العيش على حافة الموت.. خماسي الأزمات في الشرق الأوسط
محمد محمود بشار
لا صوت يعلو على صوت الأزمات في هذه البلدان الخمس، فإن انتهت معركة نشبت حرب، وإذا وضعت الحرب أوزارها؛ نهش الفقر والفساد في جسد البلاد والعباد.
إذا اشتعل لهيب الحرب في أي بلد من بين بلاد خماسي الأزمات، من الصعب أن تنتهي وتصل الأطراف المتصارعة إلى اتفاق حقيقي للسلام.
هذه البلدان هي الحاضنة الرئيسية لأغلب التنظيمات المتطرفة دينياً وقومياً، وهي بنفس الوقت المصدّر الأساس لأكبر كتلة بشرية من المهاجرين واللاجئين إلى دول الغرب، وعلى الرغم من هذا وذاك؛ يعيش عشرات الملايين من المواطنين في هذه الأوطان التي حلت عليها لعنة الحرب.
في كل التقارير الدولية تتنافس هذه الدول على من هو أسوء من الآخر ومن هو أكثر تخلفاً وأكثر دماراً من الآخر، ولكن قد يحالف الحظ أحدهم فيأتي في المرتبة الخامسة، وهي: سوريا، لبنان، العراق، فلسطين، والأردن.
دمشق عاصمة الياسمين والبراميل المتفجرة
دخلت الحرب السورية عقدها الثاني، تغيرت بعض الأمور والتوجهات، كعودة الرئيس السوري بشار الأسد إلى الجامعة العربية وحضوره القمة العربية الأخيرة التي تم عقدها في المملكة العربية السعودية.
كما تبنت أنقرة خطاباً سياسياً مختلفا عن السياسة التي انتهجتها في العقد الأول من الحرب السورية، فركّز الخطاب التركي الجديد على التطبيع مع العاصمة السورية، ولكن لم يتغير الوضع بالنسبة للمواطن السوري، فازدادت حدة الأزمة وانتقلت الحرب إلى داخل كل منزل، فمن نجا من البراميل المتفجرة والقصف بمدافع (جهنم)؛ أنهكته لقمة العيش التي بات الحصول عليها عبئاً ثقيلاً قد يودي بصاحبها إلى الهلاك. ومن عاش في عاصمة الياسمين يدرك تماماً ما معنى أن تكون البراميل المتفجرة هي اللغة الرسمية للحكومة، وبنفس الوقت تكون مدافع جهنم هي اللغة التي تتقنها أغلب فصائل المعارضة السورية، وخاصة المدعومة من قبل بعض دول الجوار والدول العربية، فتصبح كل الطرق تؤدي إلى الدمار.
بغداد عاصمة الفساد والديمقراطية المقنّعة
بمجرد التمعن في تشكيلة الحكومة العراقية الحالية، والحصول على هذه المعلومة البسيطة، بأن الكتلة البرلمانية التي ينتمي إليها فخامة رئيس الوزراء محمد شياع السوداني تتألف من ثلاثة نواب فقط، يظهر مدى البؤس والشقاء الذي يعاني منه المشهد السياسي في بلاد الرافدين.
تغير الوضع السياسي بشكل جذري في العراق مع إسقاط نظام صدام حسين قبل عقدين من الزمن، إلا أن لعنة الحرب لم تفارق هذه البلاد وجائحة الفقر والفساد لم تفارق الشارع العراقي من زاخو إلى الفاو.
انتهى حكم الأقلية السنية وبدأ حكم الأغلبية الشيعية، وكان للكرد إقليمهم الخاص، ولكن مازال العراقي يفر من بلاده عبر الجبال والوديان ليصل إلى البحار والمحيطات. وكم من عراقي مات غرقاً وهو يعوم ليهرب من لعنات بلاده المتتالية، متجهاً إلى بر الحياة في القارة العجوز، ومازال العراق متصدراً قائمة الفساد على الرغم من امتلاكه لثروات طبيعية هائلة.
حتى الديمقراطية في العراق ليست حقيقية، فهي (توافقية) كما تم الاتفاق بين الأطراف السياسية المختلفة، فهل من الممكن أن يحكم البلاد رئيس وزراء يدعمه ثلاثة نواب فقط، بينما هناك كتل برلمانية لديها العشرات من النواب ولم تصل إلى قمة الهرم في السلطة.
بيروت عاصمة الاغتيالات وأغاني الصباح الحزينة
هذه المدينة التي مدت العالم بالرحابنة وأيقونة الغناء العربي فيروز، وأضحت ملاذاً لأعظم شعراء الحب من مختلف الدول العربية، واحتضنت مطابعها، من دون قيود، أفكار المبدعين العرب من مختلف التيارات الفكرية، سقطت في مصيدة الساسة الذين كانت منصات خطاباتهم في بيروت واجتماعاتهم المصيرية في عواصم أخرى.
مشكلة بيروت بأنها لم تكن مركزاً للقرار، بل كانت – ومازالت – مركزاً لتنفيذ القرارات التي تأتي من عواصم مختلفة متصارعة فيما بينها.
لبنان هي الدولة الوحيدة في العالم التي يزيد عدد أهاليها المهاجرين عن عدد مواطنيها المقيمين في داخل البلد بأكثر من الضعفين. وبحسب الإحصائية الرسمية للأمم المتحدة لعام 2023؛ فإن عدد سكان لبنان أي المقيمين داخل البلد يقدر بنحو 6,736,593 نسمة.
وفي دراسة نشرها الدكتور أسعد الأتات أستاذ الديموغرافيا في الجامعة اللبنانية تحت عنوان (الهجرة الخارجية والانتشار اللبناني في العالم)، فإن عدد اللبنانيين المهاجرين والمقيمين خارج بلادهم يتراوح بين ثمانية ملايين وستمائة ألف إلى 16 مليون شخص.
تقول القاعدة السياسية المتعارف عليها، طالما ليس هناك استقرار في دمشق؛ فلن يكون هناك استقرار في بيروت، وحتى إن استقرَّ الوضع في دمشق ستبقى بيروت كما كانت، فهي من أضعف الحلقات في سلسلة خماسي الأزمات.
فلسطين بلد العواصم المتعددة
أجيال عديدة نمت وترعرعت لعقود من الزمن مع القضية الفلسطينية، هذه القضية التي تشظّت مع الانشقاقات التي عصفت بالحركة السياسية والعسكرية الفلسطينية، والتي أصبحت منبراً للتنافس الشعاراتي بالنسبة لأغلبية قادة الدول العربية.
رام الله هي عاصمة الضفة الغربية بزعامة (فتح)، وغزة هي عاصمة القطاع تحت راية (حماس)، وكل الفصائل تطالب بالقدس عاصمة لفلسطين، والقدس بعيدة كل البعد عن مركز القرار الفلسطيني.
حل الدولتين لم يجدِ نفعاً، وباقي الحلول أصيبت بالشلل التام على مذبح المزاودات القومية بين تيارات وأطراف عربية مختلفة، فبات الفلسطيني مشرداً في عدة دول مجاورة منها لبنان وسوريا والأردن، وفي هذه الدول دائماً ما كان يتم استغلال السلاح الفلسطيني لخدمة أجندات بعيدة كل البعد عن حل هذه القضية التي باتت تسمى في القمم العربية بـ”قضية العرب المركزية”.
عمّان عاصمة الصراع على عرش الملك
لدى الأردن علاقة دبلوماسية مميزة مع العالم الغربي، فدائماً يكون الملك الأردني هو أول الزعماء العرب الذي يتواجد في البيت الأبيض لمصافحة الرئيس الأمريكي الجديد، إلا أن هذه العلاقات المميزة مع الغرب لم تشفع لحكام عمّان في الوسط العربي والإسلامي، وحتى في أوساط العائلة الحاكمة دائماً هناك مؤامرات وأنباء عن استعداد لانقلاب ضد الملك.
ودائماً ما يتعرض الأردن لدعاية إعلامية مضادة من قبل دول هي في الأساس ضعيفة وفاشلة، إلا أن هذه الدعاية المضادة قد أتت ثمارها لأصحابها، فدائماً هناك توجه ضد ملك الأردن من قبل أغلب الحركات والتنظيمات الإسلامية المتطرفة سواء الأردنية منها أو الدخيلة إلى هذه البلاد.
خماسي الأزمات وطريق الحل
أثبتت الوقائع التي تمت معايشتها على أرض الواقع؛ بأن أزمات هذه البلدان الخمس مرتبطة ببعضها البعض، على الرغم من وجود حدود واضحة تفصل كل دولة عن الأخرى.
فمهما تطورت ونمت المؤسسات العسكرية والأمنية في أي بلد من هذه البلدان الخمس، واستقرت فيها الأوضاع لفترة من الزمن، فإنها لن تستطيع المحافظة على استقرارها؛ لأن كل طرف من خماسي الأزمات يحاول تغذية الأزمة في الأطراف الأربعة المتبقية.
فكل زعيم في هذه الدول يرى بأن استمراره على كرسي الحكم في بلاده مرهون باستمرار واستفحال الأزمة في البلدان الأخرى. وهكذا؛ فدوّامة الحرب لا تتوقف، وإن توقفت لفترة محددة من الزمن، عادت بعدها لتنفجر بقوة غير مسبوقة.
الجبهة الداخلية في هذه الدول الخمس هشَّةٌ جداً لدرجة أنها تنفجر مع أول هزة تتلقاها من الخارج أو الداخل، القواسم المشتركة للحكم فيها هي طمس الحقائق وإنكار حقوق الأطراف والمكونات القومية والدينية والمذهبية التي تكون بعيدة عن كرسي الحكم وقصر الزعامة.
دائماً ما تكون الحلول خارجية بالنسبة لأزمات وصراعات هذه الدول، التي باتت تشكل منبع الحركات والتنظيمات المتطرفة، والحلول الخارجية لا تكون شاملة وجذرية، بل هي دائماً نسبية ومؤقّتة، وهذا ما يشكل خطراً على الأمن والسلم الدوليين.
فإن بقي الوضع في هذه الدول كما هو الحال اليوم؛ ستكون هناك دائماً ظروف مواتية لظهور تنظيمات دموية وعنيفة على شاكلة “داعش” و”النصرة” وغيرهما، وبالتالي تحتاج هذه الدول إلى المصارحة في طرح قضاياها ومشاكلها مع بعضها البعض، ويحتاج زعماء هذه الدول إلى عقد لقاءات خماسية، وذلك بعد عملية تصالح وطني بين النظام الحاكم في كل بلد مع جميع الأطراف السياسية والمكونات القومية والدينية المختلفة.