سوريا.. عندما تغدو زيادة الرواتب “نقمة”
محمد عيسى
بعد طول انتظار؛أخيراً صدرت زيادة الرواتب، زيادة جاءت مخيبة لآمال السوريين ومعاكسة لتطلعاتهم في تحسين مستوى أوضاعهم المعيشية، هذا المستوى الذي لامس الحضيض قبل الزيادة وأوصل فئات واسعة من السكان إلى حد المجاعة الحقيقية.
زيادة أقل ما يمكن عنها أنها زيادة “غبية” ومستفزة للمزاج الشعبي الذي يعاني أصلاً من توترات عدة وقلق حاد حول توفر شروط الحياة اليومية وإمكانية البقاء.
وحيث ترتفع الأسعار بشكل متسارع، وبما يفوق الخيال في وتائره وبما لا يتفق مع أي حسابات أو تقديرات يضعها موظف بسيط أو متقاعد مضى بها العمر، لتدبير شؤون يومه وأسرته أو شراء أدويته التي صارت حياته مستحيلة بدونها، وراتبه لا يغطي ثمنها، أو لا يغطي أجور نقل الموظف إلى مقر عمله. هذا الارتفاع الجنوني لأسعار السلع والمنفلت من أي ضوابط أو تدابير تكبح من حركته، جاء على خلفية تدهور قيمة الليرة السورية قياساً بأسعار صرف العملات الأجنبية الصعبة،أو قياساً لسعر الدولار الأمريكي.
هذا التدهور الملحوظ والذي فقدت فيه العملة السورية وخلال العشرة أعوام الأولى من الحرب المندلعة على الأرض السورية قيمتها الكاملة لأكثر من مائة مرة، وبعد أن كان سعر صرف الدولار مقابلاً لخمسين ليرة سورية في 2011، فقد وصلت قيمته مع أواسط العام2022 إلى حدود خمسة آلاف ليرة للدولار الواحد، ثم لتعود فتخسر مائتين بالمئة جديدة من قيمتها، بعد تولي الحكومة الحالية لمهامها، ويصل سعر الصرف إلى عتبة ستة عشر ألف ليرة للدولار الواحد أو يزيد.
وإذا كان هذا هو المسار الذي سلكته الليرة السورية في رحلة انحدارها، والذي فقدت فيه مئات الأمثال من قيمتها، فالموضوعية تحتم الإشارة إلى أن الرواتب قد شهدت عدة زيادات خلال نفس الفترة، جعلتها تتضاعف لمثلين او ثلاثة أمثال، في أقصى تقدير، ما جعلها ترتفع من حدود الثلاثينات من ألوف الليرات السورية لموظف الدرجة الأولى في مطلع 2011،إلى نحو المئة ألف أو يزيد قليلاً، طبعاً قبل الزيادة الأخيرة، الأمر الذي يعني أن العاملين في الدولة أو المتقاعدين أصبحوا عشية الزيادة الأخيرة بدون رواتب فعلية، وأصبحت قدرتها الشرائية لا تغطي نفقات الطعام في أسرة صغيرة لأكثر من يوم واحد أو يومين، بالتوازي مع حُمّى ارتفاع الأسعار.
وفي هذا المناخ من تنامي الفاقة والجوع والعوز؛ تصاعدت في الآونة الأخيرة الأصوات المطالبة بتصحيح الخلل الحاصل وتوفير أحد العاملين؛ ضبط الأسعار والحد من فلتانها، أو زيادة رواتب كبيرة تعيد للرواتب بعضاً من قيمتها، بمعنى زيادة بدأت مواقع التواصل الاجتماعي وخبراء الشأن الاقتصادي تتحدّث عن زيادة قد تصل إلى حدود العشرة أمثال من الراتب الحالي حتى تكون ذات جدوى.
أما لماذا المطالبة بواحد من هذين العاملين؛ لأن الأول،أي ضبط الأسعار، هو ضروري لوقف التدهور، والشرط الأساسي لتحقيق الجدوى من العامل الثاني والذي في جوهره وألف بائه هو زيادة القدرة الشرائية للعامل الموظف أو للمتقاعد، عبر زيادة كتلة الأجور الفعالة، والتي يمكنها أن تغطي مشتريات وسلعاًأو خدمات أكثر لصاحبها، حيث على سبيل المثال كان راتب الموظف يسمح له بشراء ثلاثة صحون (كل صحن 30 بيضة) من البيض، وهو ماهو حاصل بالفعل عشية الزيادة الأخيرة، فيجب أن تمكنه الزيادة الأخيرة من شراء ستة صحون لو كانت حقيقية، الأمر الذي لم يحصل إطلاقاً.
لم يحصل لعجز الحكومة والحكومات المتتالية عن تأمين الموارد اللازمة لتغطية أي زيادة حقيقية في كتلة الأجور، ولفشل السياسة الاقتصادية والنقدية على الدوام في المحافظة على سعر صرف الليرة ومنع تراجعه.
أما ما الذي حصل، ولماذا كان لزيادة مئة بالمئة أثر عكسي؟ فلأن الحكومة في إجرائها الأخير قد استمرت ما درجت عليه الحكومات السابقة من أخطاء، فمشت هذه المرة مسافة أبعد في تمويل الزيادة عبر زيادة أسعار المحروقات وبعض السلع الإستراتيجية، عبر رفع الدعم عن هذه المواد، وبحجة مضحكة، كان القصد منها توفير الدعم بهذه الطريقة إلى مستحقيه، ثم المساهمة في استقرار سعر الصرف.لكن رفع الدعم عن المحروقات وحوامل الطاقة الأخرى، كالفيول وغيره،أدى سريعاً وبلمح البصر وقبل أسابيع من أن تصبح الزيادة في جيوب مستحقيها، أدى إلى هستيريا أسعار منفلتة من عقالها، إلى حد يمكن التقدير أن أجور النقل المستجدة وحدها كادت أن تلتهم الزيادة، ناهيك عن فوضى وانفلات أسعار كل ما يتصل بالنقل والطاقة ولا شيء بمعزل عن تأثيرات ذلك.
نخلص إلى نتيجة واحدة هي أن الزيادات كانت دائماً وهمية وكانت تتم تغطيتها بنفس الطريقة، وعبر رفع أسعار المواد الإستراتيجية، وأخيراً نغمة رفع الدعم عن بعض المواد الأساسية، والقدرة الشرائية لراتب الموظف كانت تنخفض بنفس الطريقة،إلى الحد الذي تجوفت فيه مؤخراً، بمعنى كانت الرواتب تسرق دوماً بخطوات متدرجة حتى أصبحت في جيوب حفنة من كبار التجار والمستثمرين الجدد.
وإزاء كل ذلك، يمكن القول لقد تشكلت القناعة عند قطاعات متزايدة من الشعب السوري إن الحكومة وسياساتها الاقتصادية ضالعة في مسخ رواتب العاملين والمتقاعدين، وهي تضحك على نفسها حينما تظن أنها تزيد في كتلة الرواتب للعاملين في الدولة والمتقاعدين، طالما أنها تمول كل زياداتها بنفس الأسلوب.
وعلى المقلب الآخر؛ تترسخ القناعة في أوساط عامة أفراد الشعب،بأن الحكومات المتعاقبة متواطئة مع طبقة التجار وأصحاب الأموال ومافيات الفساد في السطو على موارد الدولة والمجتمع، وأن السياسة المتبعة في التجارة الخارجية وفي النظام الضريبي، من شأنها نقل الكتلة الرئيسية من الدخل القومي من جيوب الطبقة الوسطى وطبقة المنتجين الصغار والموظفين، إلى رصيد زعماء مافيات المال والمتفردين بالتجارة والتوريدات وحق التصدير، ممن كانوا في مواقع وظيفية في الدولة، ثم أثروا على حساب مفاصل الدولة التي شغلوها، وتحولوا بنتيجة ذلك إلى تجار ومستثمرين.
ويدرك مواطن الشارع البسيط أن الطريق الحقيقي والممكن لزيادة الرواتب الفعلية لا تكون من خلال زيادة أسعار المحروقات أو غيرها من السلع الأساسية، بل من خلال اعتماد نظام ضريبي وطني وعادل ومتصاعد، تبعاً للدخل الحقيقي، وليس عبر التستر على التهرب الضريبي والتحايل، ومن خلال التصويب الجدي على مكامن الفساد المستشري في جميع مفاصل الدولة، هذا الرأي وهذه المقاربة صارت حديث الشارع اليوم ومولد نقمته التي تتزايد يوم بيوم وساعة بساعة.
وعليه يمكن الجزم أن الرأي العام المتشكل اليوم تحت ضغط الواقع الاقتصادي المتأزم، وعلى خلفية السياسات الاجتماعية والاقتصادية الفاشلة، في ملاقاة أيّ من طموحات الشعب وحقوقه في نيل حصته من موارد البلاد المنهوبة أمام عينيه، لابد أنها ستولد المزيد من التوترات الاجتماعية والاحتجاجات المطلبية المحقة، التي إذا لم تسارع الحكومة والطبقة السياسية الحاكمة إلى ردم الهوة الطبقية التي تشكل علتها ومهماز حركتها؛ فإن البلاد وفي ظل الظروف القائمة، ستكون معرضة إلى أخطار جسيمة تهدد أمنها واستقرارها.