمن الدّاخليّ في بلدة “ذيبان”، ولتعمل خراباً ودماراً في بعض المؤسَّسات الخدميّة، وتسبَّبت في إصابة بعض المدنيّين أيضاً.
يبدو أنَّ مخطَّط استهداف ريف دير الزور الشَّرقيّ لم ينتهِ بعد من جانب الأطراف الضالعة فيه، رغم إعلان قوّات سوريّاالدّيمقراطيّة عن انتهاء عمليّة “تعزيز الأمن” التي أطلقتها أواخر الشَّهر الماضي لمحاربة فلول ما تبقّى من خلايا تنظيم “داعش” الإرهابيّ، وكذلك عناصر ما تُسمّى “الدِّفاع الوطنيّ” التّابعة للحكومة السُّوريّة وإيران، وذلك تحت اسم “العشائر”، وهي – أي الحكومة السُّوريّة وإيران – تنظر إلى تلك المنطقة أنَّها الخاصرة الرَّخوة للإدارة الذّاتيّة وقوّات سوريّاالدّيمقراطيّة، ويمكن أن تضعفها أكثر وتتغلغل فيها أو توجّه لها الضربة القاضية، وبالتّالي تفرض سيطرتها عليها.
هذه الخطّة المحُبَكة بإحكام من قبل ثلاثي أستانا “تركيّا، إيران وروسيّا”، يُراد منها دفع الحكومة السُّوريّة إلى اندلاع مواجهة بينها وبين قوّات سوريّا الدّيمقراطيّة، رغم أنَّ الأخيرة نأت بنفسها عن الانزلاق إلى أيِّ صراع سوريّ– سوريّ. فالأطراف الثَّلاثة تحاول جَرَّ الطرفين، الحكومة السُّوريّة و(قسد)، ومعها المنطقة إلى صراع مفتوح لا طائل منه، كما أنَّ أيَّ حرب بين الطرفين، ستكرِّسُ لحالة من الانقسام الإثنيّ، وتزيد معها مساحة التشظّي الموجودة على السّاحة أصلاً، والتي هي نتاج سنوات الحرب والصراع المريرة.
تكرار عمليّة التسلُّل؛ تؤكِّدُ أنَّ الأطراف الدّاعمة تُصِرُّ على إشعال المنطقة تحت مُسمّى “قتال العشائر”، رغم أنَّ غالبيّة عشائر المنطقة، وعبر شيوخها ووجهائها، أعلنت عن معارضتها لأيّ توتر في مناطقها قد يدخلها في دوّامة من الاقتتال الدّاخليّ، وبالتّالي تسير بها نحو نفق مجهول، خاصَّةً أنَّها امتحنت تلك القوى سابقاً، وكيف انعكس تعاملها معها عليها وبالاً وخراباً وتدميراً، ولا تريد أن تكرّر التَّجربة ثانية مع قوى تعرف ماهيّة أهدافها ومشاريعها، وهي تعمل وتفكّر وفق المثل القائل “من يجرّب المُجرَّب؛ فعقله مُخرَّب”. ومن المُعيبِ جدّاً إقحامُ وزجُ اسم العشائر في صراع جوهره السَّيطرة والنُّفوذ والاستحواذ على الثَّروات، خاصَّةً أنَّ مؤسَّسة العشيرة، وطيلة سنين الأزمة السُّوريّة، حافظت على اعتدالها وتمسُّكها بالحقِّ، دون الانحياز إلى هذا الطرف أو ذاك، رغم محاولات جميع الأطراف الاستثمار فيها وبها سياسيّاً وعسكريّاً، عبر بعض من يدَّعون أنَّهم “رؤساء عشائر أو وجهاء”، حتى غدت بعض العشائر، وتحت الضغط والإكراه، منقسمة على نفسها بين الولاءات، رغم أنَّها في قرارة نفسها لاتزال متمسِّكة بقيمها وتقاليدها التي توارثتها عن آبائها وأجدادها، ولم تفرِّط بها رغم عوادي الزَّمن، أو تحدو بها رغبة في التَّماهي مع الأنظمة السِّياسيّة التي تعاقبت على السُّلطة.
إنَّ العمل على إثارة الفتنة بكُلِّ الأحوال لن يَخدم أحداً غير أعداء سوريّا، والاعتقاد أنَّ إدخال دير الزور أو أيّ منطقة أخرى من سوريّا في أتّون حرب واقتتال داخليّ، قد يمنح طرفاً ما القوّة أو يعزِّزَ من رصيده الشَّعبيّ، فهو اعتقاد خاطئ ويَنُمُّ عن قصور في التَّفكير وحتّى أنَّه يُعبِّرُ عن إحساس ما قبل الوطنيّة، ويتعارض مع من له نيّة في حَلِّ الأزمة السُّوريّة بطرق سياسيّة وسلميّة، بل يُضفي عليها مزيداً من التَّعقيد والتأزيم، وبالتّأكيد الكُلُّ سيكون فيها خاسراً، وأوَّلهم الأهالي.
ففيما لم يخفِ الأهالي، وفي مقدِّمتهم ممثّلوهم من المجتمع المدنيّ المحلّيّ ورؤساء العشائر والوجهاء، مطالبهم المُحقّة من الإدارة الذّاتيّة، في توفير الخدمات الأساسيّة ضمن الإمكانات المتاحة، ومحاربة الفساد في بعض المؤسَّسات، وملاحقة الفاسدين وتقديمهم للعدالة، من أمثال “أبو خولة” وزمرته، فإنَّهم في ذات الوقت أبدوا استعدادهم الكامل للدِّفاع عن مناطقهم ضُدَّ أيّمحاولة للمساومة عليها وإقحامها في بازارات سياسة الأطراف الخارجيّة، وأكَّدوا على هذه المسألة في الاجتماعات التي عُقِدَت مع ممثّلي الإدارة الذّاتيّة وقيادات قوّاتسوريّاالدّيمقراطيّة وبمشاركة قوّات التَّحالف الدّوليّ.
إنَّ نزع فتيل الأزمة وإسقاط الذَّريعة التي تتمسَّك بها الأطراف الخارجيّة لزعزعة أمن واستقرار المنطقة؛ إنَّما يبدأ بالإنصات إلى مطالب الأهالي وعشائر المنطقة وتلبيتها، وهو ما وعدت به الإدارة الذّاتيّة، وكذلك شَدَّدَ عليها القائد العام لقوّاتسوريّاالدّيمقراطيّة “مظلوم عبدي” في لقاءاته العديدة مع وسائل الإعلام.
كَثرة اللّاعبين السِّياسيّين والعسكريّين على السّاحة السُّوريّة، فرض عليها نوعاً من التقسيم الذي لا يرغب به الشَّعبُالسُّوريّ مطلقاً، إلا أنَّ بعض الأطراف انحازت له واعتبرته فرصة لها لتنفيذ أجنداتها الخاصَّةِ بها، خصوصاً تركيّا وإيران، المستفيدتان أكثر من حالة الانقسام الرّاهنة. فالأولى احتلَّت مناطق شاسعة من الأراضي السُّوريّة، ورفعت أعلامها على الدّوائر الخدمية والمؤسَّسات، وفرضت التتريك ورموزها المختلفة في المناطق التي تحتلُّها، كما أنشأت جيشاً من السُّوريّين يعملون بأمرتها، وليتحوّلوا إلى “مرتزقة” ينفِّذون أوامرها، لتدفع بهم إلى ساحات صراعها في مناطق مثل ليبيا وأذربيجان، وليتحوَّلوا إلى أعداء لسوريّا الوطن والسُّوريّين، بكُلِّ ما للكلمة من معنى. كما أنَّ الهياكل السِّياسيّة التي شكَّلتها، باتت تضفي المشروعيّة على احتلالها وتُبرِّرُ لها انتهاكاتها وممارساتها العدوانيّة تجاه الشَّعبِالسُّوريّ.
فيما إيران التي انخرطت في الأزمة السُّوريّة من بدايتها؛ لم تخفِ هي الأخرى مشاريعها في السَّيطرة على مفاصل الدَّولة السُّوريّة، من مؤسَّسات عسكريّة ومدنيّة وخدميّة ومنشآت وشركات، وكذلك زجَّتبميليشيّاتها الطائفيّة في الحرب، وتحت مُسميّات عديدة، بالتوازي مع نشر “التشيّع” في مناطق عديدة من سوريّا، وإنشاء قوّات موالية لها داخل الجيش وبين صفوف المجتمع، عبر شراء ولاءات بعض زعماء العشائر، ليغدو جزءاً من المشروع “الإيرانيّ– الشِّيعيّ” في سوريّا، وأداتها المباشرة في توجيه الضربات لخصومها السِّياسيّين في سوريّا. وحاولت إيران استغلال شرعيّة الدَّولة السُّوريّة والتمدُّدَ أكثر في سوريّا تحت غطائها، وتكون شريكة مع تركيّا في إجراء التغيير الدّيمغرافيّ في عِدَّةِ مناطق، مثل الزَّبداني ومضايا وكفريا والفوعة، على غرار ما تفعله تركيّا في عفرين وسري كانيه/ رأس العين وكري سبي/ تل أبيض، من توطين عوائل مرتزقتها، وكذلك من إرهابيّي جبهة النُّصرة وحُرّاس الدّين والإيغور من الحزب الإسلاميّ التُّركستانيّ وغيرهم.
الاندفاعة الإيرانيّة وإصرارها على تدمير ما تبقّى من الأراضي السُّوريّة التي تنعم بنوع من الاستقرار والهدوء، مَرَدُّهُ بالدَّرجة الأولى الضغط على الولايات المتّحدةالأمريكيّة وقوّات التَّحالف الدّولي للخروج من سوريّا، وهو ما تَمَّ الاتفاق حوله في النُّسخة 21 والأخيرة من اجتماعات “أستانا” بين الأطراف الثَّلاثة “روسيّا، تركيا وإيران”، والوقائع على الأرض تؤكِّدُ التزام الأطراف الثَّلاثة بمضامين ذاك الاتِّفاق، حيث أشعلت تركيّا من جهتها جبهات التَّماس مع قوّاتسوريّاالدّيمقراطيّة في معظم المناطق، منبج، عين عيسى، مناطق الشَّهباء، تل تمر وزركان، إضافة إلى تكثيف ضرباتها الجوّيّة عبر الطيران المُسيَّر، في مسعى لنشر الفوضى ودفع الأهالي نحو الهجرة والنّزوح.
الأضلاع الثَّلاثة لمثلَّث استهداف مناطق الإدارة الذّاتيّة، لا تفكِّرُ بأيّ حَلٍّ سياسيٍّ للأزمة السُّوريّة، بل تجد مصالحها في استمرار مسلسل العنف، وتكرار عمليّات التسلّل تشير إلى نواياها الحقيقيّة في دفع الأمور نحو سيادة لغة السِّلاح والمدافع على لغة الحوار والتَّفاوض لحَلِّ المشاكل العالقة بين الإدارة الذّاتيّة والحكومة السُّوريّة، رغم يقينها أنَّ الإدارة لا تفكِّر بأيّ شكل من الأشكال خارج الجغرافيا السُّوريّة، بل ترى نفسها نواة لإعادة اللُّحمة الوطنيّة السُّوريّة، وتفتح جميع أبوابها لإطلاق حوار وطنيّ سوريّ– سوريّ، وأوَّله مع الحكومة السُّوريّة، وتنظر أن تلعب القوى الحليفة لدمشق دورها في أن تكون سنداً وعوناً في بدء الحوار، لا أن تتآمر عليها وتحاول تقويضها.
إنَّ حسابات الأطراف المراهنة على إضعاف الإدارة الذّاتيّة وتقويضها، عن طريق إثارة البلبلة والفوضى واستخدام العشائر، هي خاطئة، وإنَّما تراهن على حصان خاسر، وإن كانت ترى أنَّ محاربة قوّاتسوريّا الدّيمقراطيّة هي بوّابة لمحاربة التَّواجد الأمريكيّ في سوريّا، فإنَّها أضعف من تواجه الولايات المتّحدة بهذه الطريقة المُبتَذَلة، ولن تتمكَّنَ من زعزعة التَّواجد الأمريكيّ في سوريّا عبر قتل أبناء الشَّعب السُّوريّ واحتلال أراضي أخرى، أو عبر نشر التشيُّع وتمدُّد الميليشيّات الطائفيّة، بل إنَّ إخراجها يَمُرُّ عبر انتفاء أسباب تواجدها من خلال تحقيق التَّوافق الوطنيّ والبدء بالحوار الوطنيّلوضع حَلٍّ للأزمة.