الناتو.. بين التحديات وأدواره المستقبلية
محمد عيسى
هل يكون اللقاء الذي استضافته العاصمة الليتوانية فيلنيوس قبل أيام قليلة، وضم قادة الحلف الأطلسي بالإضافة إلى قادة دول أخرى على النطاق العالمي، محطة جديدة مهمة في تاريخ الحلف وفي دوره ووظيفته حيال الصراعات القائمة، وتأتي في إطار الاستعداد لمواجهة التحديات المستقبلية التي قد تواجه دول الحلف، هذا ما ستجيب عليه الأيام القادمة، وهو ما تدور حوله التكهنات وتكثر فيه التعليقات وآراء المهتمين.
فالحلف الذي أعلن عن تأسيسه في بروكسل من العام 1949، وكتدبير من الدول الغربية التي تتبع النظام الرأسمالي والفائزة بالحرب العالمية الثانية في مواجهة الاتحاد السوفيتي، وبقصد التصدي لخطوات التمدد الشيوعي في دول أوروبا الشرقية،أو مادُعِيَ لاحقاً بدول حلف “الكوميكون”أو دول حلف وارسو والذي تزامن مع تطورين بارزين؛ الأول خطاب الرئيس الروسي جوزيف ستالين عام 1946والذي حدد فيه سمة العصر بأنها محكومة بالحتمية التاريخية التي ستعني انهيار الرأسمالية لمصلحة النظام الاشتراكي البديل. والتطور الثاني، هو الانقلاب الذي وقع في تشيكوسلوفاكيا عام 1947 لمصلحة قيام نظام شيوعي فيها وبالتضاد مع حكومة منتخبة وفق المعايير الديمقراطية الغربية.
وإذا كانت هذه هي الخلفية السياسية والتاريخية لقيام الحلف؛ فمن الجدير ذكره الآن أن الحلف في دورة اجتماعاته الحالية في ليتوانيا، قد خرج في شكله وفي اهتمامه الجيوسياسي على الشكل والحجم والمهمة الإقليمية التي أنشئ من أجلها، ليصبح عدد أعضائه المجتمعين في فيلينيوس /31/ عضواً بالإضافة لحضور دول أخرى على نطاق الجغرافيا العالمية، نظير دولة أستراليا واليابان وكوريا الشمالية ونيوزيلاندا، بالإضافة إلى الرئاسة الأوكرانية، والتي شكل اقترابها من الناتو موضوع خلاف ومازال محور تحديات كبيرة وتنذر بمخاطر عالية، أو قد تكون مدخلاً لحرب عالمية جديدة.
أما ولطالما قد أصبحنا على عتبة جديدة في واقع ومستقبل هذا الحلف، فمن المفيد الإضاءة على نتائج عمل هذا الحلف خلال الحقبة المنصرمة، والتي أعقبت انخراطه في لعبة تقرير مصير السياسة العالمية وشكل النظام العالمي الذي يجب أن يسوس بالنهاية حياة البشر والمجتمعات، لنخرج بحصيلة هامة من الإنجازات قد تكون فاقت ما خطط له،أو ما كان يتصوره مهندسو هذا الحلف ويقع في رأسها.
وقد نجح الحلف إلى حد ما في تحقيق هدفين أساسيين من أهدافه، وتمثل في:
–نجاح الحلف في قيادة وتنسيق سياسات النظام الرأسمالي العالمي نحو حسم الحرب الباردة لصالحه وتحقيق هزيمة الاتحاد السوفيتي ومنظومته السياسية الدولية وإخراجهما من التاريخ.
–نجاح الفلسفة السياسية التي تتبناها الدول المنضوية في الحلف وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية في تكريس مفهومها كمفهوم أنجع حتى الآن لقيادة العالم والأكثر تقديراً لقضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان، ما يعد نقطة بارزة ولابد أن تدخل في رصيد الحلف باعتباره حلفاً يعنى بالنهاية بنجاح سياسات الدول المستظلة فيه.
لكن بالعودة إلى أعمال الاجتماع الأخير لقادة دول الحلف، ومن وحي البيان الختامي، يمكن التحقق من ملاحظتين؛ الأولى،أن دول الحلف وعلى نفس نهج ستالين الآنف الذكر، متيقنة من صلاحية نموذجها الاقتصادي والسياسي لحكم الشعوب والدول، في خطوة تؤيد فكرة من قال بنهاية التاريخ، وذلك لأنها رفضت أي نقاش في حل المسألة الأوكرانية مع بوتين، واعتباره صوتاً نشاذاً يعكر صفو الاستقرار العالمي ويهدد بحربه على أوكرانيا سلامة واستقرار الدول، واعتمادها أو ترجيحها للغة القوة وتقديم مزيد من الدعم الاقتصادي والعسكري لأوكرانيا، من خلال تزويدها بالقنابل العنقودية وبطائرات “إف – 16” وعبر قبول عضوية السويد، وعبر تشجيع النزعة الانتهازية عند أردوغان، هذه الخاصية التي يبدو أن الأمريكان قد تحققوا منها ويعرفون أوان استخدامها. أردوغان بدأ يلوح بورقة الطلاق مع بوتين بعد أن تكشفت له ضحالة فرصه بالنجاح في مشروعه لتحدي أمريكا والغرب، ما يعني توجيه أكثر من رسالة لخصوم الناتو الحاليين أو المحتملين،بأن لا مساومة مع أطراف التشويش على الرؤية الأمريكية والغربية عموماً .في الملف الأوكراني أو في غيره.
الملاحظة الثانية، انتقال الحلف من حيث الشكل والنطاق إلى أن يكون حلفاً عالمياً على ضوء مشاركة دول من خارج منطقة عمل الحلف كاليابان وكوريا وغيرها.
وثمة ملاحظة يجب التنويه عليها أن نزعة التشدد مع روسيا لم ترق إلى قبول أوكرانيا عضواً مباشراً في الحلف الأمر، سجّلته كاميرات التصوير عند أخذ الصور التذكارية، حيث ظهر الرئيس الأوكراني وحيداً رغم دعواته الملحة التعجيل في قبول بلاده في عضوية الحلف.هذا التلكؤ الذي برّرته آراء المطلعين بأن دول الحلف لا تريد قبول عضوية أوكرانيا طالما كانت واقعة في حالة حرب، لأن ذلك لو حصل سيرتب على دول الحلف الانخراط المباشر في الحرب ضد روسيا، وذلك وفقاً لميثاق الحلف ولمعاهدة واشنطن التي تنظم ذلك.
لكن بالتوازي مع ذلك؛ أكد الأمين العام للحلف يانس ستولتنبرغ على خطة تطوير عمل الحلف وعلى خطة عاجلة لقبول أوكرانيا ضمن صفوف الحلف، وعلى تقديم دعم متزايد لأوكرانيا، وأن لاحياد في الموقف من سياسات الحلف، وكما لا لتلبية أي من شروط بوتين المتعلقة بتوسيع الحلف، وبأن دول الحلف جاهزة للمواجهة المباشرة مع روسيا عند لزوم ذلك.
من كل ما تقدم، ومن خلال التمعن ببرامج دول منظومة الناتو، وعبر سعيه إلى تكريس نموذجهم كنموذج أوحد، ومن خلال التأمل في خطط وادعاءات مناهضيه في روسيا بوتين وفي إيران وحتى في أدوار الصين؛ نخلص إلى جملة من الانطباعات، يقع في أولها أن دائرة الدول الواقعة ضمن تحالف الناتو هم الأكثر وزناً في الاقتصاد العالمي والأكثر نفوذاً في السياسة العالمية وفي دورة الإنتاج العالمي، إذ تنهض بما يعادل سبعين بالمائة من الإنتاج العالمي، وأكثر من ذلك بكثير في أوراق البحث العلمي، وتقع جميعها باستثناء دولتين ضمن قائمة الدول العشرين، كما يسير الى ذلك الوزن نتائج التصويت على مشاريع القرارات في المحافل والمنظمات الدولية.
وتالياً؛ وعبر الوقائع القائمة على الأرض، فما زالت دول الناتو هي الأكثر ضلوعاً في مواجهة تحدي الإرهاب، وبخاصة الإرهاب الإسلاموي، خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار معاني التحالف والتنسيق الجاري بين روسيا وكل من إيران وتركيا أردوغان، ما يعني أن سمة العصر الحالية، ولطالما بقيت الحروب تجري بالوكالة ولم ترق إلى مرحلة المجابهة، فسيكون من الموضوعية بمكان القول إن سمة اللحظة الراهنة هي انشغال البشرية المتمدينة بمواجهة الإرهاب والاستبداد وكبت الحريات، ولنا في المواجهة مع “داعش” ومن لف لفها خير مثال وخير دليل على دور الناتو في التصدي لجائحة التطرف والإرهاب.
والى ذلك، وبالانطلاق من معدل المؤهلات الأخلاقية والحضارية لكلا الفريقين، الناتو ومناهضيه، تحضر المقاربة الحذقة جداً للمفكر عبدالله أوجلان، عندما ركز على ضرورة إنشاء مجتمع الأخلاق السياسي الذي عماده الحياة الديمقراطية الحرة وحرية ودور المرأة، قال في دولة العصرانية الرأسمالية شيئاً مهماً لم يلتفت إليه أياً من ماركس أو لينين أو أي فيلسوف آخر، قال ورغم مناهضته لمفهوم الدولة والطبقة أسوة بنظرة ماركس باعتبارهم عناصر غير أخلاقية في النهاية،بأن مجتمع الأخلاق السياسي يمكن أن يتعايش مع مفهوم الطبقة والدولة في دولة الحداثة الرأسمالية كقطب آخر موازٍ وازنٍ وقوي، في إشارة إلى وزن المجتمع المدني المتطور في كنف دولة الحداثة الرأسمالية، ولما هو دور في نجاح المجتمع المدني في حجب فرصة الولاية الثانية لترامب، نظراً لفشل برامجه في الرعاية الاجتماعية خلال جائحة كورونا، خير دليل على مقاربة أوجلان وعلى فارق الفرص أمام محور الناتو الجديد.