هل كشف تمرد “فاغنر” عن هشاشة روسيا من الداخل؟
محمد عيسى
بعد أن شغل غورباتشوف موقع بطل القصة في مهمة تفكيك الاتحاد السوفيتي، في أواخر ثمانينات القرن الماضي، وذلك في إطار ما سمي يومها بـ”البيروسترويكا”أو “إعادة البناء”،والغلاسنوست”أو “الشفافية أو العلنية”، والذي زعم من موقعه كأمين عام للحزب الشيوعي السوفييتي أنه يشرع بإجراء مراجعة عميقة لأسس بناء الدولة السوفيتية، وبالتالي للأسس الفكرية التي تقوم عليها الفلسفة الماركسية والتعاليم اللينينية، الأمر الذي لم يتم كما ظن غورباتشوف، بل تحول بعد أن رفع الغطاء عن بواطن الدولة الشمولية، الدولة شديدة المركزية،أو ما كانتتدعى بـ”دولة ديكتاتورية البروليتاريا”، تحول إلى ديناميكية تاريخية جديدة ومن نوع آخر، ديناميكية تراكم الصدوع والانهيار وانكشافحجم الأكاذيب والتضليل الذي مارسته النخب الحزبية والانتهازية الحاكمة، والذي كان من تفاعلاته– وللأسف الشديد – ارتطام البناء الهش بالأرض عبر انقلاب 1991، ومن ثم خروج الاتحاد السوفيتي من التاريخ وبروز مجموعة من الدول المستقلة كخلف له، ثم مغادرة غورباتشوف لقصر الكرملين، وليحل بديلاً عنه في حكم روسيا يلتسين الذي لم يكن ليختلف كثيراً في شكله ومضمونه عن قائد “فاغنر”، بطل اللحظة الحالية؛”يفغيني بريغوجين”.
ثم يأتي تالياً إلى موقع القرار نائبه وذائع الصيت “فلاديمير بوتين” الذي ارتبط اسمه في بعدين أساسيين: الأول؛ أنه رجل الاستخبارات ومنحدر من مؤسسات الـ”ك.ج. ب/ KGB”، والثاني أنه نجح بالفعل، وخلال عمل دؤوب استغرق منه سنوات عديدة،أن يَحُدَّ من الجريمةوالفلتان الأمني ويضبط عمل المافيات أو ينظمها في صيغة جديدة تحت سقف الدولة الاتحادية الواحدة.
وفي رصد تطور الوقائع التاريخية، يكون من الإنصاف الإشارة إلى أن الرجل قد نجح، وإلى حد كبير في البداية، في ترميم صورة الدولة التي تداعت بعد حقبة يلتسين، ثم لاحقاً رسم صورة طموحة جديدة لدى الشعب الروسي ولدى المجتمع الدولي حول روسيا الدولة العظمى، ذات القدرات النووية صاحبة الموارد الضخمة والمتميزة في حقل الصناعة الحربية.وبعد أن حقق جملة من النجاحات المتتالية في قضايا وطنية وعالمية شائكة، كان من أبرزها إجراء ضم سهل لشبه جزيرة القرم، وتحقيق انتشار جديد لبلاده والوصول إلى المياه الدافئة، بدا ناجحاً في البداية من خلال نجاحه في سوريا، بكسر شوكة التمرد الإسلاموي والذي اعتمد أسلوب الإرهاب والعسكرة في صراعه لانتزاع السلطة.هذا النجاح الذي استُثمِرَ بشكل جائر بحق الشعب السوري، وعمل على حصد الكثير من المكاسب والامتيازات، وضمن تحقيق استثمارات طويلة الأجل من بينها سيطرة على بعض المرافق، ثم تميز لاحقاً بفشل السياسة الروسية في تبني سياسة متوازنة ومقنعة حيال سياسة العدوان والتدخل التركي والإسرائيلي في الوضع السوري، وكذلك الفشل في إنجاح أي عملية سياسية تُخرج الوضع السوري من أزمته، ولاريب أن الفشل الأكبر، كما يُجمع عليه الشعب السوري، قد تجلى بالعجز عن تقديم أي مساعدة اقتصادية أو خدمية يتيقن السوريون أنها متاحة، وتتلكأإدارة بوتين في إسدائها.
وبالبعد عن المسرح السوري وتعقيدات المراهنات والمصالح، وفي التركيز على أولوية المصالح التركية في لعبة التحالفات؛ يمكن القول إن مصطلح “البوتينية” في السياسة الدولية وفي بؤر التوتر القائمة، مصطلح قد نشأ أخيراً، وقد أخذ في السنوات القليلة الماضية حيّزاً كبيراً من اهتمام وسائل الإعلام العالمية، خاصة بعدما أشيع في 2016 عن نجاح الاستخبارات الروسية في إحباط الانقلاب المزعوم ضد أردوغان في تركيا، وبعدما أشيع عن تدخل روسي في الانتخابات الأمريكية وفي غير مكان بالعالم، وبعد تكرّس سياسة التدخل في ليبيا والسودان، وانطلاق حُمّى الحديث عن أن نجاحاً روسياً في تقويض النظام الاقتصادي العالمي قد بات على مرمى حجر، وأن استبداله بنظام جديد متعدد الأقطاب أصبح بشبه المؤكد.
وإلى ذلك يمكن الجزم أنه وبنظر كثيرين ممن تشكل وعيهم ضمن مناخات الحرب الباردة ما بعد الحرب العالمية الثانية،أن روسيا البوتينية قد قطعت مسافة كبيرة في الطريق نحو حلم الشعوب في عالم أكثر عدلاً وأقل “أمركةً”.
لكن ومع انطلاق الحرب الأوكرانية في مطلع 2022، ومع استمرارها وتراجع الأمل بحسمها، وانعدام الفرص لإيجاد تسوية مشرفة تضع حداً لها أو توقف نزيف الدماء والطاقات الحاصلة عن دوران دوّامتها؛ فقد ظهرت على السطح ظاهرة الشركات الأمنية، وعلى وجه الخصوص ظاهرة “فاغنر”، باعتبارها قوات نخبة ومؤهلة تأهيلاً عالياً ويُناط بها تنفيذ مهام صعبة داخل روسيا، وكذلك في إطار النشاطات الأمنية والعسكرية الروسية خارج الأراضي الروسية وعلى نطاق العالم، ثم ليتضح حجم الدور المحوري الذي يقع على عاتقها ضمن مهام الحرب مع أوكرانيا، وحجم الدور الذي يضطلع به قائدها “يفغيني بريغوجين” وعن نشأته ومكانته كزعيم مافيوي وعن دوره الموازي وحظوته الكبيرة لدى بوتين.
وعلى نحو متصل بدور هذه المنظمة الأمنية، وقبل الخوض في تفاصيل التمرد الأخير والذي أصبح محور اهتمام العالم الآن، يمكن تسجيل ملاحظة هامة تتصل بجذور الصدع الذي تفجر ما بين “بريغوجين”، وما بين القيادة العسكرية الروسية ممثلة بوزير الدفاع ورئيس الأركان، ملاحظة فحواها؛أن انفجار الصراع لم يكن مفاجئاً، بل أن إرهاصات عديدة كانت توحي بحتمية وقوعه. وطيلة بضعة أشهر الأخيرة؛ كان الخلاف يظهر إلى العلن، وقد دأب “بريغوجين” في اتهام وزير الدفاع وقيادة الأركان بالتلكؤ عن مهمة تزويد قواته بالذخائر اللازمة، ثم تطور الاتهام إلى التآمر عليه وعلى قواته، وأخيراً في بيانه الذي أعلن فيه انطلاق حملته نحو موسكو قال لقد تعرَّضَت قواته للهجوم بالصواريخ من قبل وزارة الدفاع، وأن الهجوم أسفر عن وقوع أكثر من ألفي قتيل بين صفوفه، ما يدل– بصرف النظر عن صحة ادعاءاته–أن خللاً كبيراًأو وضعاً غير مقنع كان يتحكم بسير العلاقة وينذر بحصول الأسوأ، خاصة إذا توقفنا عند تكرار اتهاماته لفريق وزارة الدفاع بإخفاء أعداد القتلى في الحرب وبالتستر على حقيقة سير المعارك.
ومع تطور الصراع ولزوم قيادة بوتين الصمت حياله، وعدم اتخاذ موقف واضح لمعالجة القضايا والملابسات التي تضمنتها تغريدات “بريغوجين” المتكررة، يضع المتابع أمام استنتاج وحيد؛ هو أن بوتين نفسه كان عاجزاً، وقد يكون ما زال عاجزاً حتى الآن، عن اتخاذ إجراء حاسم لحل حالة التناقض والارتباك التي طرحتها تحديات الحرب، وفي هذا بوتين يكرر حالة العجز التي تصيب جميع قادة الأنظمة الشمولية والاستبدادية التي تسوّس نظاماً سياسياً،أقطابه يمثلون تحالفاً بين مافيات عديدة. فالحاكم الذي يأخذ قرارات واضحة وحاسمة في مكانها وتوقيتها الصحيح؛ هم القادة في دولة المؤسسات الدستورية والقانون، وليسوا في دولة القائد الفذ الاستثنائي الذي يعرف ما لا يعرفه شعبه.
ومما يؤكد حالة الخلل آنفة الذكر، وبأن قيادة بوتين، قد وقعت ومنذ انطلاقة هذه الحرب، ضحية التقديرات الخاطئة وغير الدقيقة لمرؤوسين انتهازيين، هم في العالي امتهنوا الكذب في كل شيء، لأن حاسة الشم عندهم قد علمتهم أن القائد لا يحب غير قصائد المديح والإطراء وأذنه لا تستلطف غير الإصغاء لقصص التمجيد والدواعي التي تجعل منه وحده في دور البطل.
لكن وبعد أن استفحل الأمر؛ فقد بق قائد “فاغنر” بحصته، ووضع الدولة الروسية وقيادة بوتين نفسهاأمام حالة اهتزاز كبير، عبر إعلانه بأنه وقواته تحركت نحو موسكو لتصحيح حالة العجز في القيادة، ولتغيير واعتقال وزير الدفاع ورئيس الأركان، وبأنهم في طريقهم سيدمرون أي عائق يعترض طريقهم.وعليه ناشدوا السكان لزوم منازلهم وإخلاء الطرقات، ولوحدات الجيش الانضمام إلى جهودهم في إجراء هذا الاستحقاق المطلوب.وفي الطريق إلى موسكو؛ تقول الوقائع أن قوات “فاغنر”قد قطعت أكثر من ألف ومائتي كيلو متر دون أن يعترضها أحد، بل قد تكون وحدات عديدة قدعبَّرت عن ترحيبها بالخطوة. وأجمعت الأخبار المتناقلة أن قوات “فاغنر” قد وصلت إلى مشارف موسكو، وأنها قد سيطرت على مجمّعات ومواقع عسكرية، وأن الإعلان عن حالة طوارئ وانتشار للمدرعات صار يشاهد في شوارع العاصمة.وضمن مناخ البلبلة؛ تقول التطورات أن اتفاقاً ما بوساطة الرئيس البيلاروسي قد جرى اعتماده، بموجبه توقف “فاغنر” تحركاتها وتعود إلى مواقعها، على أن يغادر “بريغوجين” إلى بيلاروسيا.
وإذا كان كل ما تقدم يندرج في إطار محاولة لإلقاء الضوء على مسار التطورات؛ فإن اليقين في صحة ما ينقل والتحقق من صدق الرسم السابق لصيرورة إنهاء تمرد جماعة “فاغنر”، يبقى موضوعاً خاضعاً لتقديرات عديدة، وستكثر فيه الآراء ومحاولات التفسير، لكن بالمجمل يمكن تسجيل جملة من الملاحظات والاعتبارات،وعلى الدارس للوضع الروسي أن يضعها في حسابه، وهي:
1–ما من شك بأن ظاهرة “فاغنر” والتطورات المتعلقة بتمردها على خلفية تعقيدات الحرب مع أوكرانيا، قد ألقت الضوء على وهم القوة لدى الآلة العسكرية الروسية، وعلى هشاشة الاستعدادات للاستمرار في هذه الحرب، عندما يضطر جيش واحدة من أقوى دول العالم إلى الاستعانة الجدية بشركة أمنية من هذا الطراز للسيطرة على مدينة أو بلدة أعيته في تحقيق ذلك.
2 –شدت ظاهرة التمرد الانتباه إلى أنها قد يكون لها لواحق وقد تكون فتحت شهية الكثيرين من المتذمرين من الحرب ضمن المؤسسة العسكرية،وإلى تكرار محاولة التمرد على نحو أكثر إعداداً وأكثر تحضيراً.
3–ستترك ظاهرة الانقلاب أثراً جدياً على موازين القوى في معادلة الحرب لصالح الأوكرانيين، لما قد تكون خلفته من تأثيرات على معنويات الجنود الروس، الذين أثبتت الوقائع أنها لا تتمتع أصلاً بكبير قناعة في ضرورة قيامها،أو قد كان من الأفضل لروسيا عدم التورط في وحولها.
4 –أضعفت صورة الدولة الروسية وكرَّست الشكوك حول إمكانية صمودها كدولة موحدة؛ نظراً لما كشفته عن وزن واستمرار المافيات بالضغط لفرض نموذجها وشروطها حتى على سقف الدولة الروسية، مما يضعف موقف القائلين أو المراهنين بإمكانية روسيا لعب دور عميق وفاعل في السياسة العالمية على نحو قريب من دور ما كان يُحسب لها في زمن الاتحاد السوفيتي.
5–أكدت التطورات إبان الظاهرة البوتينية؛ أنها ظاهرة سطحية فقط وليست تاريخية على الإطلاق، ولا تمتلك رؤية سياسية شاملة من نمط القيم والأفكار التي تؤهلها لأن تلعب دوراً في إعادة صياغة العالم، بمعنى لا تقف هذه الظاهرة أو تعتمد أي فلسفة سياسية من النوع الذي تحتاجه الحركات والثورات الحاملة لطموحات تاريخية.