انكشافُ خيوطِ اللُّعبَةِ في دير الزور
بعد مرور أكثر من أسبوع على اندلاع الأحداث في دير الزور؛ بدأت تظهر الصورة الحقيقيّة لدوافع وأهداف أصحابها، وكذلك خيوطها الخفيّة التي حرَّكتها أكثر من جهة،ويمكن الآن قراءة المشهد بشكل أوضح وبتروٍّ، على ضوء ما أفرزته من نتائج على الصَّعيد المحلّيّ والإقليميّ والدّوليّ.
إنَّ تهافُت بعض وسائل الإعلام التّابعة لما تُسمّى “المعارضة” السُّوريّة المرتبطة بتركيّا، ومثلها بعض الأطراف التّابعة للحكومة السُّوريّة وإيران، على التَّهليل والادّعاء بأنَّ المعركة هي بين العشائر “العربيّة” و”الانفصاليّين” وحتّى التَّرويج بأنَّها بين “العرب” و”الكُرد”، زاد من كميّة الشَّحن العنصريّ وحالة التجييش في صفوف بعض الأطراف التي خُدِعَت بالخطاب التهييجي البعيد كُلّ البُعد عن العقلنة والتَّفكير المنطقيّ بمآل الأمور، وما يمكن أن يترتَّب على المنطقة وأهلها جرّاء هذه النَّزعة التي يُراد لها أن تكون كالنّار في الهشيم، لتحقيق بعض الأهداف القصيرة التي هي في النهاية لا قيمة لها أمام الدِّماء التي ستُهدر في الشّارع.
لعبت وسائل الإعلام دوراً سلبيّاً لأبعد الحدود في تهيئة الأرضيّة والتَّسويق لخطاب يؤجِّجُ المشاعر والعواطف، ويجمع الرُّعاع حولهم، ويفتح أبواب جهنَّم على السُّوريّين، خاصَّةً في المناطق التي لم يمضِ وقت طويل تحرُّرها من ربقة تنظيم “داعش” الإرهابيّ، فتنفَّست الصُعَداء، وانبرت تُضمِّدُ جراحها وتبني مدنها وقراها، لتَنبُضَ فيها الحياة من جديد. ويبدو أنَّ استقرار المنطقة لا يتوافق مع أجندات بعض الأطراف التي امتهنت نشر الفوضى وبنت أمجادها على دماء وأشلاء السُّوريّين، فحجم الضَخِّ الإعلاميّ المُعادي للكُرد، والدّاعي إلى خلق فتنة عرقيّة، والدَّفع باتجاه حرب عبثيّة لا طائل سوى تعميق الأزمات وتشتيت انتباه السُّوريّين عن الحَلِّ والاستقرار، كانت كافية إشعال ألف حرب ومعركة، بعد أن رفعت عدد منها جعيرها ليصل عنان السَّماء.
الدَّعوة إلى قتل الكُرد، كما تفوَّه بها المعتوه “نوّاف راغب البشير”، لم يتلقَّفها أيٌّ من السُّوريّين، وحتّى أبناء عشيرته البكَّارة، بل كانت موضع استهجان وامتعاض من قبل الجميع، ولم تلقَ آذاناً صاغية، وانعكست عليه وبالاً، لطالما عُرِفَ عن المذكور كَثرَةُ تقلُّباته واستداراته، وأنَّه تعوَّدَ على الانتقال من حِضنٍ إلى آخر وفق ما تقتضيه مصالحه وما يُدفعُ له، فقد أساء لعشيرته قبل أن يسيء للكُرد، وهي دعوة ارتدَّت عليه سلباً بعد أن فشل مخطَّطه الذي طالما راهن عليه في زَجِّ المنطقة في أتّون حرب عربيّة – كُرديّة وهدر دماء العرب والكُرد، بعد أن حرّروا بدمائهم المشتركة مناطقهم من تنظيم “داعش” الإرهابيّ، وأرسوا معاً أسس نظام ديمقراطيّ بعيد عن كُلِّ النَّعرات الطائفيّة والمذهبيّة والإثنيّة.
إنَّ توظيف أخطاء المدعو “أبو خولة” والجرائم التي ارتكبها في ريف دير الزور في خدمة تنفيذ أجندات مشبوهة خارجيّة، لم يجنِ من أصحابها أيّ فائدة، ولا يمكن بأيَّ حال من الأحوال إخفاء الحقيقة التي ظهرت للعيان بعد اعتقاله، واكتشاف حجم ارتباطاته بجهات خارجيّة، والتَّنسيق معها والتَّمهيد لاندلاع اقتتال عربيّ– كُرديّ وإدخال المنطقة في حالة فوضى السِّلاح، وإشاعة مناخ عنوانه الرئيس إعادة إحياء تنظيم “داعش” الإرهابيّ، وإقحام المنطقة برمَّتها في غياهب المجهول. التَّصريحات الصادرة من أطراف وشخصيّات كانت حتّى الأمس القريب تَنعُتُ “أبو خولة” بأقذع الصّفات، وتدعو قوّاتسوريّاالدّيمقراطيّة إلى خلعه ومحاسبته، اليوم عادت لتعتبر “أبو خولة” بطلاً عشائريّاً يُدافِعُ عن قيم العشيرة والعرب، إلا أنَّ الحقيقة الكامنة وراءها؛ أنَّهم استخدموه ذريعة لنفث سمومهم التي تَنُمُّ عن كميّة الحقد لديهم.
قنوات التَّطبيل والتزمير مثل “أورينت” وكذلك التّابعة لجماعة الإخوان المسلمين مثل “سوريّا” و”حلب اليوم” و”الجزيرة”، انبرت منذ اللَّحظة لاعتقال المدعو “أبو خولة” إلى تقديمه وكأنَّه إحدى أبطالها وحامي كرامتها، وتغرق أكثر في تبنّي خطاب معادٍ للكُرد ومشروعهم الدّيمقراطيّ في سوريّا، وتفبرك العديد من الصور ومقاطع الفيديو، وإخراجها بشكل توحي وكأنَّها وقعت في ريف دير الزور، رغم أنَّها مُستقاة من مناطق أخرى في العالم، مثل أفغانستان وليبيا وأذربيجان والعراق، لينخدع بها السُذَّج، وينجرّوا خلف أكاذيبهم المُضلِّلة.
المهم في كُلّ ذلك؛ هو التَّعامل العقلانيّ والهادئ لقيادة قوّاتسوريّاالدّيمقراطيّة مع الأحداث، من منطلق مسؤوليّاتها الأخلاقيّة والوطنيّة، التي تفرض عليها التّعاطي مع مجريات الأحداث برؤية مستقبليّة، وعدم الانجرار وراء التُرُّهات واللغط السّائد في الجهة المقابلة، أو الإقدام على التَّعامل بالمثل، واتّخاذ خطاب جِهوي لا يخدم توجُّهاتها الإستراتيجيّة، بل أخذت الأمور على نواصيها، وبما تمليه عليها مكانتها ووزنها السِّياسيّ والعسكريّ في السّاحة السُّوريّة والإقليميّة والدّوليّة، وهذا كان مربط الفرس والنُّقطة التي تحطَّمت عليها مخطَّطات الأطراف التي راهنت على استمرار حالة الفوضى والذِّهاب بالمنطقة إلى حربٍ مفتوحَةٍ.
لا شَكَّ أنَّ أيَّ قوة عسكريّة تتعامل بحزمٍ وحسمٍ مع المشاكل التي تعترض سبيل عملها، ووفق ما يقتضيه المنطق العسكريّ الذي يتَّصف بعدم المهادنة مع الأوضاع الطارئة بأيّ شكل من الأشكال. لا يمكن في هذه الحالات أن تُذلِّل العقبات فقط من خلال دعوات التَّهدئة، والتي قد يفهمها الآخر بأنَّها تَنُمُّ عن ضعف، بل ينبغي أن تترافق مع تَحرُّكٍ عسكريٍّ قويٍّ، وهو ما أقدمت عليه (قسد)، دون التَّغافل عن ارتدادات سلبيّة قد يخلفّها أيّ عمل عسكريّ على الصعيد الشَّعبيّ إن لم يتُمُّ استخدام القوَّة في موضعها الصَّحيح، على العكس من ذلك، تحرَّكت على الأرض وفق دعوات الأهالي ووجهاء ورؤساء العشائر بعد أن ضاقوا ذُرعاً بأفعال المرتزقة، لوضعِ حَدٍّ نهائيّ لحالة الفلتان الأمنيّ وقطع الطريق على تَسلُّلِ المرتزقة من الضِفَّةِ الغربيّة لنهر الفرات إلى مدن وبلدات الضفَّةِ الشَّرقيّةِ والواقعة على سرير النهر. والبيانات والتَّصريحات الصادرة عن ممثّلي عشائر دير الزور؛ فنَّدت مزاعم جميع الأطراف الضالعة في الأحداث والتي ادّعت فيها بأن تحرُّكاتها جاءت وفق مطالب العشائر.
على الطرف الآخر، تصعيد دولة الاحتلال التُّركيّ ومرتزقتها من وتيرة اعتداءاتهم على كامل نقاط التَّماس مع قوّاتسوريّاالدّيمقراطيّة، وفي هذا التَّوقيت بالذّات؛ يدفع بالمرء للاعتقاد، بل والتقيُّن، بأنَّ الهجمات التي شنَّتها، جاءت في إطار مَدِّ طوق النَّجاة لمجاميع المرتزقة في دير الزور، وإشغال (قسد) في معاركها ضُدَّ فلول خلايا تنظيم “داعش” الإرهابيّ والمرتزقة القادمين من الضِفَّةِ الأخرى من نهر الفرات، بعد أن فرضت (قسد) طوقاً محكماً عليهم، وبدأت بإخراجهم من المدن التي تسلَّلوا إليها، ليسقطوا مثل أحجار الدومينو واحداً وراء الآخر، ويلوذوا بالفرار إلى المناطق التي جاؤوا منها، حتّى أنَّهم انسحبوا من بعض البلدات دون قتال، وهذا ما كانت ترمي وتخطّط له (قسد) لحقنِ الدِّماء.
شَنُّ الاحتلال التُّركيّ الهجمات على ريف منبج والباب، وصولاً إلى بلدة عين عيسى وريفها وحتّى تل تمر وزركان، جاء وفق مخطَّط أُعِدَّ بين أطراف أستانا، حيث تحرَّكت إيران ودفعت بأدواتها أمثال “البشير” لإثارة الفوضى في دير الزور، فيما حرَّكت دولة الاحتلال التُّركيّ أذرعها عبر شَنِّ الهجمات على مختلف الهجمات، لزعزعة أمن واستقرار مناطق شمال وشرق سوريّا، وإثارة الخوف والذُّعر بين الأهالي، إضافة إلى تأجيج المشاعر العشائريّة، والتَّصوير وكأنَّها حرب عشائريّة ضُدَّ الكُرد.
بدورها روسيّا التي تحرّك عِدَّة أطراف من وراء السِّتار؛ لم تبادر إلى إبداء موقفها الصريح، بل وقفت بشكل مواربٍ لتدعم الأطراف الضالعة في الأزمة. فالاجتماع الذي عقده نائب القوّات الرّوسيّة في سوريّا مع كُلٍّ من “نوّاف الشير” و”إبراهيم الهفل” وبعض قيادات الحرس الثّوريّ الإيرانيّ في دير الزور، الهدف منه الضغط على قوّاتسوريّاالدّيمقراطيّة وإرغامها هي وقوّات التَّحالف الدّوليّ الخروج من المنطقة وتركها لهم، لتسيطر روسيّا على حقول النَّفط، وتُفتَحُ الأبواب على مصراعيها أمام إيران لنشر التشيُّع.
إنَّ قرار الضغط على الولايات المتّحدةالأمريكيّة وقوّات التَّحالف الدّوليّ وحملها على سحب قوّاتها من سوريّا، اتُّخذ في تمّوز/ يوليو العام الماضي في القمَّةِ التي عقدها رؤساء محور أستانا في طهران، ومنذ ذلك هي تبحث عن الفرصة المناسبة لوضع مخطَّطاتها موضع التَّنفيذ.
فيما الولايات المتّحدةالأمريكيّة انزوت بنفسها عن الأحداث وراقبت تطوّرها عن كثب، وفق بيانات مسؤوليها ومؤسَّساتها، ولم تتدخَّل إلا بعد أن حقَّقت قوّاتسوريّاالدّيمقراطيّة تقدُّماً كبيراً على الأرض وأحبطت المؤامرة التي حيكت ضُدَّها في أكثر من عاصمة، حيث شاركت في اجتماع ثلاثيّ حضره قياديّون من (قسد) وممثّلين عن عشائر المنطقة، بالإضافة إلى قيادات من قوّات التَّحالف، وخرج الاجتماع باتِّفاقٍ على إعادة الأمور إلى ما كانت عليه قبل اندلاع الأحداث، وإخراج كُلِّ المرتزقة المتسلِّلين إلى المنطقة.
لقد راهنت الولايات المتّحدةالأمريكيّة أيضاً على اندلاع هكذا أحداث تضغط فيها على قوّات سوريّاالدّيمقراطيّة، بعد أن رفضت المشاركة في حرب يقودها التَّحالف الدّوليّ ضُدَّ إيران في سوريّا، لإغلاق الحدود بين العراق وسوريّا، لوقف إمدادات إيران لميليشيّاتها بالأسلحة والذَّخيرة. ولكن (قسد)، ومن خلال تحرُّكها بشكل منفرد، وإحباطها لمخطَّطِ استهدافها، دفعت الولايات المتّحدة إلى تغيير موقفها والعدول عن فكرة إشراك العشائر العربيّة ومرتزقة الاحتلال التُّركيّ في حرب محتملة ضُدَّ إيران، وتنفيذ مشروعها بوصل منطقة التَّنف بمناطق سيطرة قوّاتسوريّاالدّيمقراطيّة.
كما يُقالُ المَثَلُ الشَّعبيُّ “الضربة التي لا تقتلك تقوّيك”، كذلك هي (قسد)، خرجت من هذه المعركة التي فُرِضَتْ عليها من جميع الأطراف منتصرة، وأعادت الاعتبار لنفسها، وبما ينعكس إيجاباً على القاعدة الشَّعبيّة والجماهيريّة التي تَستمِدُّ قوَّتها منها، خاصَّةً أنَّ الأمور الآن على الأرض باتت في خواتيمها بعد أن تمكَّنت من فرض الأمن والاستقرار في معظم المدن والبلدات التي تسلَّلَ إليها المرتزقة.