مسارات الحراك الشعبي في السويداء
محمد عيسى
إن أي محاولة لتوصيف أو فهم ما يجري في السويداء أو للحكم على مآلاته وتأثيراته على المشهد السوري العام، تبدو عملية قاصرة مالم يتم ربطها بمجمل التطورات الأخرى التي شهدتها الساحة السورية مؤخراً وما زالت تشهدها، وحيث يندرج كل ذلك باحتدام التنافس والتنازع الدولي والإقليمي على تحديد وحسم شكل ومستقبل الدولة السورية وبعدها؛ ربما يكون ذلك منطلقا لرسم شكل منطقة الشرق الأوسط بأكملها.
ولا تخرج عن هذا الانطباع في كثير أو قليل النشاطات المحمومة للإيرانيين والأتراك ومن يجري في رُكبهم من الإسلاميين لإجراء خلط في الأوراق وافتعال معارك يائسة وفتن هنا وهناك، بقصد تعكير الأجواء وزرع الألغام في طريق يقظة السوريين لدواعي وحدتهم وتفاهمهم حول مخارج أزمتهم، وما فتنة دير الزور التي أفلحت قوات سوريا الديمقراطية في إجهاضها بسرعة فائقة، غير دليل قاطع على صحة ذلك.
ووفقاً لهذه الرؤية، وعلى قاعدة أن الجزء فيه الكثير من خصائص الكل؛ فلن يكون حراك السويداء اليوم غير أحد المؤشرات الدّالة على أن الوضع السوري قد أصبح على درجة عالية من السخونة، ويقف على عتبة تطورات في غاية الأهمية.
فالسويداء في تضاريس المسألة الوطنية وفي الجذور، ووفق ما هو في ذمة التاريخ من ثوابت، كانت معقل الثورة السورية الكبرى التي قادها “سلطان باشا الأطرش” ضد الاستعمار الفرنسي في عشرينات القرن الماضي ومُلهمة السوريين في باقي المناطق.
وليس هذا وحسب، بل وعلى نفس الخطى؛ لم يبقَ ملهم ثورة السوريين وداعية النضال لإخراج المحتل الفرنسي؛ لم يبقَ في موقع المبتدأ بلا خبر، بل حَمَلَأبناؤه وأحفاده مهمة الخبر، وكان أبناء الجبل من رواد المشروع النهضوي العروبي في خمسينيات وستينات القرن الماضي، وقد لمعت في تلك الفترة أسماء وشخصيات وطنية بارزة أمثال وزير الدفاع البعثي إبان فترة نهوض البعث اللواء “حمد عبيد” وشاعر البعث الأول “صابر فلحوط” و”متعب شنان” وغيرهم كثير.
بمعنى ما من المعاني لم يكن أبناء جبل العرب على هامش المشروع الوطني والنهضوي في طور نهوضه، بل كانوا في القلب منه على الدوام، وفي حراك اليوم يصبح لكل ذلك دوره ومعناه، وفوق كل ذلك يصبح لمشايخ عقل الدروز وعلى رأسهم الشيخ “حكمت الهجري” حق السبق بأنه أول رجل دين في المنطقة يدعو لإقامة الدولة العلمانية الواحدة ويطالب بفصل الدين عن الدولة.
وعلى نفس المنحى؛ وفيما يتجه الحراك صعوداً وهو يدخل اسبوعه الرابع؛ من المفيد التركيز على السمات الاساسية فيه والتي تشكل طابعه العام، كتحرك حضاري تلعب فيه المرأة دوراً بارزاً، ويركز على رفع الشعارات التي تركز على الوحدة الوطنية ووحدة النسيج الاجتماعي، وعلى نبذ الشعارات الطائفية، والتمسك بسلمية الحراك ونبذ أسلوب العنف. ومما يجدر ذكره هو أن الحراك الذي بدأ بمهام اجتماعية وبمطالب تمس القضايا المعاشية، على خلفية قرار زيادة الرواتب الأخير، وكردة فعل على السياسة الاقتصادية للحكومة، فقد تطور الآن ليتبنى مطالب سياسيةعالية السقف، وتتوخى شكلاً جديداً للدولة وللعقد الاجتماعي الذي يقوم عليه دستور البلاد، بما يعني المطالبة بإجراء تغيير واضح لنظام الحزب الواحد، ومن خلال التمسك بتطبيق القرار الدولي 2254 والذي يضع خارطة الطريق لهذا التغيير المنشود.
ومع ملاحظة ان الحراك صار يعلن عن وجهه الثوري على الوضع القائم، عبر نهج طي صفحة الحزب الواحد والمركز الواحد والفكرة الكلية الواحدة المهيمنة على قيادة البلد، وترجم ذلك النهج بإغلاق مكاتب حزب البعث في مناطق انطلاقته، فيسجل أن ضبط النفس ومحاولة استيعاب الموقف والسعي إلى الحوار مع المنتفضين ومع شيوخ العقل، هي السمة الرئيسية لموقف سلطات دمشق حتى الآن. وما يؤكد صحة مثل هذا الانطباع، هو أن حادثة إطلاق النار الأخيرة من داخل مبنى فرع حزب البعث في مدينة السويداء على المتظاهرين الذين عاودوا لإغلاقه، تعاطى معها الحراك وشيوخ العقل “الهجري والحناوي” على أنها سلوك إيراني المصدر والتخطيط، ولم يذكروا السلطات السورية في تعليقهم على الحادثة، وقد كان الهجري واضحاً في اتهامه للإيرانيين وحزب الله في الضلوع في الحادثة، عندما عقب عليها بإصراره على لزوم الاستمرار بسلمية الحراك من جهة، وعلى الدعوة للجهاد في مواجهة الوجود والتدخل الإيراني، من جهة أخرى.
وبالعودة إلى ما أسلفنا في المقدمة؛ عن أن تقدير المعاني والمآلات لحراك السويداء يتأتى من خلال ربطه بمجمل التطورات الأخرى، وتنبع تداعياته المحتملة على الوضع القائم، جراء سيرورته بالتوازي مع تصاعد وتيرة التدخلات الدولية، وخاصة الأمريكية والغربية، بالإضافة إلى اشتداد حملة الاعتداءات الإسرائيلية في الأجواء السورية.
ولا يجوز أن يغيب عن الذهن أن ما يعزز هذا الانطباع،أن المكالمة المطولة الأخيرة التي أجراها عضو الكونغرس الأمريكي “فريشل” المتتبع للشأن السوري، والذي تقول تقارير إنه هو من كان يقود العمل مع فريق من النواب لاستصدار قانون الكبتاغون وتجديد قانون قيصر، هذه المكالمة التي جاءت مع جهتين من أطراف معادلة الشأن السوريالشيخ “الهجري” أولاً، وقائد ما يدعى “حراس الثورة” ثانياً.
ثم إن ما يوضح حجم الاهتمام الأمريكي ووجهته؛أن هذا الاتصال قد تواقت مع موقف أمريكي لافت أعلنته الخارجية الأمريكية، وقضى بتغيير اسم السفارة الأمريكية في العاصمة دمشق، إلى اسم السفارة الأمريكية في سوريا، كما يعني بنظر معلقين كثر أن السياسة الأمريكية بصدد التدخل لتقويض فكرة دولة المركز الواحد،أو ربما يكون في نيتها إنشاء قنصليات تتمتع بصلاحيات في مواقع عديدة.
وهنا تظهر تكهنات، بعضها يقول إن في الأجندة الأمريكية نوايا لتقسيم الجغرافيا السورية، وبعضها الآخر لا يخامره الشك أنها مساعي بعيدة عن غرض التقسيم ولا تدور إلا في محيط الدولة الواحدة الإئتلافية أو اللامركزية.وما يعزز هذا الرأي أن القوى السورية المعنية والعاملة على الأرض، لا تؤمن ولا تطرح أي منها فكرة الانفصال، وبأن نشطاء حراك السويداء قد كانوا شديدي الوضوح في تداعيهم إلى مؤتمر قوى سياسية لإنتاج إدارة مدنية محلية فقط، ويرفضون الانفصال في خطابهم بشكل واضح.
وعلى نفس النسق من التفكير والعمل؛ تلح على التوكيد سياسات (مسد). وهنا من نافل القول باستثناء تلك المسيطرة في الشمال الغربي والمحسوبية على العدو التركي، وحيث هي تتعامل بعملته وتعتمد اللغة التركية وترفع العلم التركي، تلك الأطراف الإسلامية صاحبة النهج الإرهابي، والذي يعد وجودها مؤقتاً بنظر كثير من الأطراف السورية والدولية، وبأن نضالاً شعبياً حتمياً سيقوم مستقبلاً لكنسها من معادلة الوطن السوري.
أي محاولة لتوصيف أو فهم ما يجري في السويداء أو للحكم على مآلاته وتأثيراته على المشهد السوري العام، تبدو عملية قاصرة مالم يتم ربطها بمجمل التطورات الأخرى التي شهدتها الساحة السورية مؤخراً وما زالت تشهدها، وحيث يندرج كل ذلك باحتدام التنافس والتنازع الدولي والإقليمي على تحديد وحسم شكل ومستقبل الدولة السورية وبعدها؛ ربما يكون ذلك منطلقا لرسم شكل منطقة الشرق الأوسط بأكملها.