من سوريا إلى القارة السمراء.. التمدد الروسي بضوء أخضر أمريكي
محمد محمود بشار
تحولت هذه الدولة الصغيرة في الشرق الأوسط إلى أكبر حقل للتجارب العسكرية والاختبارات السياسية على مستوى العالم، حيث فقدت دمشق خصوصيتها كعاصمة وفقدت سوريا سيادتها كدولة.
إلا أنها أضحت محطة لانطلاق كل من أمريكا وروسيا وإيران نحو المزيد من العملقة والسيطرة على أجزاء مختلفة من العالم، وتحت مسميات متعددة وبأشكال مختلفة.
لأول مرة في التاريخ المعاصر وبعد الحرب العالمية الثانية تلتقي القوة العسكرية البرية الروسية مع نظيرتها الأمريكية وجهاً لوجه داخل الأراضي السورية، ويقولها الطرفان بشكل علني بأن لديهم تنسيق مشترك لتحرك كل طرف بشكل مستقل عن الآخر، ولتفادي حدوث أي مواجهة بين أكبر جيشين في العالم على أراضي دولة من أفقر الدول وأكثرها تخلفا ودماراً.
من دمشق إلى نيامي لا حدود لطموح الروس
شكلت طرطوس موطئ القدم الروسية في مياه البحر المتوسط من جديد بعد عقود من الصقيع، عانت فيها موسكو من سوء الأوضاع الاقتصادية والعزلة الدولية.
فبعد نجاح الروس في حماية حليفهم في قصر المهاجرين واسترجاع أغلب الأراضي من فصائل المعارضة والحركات الجهادية والتكفيرية ووضعِها مرة أخرى تحت سيطرة دمشق؛ باتت أغلب المؤسسات الإعلامية في العالم، وحتى جزء من المؤسسات الإعلامية الأمريكية، تقوم بنشر صورة جديدة عن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وتوحي تلك الصورة التي تم نشرها، بقوة لا حدود لها وبأنه حليف موثوق لا يتخلّى عن حلفائه، وذلك كله استناداً إلى التجربة السورية.
وبعد عقد من الحرب السورية، أعلنت روسيا الحرب على أوكرانيا ومازالت تخوضها بكل قوة، إلا أن الروس يواجهون مقاومة عنيفة جداً من قبل الأوكرانيين الذين كانت– ومازالت– مقاومتهم تحت السيطرة الأمريكية ومستمرة بفضل الدعم الأمريكي والدول الأوروبية.
وفي نهاية شهر يوليو/ تموز الماضي وبداية أغسطس/ آب الجاري،وهما أكثر شهرين حرارة في السنة، ارتفع لهيب الخلافات في القارة السمراء فكان للعسكر كلمة الحسم في عدة دول، فاقتحمت الجيوش القصور الرئاسية واستلمت زمام الأمور في البلاد، وكان العنوان الأبرز لكل هذه الانقلابات هو طرد الفرنسيين واستقبال الروس.
باريس التي جمعت أنوارها من بقاع مختلفة من العالم والتي كانت تحت انتدابها في العقود الأولى من القرن المنصرم، وحصلت على لقب عاصمة النور، كان لها حصة الأسد من خيرات هذه البلاد التي أنهكها الفقر وهي تعوم على بحر من اليورانيوم.
ولكن مع هذه الانقلابات الجديدة؛ لاح في الأفق خطر حقيقي يهدد الوجود الفرنسي في أفريقيا، بالتالي حرمانها من اليورانيوم والعديد من الثروات التي كانت تحصل عليها بأثمان بخسة من هذه الدول.
مع تقلص النفوذ الفرنسي، برزت علامات واضحة عن تنامي النفوذ الروسي داخل دول القارة الإفريقية، ولكن هل سيسمح الإليزيه للكرملين بالسيطرة على الطاقة التي كانت تغذّي برج إيفل بكل هذه الأنوار، ونقلها من باريس إلى موسكو وإشعال الأنوار في الساحة الحمراء؟
حرب روسية أخرى ضد أوروبا
العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا أشعلت حرباً دموية مدمرة على حدود دول الاتحاد الأوروبي، والانقلابات العسكرية الأخيرة في عدة دول أفريقية هي أيضاً حرب جديدة ضد المصالح الأوروبية بشكل عام، وضد الوجود العسكري الفرنسي في هذه الدول بشكل خاص.
بحسب المعطيات على أرض الواقع؛ ستتمدد حركة الانقلابات لتصل إلى دول أخرى، مما يعني بأن أمد الحرب بين أوروبا وروسيا سيكون طويلاً جداً، ولن تشبه الحرب في أوكرانيا، حيث تحارب أوروبا بالوكالة ضد روسيا. لأنه في أفريقيا يتم استهداف الوجود العسكري الأوروبي بشكل مباشر من قبل (الانقلابيين)، وهنا ستكون كلمة الحسم لموسكو التي ستحارب هي الأخرى بالوكالة ضد أوروبا داخل حدود دول عديدة في القارة الإفريقية.
ابتسامة بايدن وتوزيع الأدوار
في الحرب الروسية – الأوكرانية تقوم الولايات المتحدة الأمريكية بتقديم الدعم لكييف ولكن ضمن حدود معينة وتحت سقف محدد، فالأسلحة التي تقدمها يتم تحديد مداها بحيث لن تشكل خطراً حقيقياً على الداخل الروسي، ولكن يتم إنهاك القوات الروسية وعرقلة عمليتها العسكرية وإطالة أمد الحرب.
وكذلك الحال في سوريا، أمريكا لم تقدم لحد الآن مشروعاً واضحاً للحل، وعلى أرض الواقع هي تقدم الدعم لقوات سوريا الديمقراطية في الحرب ضد “داعش”، إلا أنها في نفس الوقت تسمح لتركيا بشن هجمات شبه يومية عبر الطائرات المسيرة ضد قوات سوريا الديمقراطية وقيادات الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا.
تكرر واشنطن في خطابها السياسي والإعلامي مقولة عدم شرعية استمرار بشار الأسد في حكم سوريا، ولكنها لا تسمح لأي شخص آخر بالجلوس على كرسي الرئاسة في قصر المهاجرين.
في أفريقيا أيضاً يتم ممارسة نفس السياسة وتطبيق نفس الإستراتيجية مع جميع الأطراف.
واشنطن تقوم بتحديد وتوزيع الأدوار من دون أن يَمَسَّها أي ضرر، يبدو أن تجربة واشنطن أغنى بكثير من تجربة موسكو في التعامل مع الحروب الخارجية، فواشنطن التي خسرت خمسة آلاف عسكري أثناء خوض حرب العراق، هي غير مستعدة الآن لخسارة هكذا عدد من الجنود في حروبها الجديدة.
ولكن إن كانت واشنطن تسعى إلى إنهاك وإضعاف حلفائها الأوروبيين وفتح الطريق أمام تمدد روسيا وهي الدولة الخصم، فهل ستحمي حلفاءها الأقل قوة وأهمية من الأوروبيين الذين يشتركون مع الأمريكان في الدين والمصالح وتجمعهم مئات الاتفاقيات وعدة تحالفات، أبرزها حلف شمال الأطلسي الذي تم تأسيسه في الأساس لحماية الغرب من التمدد الروسي؟
مع هذا الصيف الملتهب بحرارته المرتفعة، يتجه العالم إلى المزيد من العنف والحروب، ولكنها لحد الآن ليست خارجة عن السيطرة الأمريكية.