انهيار الدول وازدهار عصر الدويلات ولامركزية أمر الواقع
محمد محمود بشار
قبل نهاية حقبته الرئاسية، ردَّدَ الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب عبارة (الحروب الأبدية) و(الحروب التي لا تنتهي)، في إشارة منه إلى التدخل التركي في الوضع السوري، وخاصة بعد اجتياح الجيش التركي لمنطقتي سري كانيه/ رأس العين وكري سبي/ تل أبيض السوريتين في أكتوبر/ تشرين الأول 2019.
يبدو أنه ليس هناك أي عبارة أو جملة تأتي من الفراغ، وخاصة إن كان ناطقها رئيساً لأقوى دولة في العالم في الوقت الحالي.
حينها أكد ترامب على أنهم ليسوا مجبرين على خوض هذه الحروب، إلا أن الواقع يشير إلى عكس هذا التصريح، فالبيت الأبيض يمتلك خيوط اللعبة في كل الدول التي تلتهمها نيران الحروب وتدير واشنطن الصراعات من دون أن تتدخل فيها بشكل مباشر.
في كل الحروب التي اندلعت بعد أحداث 11 سبتمبر/ أيلول سنة 2001 ووصولاً إلى حروب الربيع العربي ومن ثم توسعها ووصولها إلى مضارب الأوروبيين واتساع رقعتها في القارة الإفريقية، تم إنهاك الدول وإضعاف السلطة المركزية للدولة، وبالتالي، وتماشياً مع ما يجري على أرض المعركة تحمل هذه الدول للاتجاه نحو لامركزية (أمر الواقع).
اندثار العملات المحلية وسيطرة الدولار
بقيت حدود دول الحروب كما كانت، ولكن ضمن هذه الحدود ظهرت مناطق نفوذ متعددة غير خاضعة لنفوذ العاصمة، بل تحولت كل منطقة نفوذ إلى شبه دولة لها عاصمتها الفعلية وحدودها وجيشها وحكومتها.
وعلى الرغم من كثرة وتعدد الدول وبُعدِها الجغرافي عن بعضها البعض، إلا أن هناك قاسم مشترك بين مناطق النفوذ أو الدويلات ضمن الدولة الواحدة،ألا وهو انهيار العملة المحلية والتوجه نحو استخدام الدولار الأمريكي كعملة بديلة يتم استخدامها في كافة عمليات البيع والشراء.
في كل دول (الحروب اللامنتهية)، يطغى الفقر وسوء الأوضاع الاقتصادية على المشهد العام، ففي كلها تقريباً يكون دخل الفرد في أدنى مستوياته مقارنة مع باقي دول العالم. حيث تكون أغلبية الشعب تعيش على حد خط الفقر أو تكون أحياناً تحت خط الفقر.
وبناء على ما تقدّم، فإن الانتقال من العملة المحلية إلى التعامل بالدولار الأمريكي تسبّب في حدوث أزمة أكبر في الحياة اليومية والأمور المتعلقة بالناحية المعيشية لسكان هذه الدول.
لكن وعلى الرغم من كل ذلك؛ يبقى الدولار داخل منزل أي مواطن مهما كان فقيراً، ضماناً لاستمراره في تأمين الاحتياجات الأساسية، حيث أثبتت التجربة المُعاشة بأنه مهما انهارت العملات المحلية، أو حتى إذا تعافت تدريجياً؛ فإن الدولار يبقى محافظاً على قيمته، وبالتالي من يحمل الدولار في مناطق الصراع وكأنه يحمل مستقبله ومستقبل أولاده بين يديه، فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
اختلاف الجغرافية وتشابه الواقع
الحرب الليبية أفرزت دويلتين أساسيتين إلى جانب مناطق خارجة عن سيطرة هاتين الدويلتين لها أهلها وقوتها العسكرية.كذلك الأمر في اليمن، والسودان أيضاً يتجه إلى نفس المصير.
وقبلها أفرزت الحرب السورية مناطق نفوذ متعددة، فلم تعد دمشق تملك كلمة الحسم، بل باتت تَئِّنُ أكثر من غيرها من قسوة الصراع الذي دخل عقده الثاني، من دون أن يكون هناك أي معطيات للحل، بل على العكس تماماً؛ فكل المؤشرات والوقائع تشير إلى أن عمر هذه الحرب سيكون أطول من عمر ملايين من المواطنين السوريين، وستستمر لعقود أخرى من الزمن.
الوضع في أوكرانيا ليس بأفضل من الوضع في دول الربيع العربي، وذلك على الرغم من كل الدعم التي تقدمه دول الغرب لكييف، إلا أن الواقع الأوكراني يشير إلى حرب طويلة الأمد داخل الأراضي الأوكرانية التي باتت تضم مناطق نفوذ متعددة، ومع مرور الزمن ستتحول كل منطقة من هذه المناطق إلى شبه دولة أو دويلة شبه مستقلة عن العاصمة كييف.
وكذلك الأمر في العراق ولبنان، ويبدو أن هناك دول أخرى ستتهاوى كأحجار الدومينو واحدة تلو الأخرى، وبالتالي كل هذه الدول التي كانت– أو مازالت– تتصف بالمركزية الشديدة ستتحول بحكم أمر الواقع إلى دول لا مركزية تضم أقاليم وحكومات متعددة.
وكلما تمسَّكَ حكّام العاصمة المركزية بعقلية ما قبل 11 سبتمبر، فإن الفجوة ستزداد بين المناطق والأقاليم ضمن الدولة الواحدة، وستنهار العملة المحلية ليحلّ محلَّها الدولار.
نعم إنه زمن الدولار الأمريكي!