هل ستقود السويداء قاطرة التغيير في سوريا؟
إن أي مقاربة موضوعية للأحداث الجارية الآن على المسرح السوري، سواء كان الرصد متناولاً حراك السويداء،أو ما يتعلق بالمعارك التي دارت مع ما أطلق عليه “ثورة العشائر العربية” في مواجهة قوات سوريا الديمقراطية، والتي دارت في أرياف وبعض قرى دير الزور مؤخراً.
لن يكون بالإمكان يتم تقديم تصور دقيق، ولن يوصل المرء إلى رؤية واضحة وصحيحة، مالم نعد باللوحة السورية إلى بدايتها، وإلى حيث بداية الحراك في 2011، تاريخ بدء التظاهرات في المدن السورية وموعد انطلاق حملة الاحتجاجات التي عمت دولاً عديدة في المنطقة، ضمن حُمّى ما سمي “الربيع العربي”.
فللحقيقة والتاريخ؛ كان الحراك في جذوره الاجتماعية يتسم بالكثير من المشروعية التاريخية، ويقدم في شكله البدئي خطاباً سياسياً يحمل مهاماً اجتماعية تتصل في جانب منها بأهمية العدالة الاجتماعية وبأولوية دولة القانون والمواطنة والديمقراطية، ولها كل مسوغاتها الوطنية. لكن وبصرف النظر عن مسؤولية هذا الطرف أو ذاك من أطراف الصراع؛ فإن الوقائع التي سجلتها مسيرة الأحداث تؤكد حقيقة ثابتة؛ هي أن الإسلام السياسي وأطرافاً دولية وإقليمية ومحلية قد نجحت في ركوب موجة الاحتجاجات وفي حرفها عن مسارها السلمي نحو العسكرة والعنف أولاً، ونحو الأسلمة والتطييف ثانياً، الأمر الذي أدى إلى نشوب صراع دموي عنيف أدى إلى كوارث اجتماعية وبيئية وإلى حركة نزوح وهجرة داخلية وخارجية لملايين السوريين وإلى مقتل مئات الآلاف منهم، بالإضافة إلى تدمير هائل في البنية التحتية، والذي بدوره كانت أحد أهم تداعياته هزيمة جزئية لفصائل الإسلام السياسي الإرهابية وتراجع نفوذها عن كثير من مناطق سيطرتها السابقة في الجغرافيا السورية، وإن بقيت تحتفظ بنفوذ هام لها في إدلب وبعض مناطق سيطرة قوات الاحتلال التركي. بموازاة ذلك حصل تدخل أجنبي سياسي وعسكري واسع النطاق، كان الأبرز فيه التدخل الإيراني ثم الروسي فالتركي، وصولاً إلى الاستباحة الأمريكية والإسرائيلية.
هذا الأمر خلَّف وضعاً سوريا كارثياً، وعلى جميع المستويات، وكانت الدولة السورية الأم أحد أهم ضحاياه. ولأن الحراك الذي كان ثورياً في بدايته، قد تطور إلى حرب شرسة بين الفصائل الإسلامية المسلحة والسلطات السورية الماسكة بالسلطة، ولئن نجحت تلك الأخيرة باستعادة السيطرة أخيراً، وبدعم إيراني وروسي مشترك، على الجزء الأكبر من الجغرافيا السورية، وبعيداً عن آلية تشكل خريطة توزع القوى على الاراضي السورية،إلا أنه – وبكل أسف–أصبحت تلك الخارطة هشة وتتقاسمها مناطق نفوذ ثلاث وتتنازع على شكلها ومستقبلها دول ومشاريع من الإقليم ومن خارجه.
مناطق نفوذ ثلاث تعكس تطلعات وأنماطاً من التفكير السياسي لسوريين ثلاث، إسلاموي ماضوي يعتمد العنف والتطرف طريقاً، يتركز ثقله في إدلب الآن، تدعمه منذ البداية تركيا الأردوغانية، تختلف معه ببعض الشكل إيران ولا تعارضه من حيث الجوهر، تعاديه أمريكا ودول الحلف الغربي، وقد لا تتقاطع معه خطط روسيا البوتينية. ورغم تراجع نفوذه الكبير، إلا أنه لم ييأس ومازال يتشبث بسلوكين؛ 1– أحلامه في سوريا إسلامية، 2–ربط نفسه بالأجندات التركية الأردوغانية.
الفريق الثاني؛ فريق حداثوي يعتمد العلمنة والديمقراطية وتفعيل دور المرأة، من مسلمات مشروع الدولة الوطنية المنشودة في سوريا العدالة ودولة الحق والتعددية والقانون الواحد واللامركزية، تعكسه وتعمل من أجله على الأرض تجربة الإدارة الذاتية القائمة في شمال وشرق سوريا.نموذج في نضال السوريين تشي طبيعة المعارك التي يخوضها الآن، على أنه الحامل الحقيقي والوارث الواقعي لأحلام السوريين الساعين إلى هدف التغيير والمؤمنين بالحوار بين السوريين، وبالنضال السلمي طريقا وحيداً لإخراج السوريين من أزمتهم، تشغلهم الأولويات الوطنية، ويرفضون العمل لخدمة أية أجندات دولية أو إقليمية، وترجموا ذلك بموقفهم الأخير والواضح جداً، عبر ابتعادهم أو النأي بأنفسهم عن حملة الاستقطاب الأمريكية الساعية إلى زج الصناديد وغيرها من تشكيلات بعض العشائر العربية في مواجهة محتملة ضد التواجد الإيراني وأذرعها المنتشرة على الحدود بين سوريا والعراق بهدف قطع طريق طهران بغداد دمشق. الموقف الهام والتاريخي والذي لم يشفع لهم بنظر الإيرانيين، حين أطلقوا وأداروا حرب الغرائز العشائرية العربية الإسلاموية الدوافع ضد قوات سوريا الديمقراطية، زاعمين أنهم يثيرون نخوة وطنية وقومية ضد كرد جاؤوا من قنديل.
تلك الزوبعة “الفتنوية” التي ساهمت في تصميمها المخابرات التركية وانخرط بها الإخوان المسلمون بشكل واضح وكبير.
فريق ثالث؛ مهم وأساسي، يتماهى في رمزيته مع فكرة الدولة السورية، ويمثلها في الأوساط والهيئات الدولية ويسيطر على الجزء الأكبر من الأراضي السورية.يتحمل مسؤولية الدفاع والأمن والرعاية الاجتماعية، وكل ما يتعلق بواجبات الدولة تجاه الكتلة الأكبر من سكان البلاد، والذين ما زالوا يقيمون في مناطق نفوذه. إنه فريق السلطات الحالية في دمشق والمتمسك بتفرده في تمثيل الدولة، على أنه الحائز الوحيد للشرعية الرسمية والدستورية، وبالاعتماد على هذه النظرة لنفسه؛ يفوض نفسه بعقد المعاهدات وإقامة التحالفات التي يرى من زاويته أنها تتفق مع مصلحة البلاد.وعلى ضوء هذه النرجسية السياسية؛ فهو لا يتورّع عن اعتماد نفس المبادئ السياسية والاقتصادية التي درج عليها منذ أكثر من خمسين عاماً.
يبقى هذا النظام هو الطرف المهم في المعادلة السورية، بصرف النظر عن موقف الأطراف السورية الأخرى منه، وستستمر تتجه إليهالأنظار اليوم وخلال الفترة القادمة من عمر الصراع الدائر في سوريا وإلى التطورات الحاصلة في مواقفه وحوله.وهو ولطالما انقسم السوريون في النظر إلى دوره وشرعيته؛ فلا شك بأنه بقي يتمتع وإلى وقت قريب بتأييد ومساندة شرائح واسعة من السوريين.
لكن مع الوقت، ومع تعثرالسياسات الاقتصادية للحكومات المتعاقبة، ومع تتالي عمليات التراجع الحاد في سعر صرف العملة السورية، وتراجع القدرة الشرائية لكتلة رواتب العاملين في الدولة، مع تنامي أسعار السلع، بشكل جعل الكتلة العالية من السكان تعاني من الفقر الشديد، وقد وصل الأمر إلى حد الجوع الحقيقي عند الكثيرين، رافقه ندرة المواد وارتفاع أسعارها الشديد، خاصة أسعار المشتقات النفطية وحوامل الطاقة، وتراجع الخدمات، ما خلق مناخاً اجتماعياً واقتصادياً ملائماً لاستفحال الفساد والمحسوبية والفوضى في جميع مفاصل الدولة والمجتمع، ما سبب خللاً كبيراً في قوانين السوق لمصلحة كبار التجار والمستثمرين المحسوبين على الحكومة، إلى حد صار من شبه المُسلَّم به بنظر كثير من السوريين أن الدولة منحازة بالكامل إلى صف التجار وشركائهم من أصحاب النفوذ.
ولأن منشار الفرز الطبقي قد مشى عميقا بعد ذلك، ودائرة المتضررين جوعاً وألماً صارت تتمدد بكل اتجاه؛ فقد بدأ يخسر الكثير من أنصاره.ومع الزيادة الأخيرة للرواتب، والتي لم تكن ذكية على الإطلاق، وقد أدت إلى نتائج عكسية، حيث أضعفت القوة الشرائية لكتلة الرواتب بدلاً من أن تزيد فيها، فقد زاد الاستياء وانتشر التململ بين معظم السوريين وفي جميع المدن والقرى.
وبكلمة واحدة يمكن القول إن الاحتجاج على السياسة الاجتماعية للحكومة تعتبر ظاهرة عامة ولا تنحصر في منطقة بعينها، وذلك لسبب واضح وبسيط؛ هو أن المواطن لم يعد يتقبَّل تبريرات الحكومة، ويعتبر أن أي حديث عن أن الدولة مشغولة بمواجهة ظروف الحرب مع الإرهاب، وأنها واقعة تحت ضغط العقوبات الدولية، وفكرة المؤامرة الخارجية، بل يعتبر كل ذلك حديثاً مكرراًوممجوجاً وغير مفهوم، طالما أن طبقة النافذين في الدولة تستأثر بحصة الأسد من الدخل الوطني وتعيش في حالة من البذخ الشديد.
إلى ذلك يمكن القول إن الظواهر الاحتجاجية على السياسة الاجتماعية للدولة في السويداء أو في غيرها، لها نفس الجذور وتنمو وتنتشر على نفس الدوافع والمحركات، والمتعلقة بفشل الدولة حتى الآن بملاقاة مطالب المحتجين المحقة، وفق كل المعايير الوطنية المتعارف عليها.
إن أي نظرة متفحصة لمجريات الاحتجاجات، التي باتت في حالة تصاعد مستمر، تجعل المراقب يخرج بانطباع عام يفيد أنها حتى الآن سلمية وتجري بطريقة هادئة ولم تتعرض إلى مؤسسات الدولة، وأنها بعيدة عن العنف والتخريب، كما أنه يسجل لها أنها تبرز دوراً لافتاً وحضارياً للمرأة.أما من يأخذ عليها أنهاتحمل هماً سياسياً وتمشي إلى أبعد من الطروحات الاجتماعية والقضايا المطلبية، حينما تطالب بتطبيق القرار الدولي /2254/ فهو يخطئ في التقدير، لأنه في لُبِّ القضايا السياسية تكمن الهموم الاجتماعية، ولا مجال للفصل بينهما، ولا قيمة بعرف علم السياسة لوطن لا ينعم فيه المواطن بحقوقه الاجتماعية ولا يوفر له شروط الكرامة الإنسانية.
أما زاوية تفكير الدولة وطريقة تعاملها مع الاحتجاجات القائمة، يمكن القول إنها ما زالت تتصف بالتعقل والتريث والرغبة في الحوار وتفهم مطالب المحتجين، وهي سياسة يجب الإشارة إليها. ويجب على السوريين في جميع مواقعهم، في السلطة وفي المعارضة،أن يستوعبوا بعضهم، ويعتمدوا لغة الحوار للخروج الآمن من الأزمة.
وفيما يتعلق بتطورات السويداء وبباقي المستجدات على الساحة السورية،يتراءى للبعض أن السلطات في دمشق تبدي ميلاً واضحاً للحوار مع مكونات الشعب السوري وفعالياته، وتبدو أقل تشدداً في التعاطي مع الظواهر الناشئة، فيما أن الدور الإيراني هو من يلعب دور التصعيد ويسعى إلى استخدام لغة الحسم والتشدد،ولقد ظهر ذلك جلياً في تورط الدور الإيراني في تسعير الاندفاعة الغوغائية المشبوهة للعشائر العربية ضد قوات سوريا الديمقراطية، في الوقت التي كانت الأخيرة تبذل جهوداً كي تحافظ على موقف يبعدها عن جو الاستقطاب المعادي لإيران، والتي تسعى السياسة الأمريكية إلى توليده على الحدود الشرقية مابين سوريا والعراق. هذه السياسة الإيرانية المنخرطة عميقاً بالشأن السوري والمتورطة بالوقوف في وجه خياراته، تبدو واضحة اليوم للعيان، وتتسم بنفور متزايد من قبل السوريين من هذا الدور وهذه السياسة، لكن وبعد أن حققت قوات سوريا الديمقراطية نجاحها السريع في السيطرة على الموقف، وفي إخماد التمرد والعدوان على سلامة الاستقرار في مناطق دير الزور التي شهدت فصول المؤامرة وأعمال الفتنة، يمكن القول إن قوات سوريا الديمقراطية لم تفشِل الجهود الإيرانية والتركية في إحداث الفتنة فقط،بل أبدت ألمعية خاصة في سرعة انتقالها إلى امتصاص أسباب الأزمة، وبالنتيجة لم تنتصر على “داعش” فقط؛ بل هي اليوم في طور من يقتلعه جذوره من البيئة العشائرية العربية، وفي معادلات الوضع السوري، سوف لن يكون وزنها هونفسه الذي كان قبل إحباط المؤامرة.