ما قبل محاكمة عناصر “داعش” وارتداداتها السياسية
جميل رشيد
أثار قرار الإدارة الذّاتيّة بمحاكمة عناصر تنظيم “داعش” الإرهابيّ في محاكمها الخاصَّةِ، حَفيظةَ عدد من الدّول والأطراف، وموجة من ردود الفعل المتباينة، فمنها ما أيَّدت القرار ورأت فيه أنَّه تأخر كثيراً، وآخرون حاولوا الطَّعن بشرعيّة المحاكمات، لجهة عدم وجود اعتراف دوليّ بالإدارة، وأنَّه لا يَحُقُّ لها عقد هكذا محاكمات، وترى أنَّ كُلّ ما يصدر عنها لا يتعدّى فعله المؤثِّر حدودَ المناطق التي تُديرها، معتقدين أنَّها غير قادرة على إدارة هكذا ملفٍّ تعجز دول كبرى بعينها عن البتِّ به ووضعه في إطاره القانوني، فيما ذهب البعض إلى أبعد من ذلك، إذ اعتبروا أنَّ ارتدادات المحاكمة ستنعكس سلباً على الإدارة، بعدم قدرتها على خلق ظروف مناسبة لما بعد المحاكمات، كإنشاء السُّجون الخاصَّة وحمايتها ووجود عناصر مؤهَّلة لإدارتها، إضافة إلى ضعف في الإمكانيات اللّوجستيّة لدى الإدارة الذّاتيّة.
غير أنَّ السؤال الجوهريّ يدور حول ماهيّة القوانين التي بموجبها سيحاكم هؤلاء الإرهابيّون، فهل ستعتمد محاكم الإدارة الذّاتيّة على القانون السُّوريّ، أم القانون الدّوليّ، وهل تمتلك تلك الكفاءات والكوادر القانونية والحقوقية المؤهلة لتدير محاكمات أقلُّ ما يمكن القول عنها إنَّها “محاكمات العصر”، وهل ستأخذ صفة دوليّة على اعتبار أنَّ قسماً كبيراً ممَّن سيَمثُلون أمامه هم من جنسيّات متعدّدة؟
هذه وغيرها من الأسئلة، يتوجَّب على الهيئة القضائيّة المشرفة على هذه المحاكم أن تجيب عليها وتوضِّح كافَّة الملابسات المتعلّقة بماهية المحكمة وطبيعتها. ورغم أنَّه لم يحدَّد بعد موعدها ولا كيفيَّتها، فقط اكتفى البيان الصادر عن الإدارة أنَّ أولى جلسات المحكمة ستعقد في مدينة كوباني، وهذه لها رمزيّتها المحلّيّة والعالميّة، نظراً للمقاومة التي خاضتها ضُدَّ التَّنظيمالإرهابيّ. لكنَّ الاعتقاد السّائد بين أوساط الإدارة الذّاتيّة وهيئتها القضائيّة أنَّ التَّحضيرات للمحكمة تسير في الاتّجاه الصحيح، وأنَّ مرحلة ما قبل البدء بالمحاكمات رُبَّما تَشهد تَغيُّراً في مواقف العديد من الدّول، لتعمد إلى تقديم الدَّعم لها، بما يجعل عملها يسير بشكل قانونيٍّ وسَلِسٍ.
إنَّ فتح ملفِّ محاكمة أعتى الإرهابيّين في العالم، هو بطبيعة الحال عبء كبير على إدارة فتيّة محاصرة وتواجه تحدّيات كبيرة، وزاد عليه قرارها في بدء المحاكمات. وتتخوَّف دول عديدة من فتح هذا الملفّ، لتورُّطها في تشكيل التَّنظيم ودعمه والتّعامل معه على جميع المستويات، وهذه هي النقطة الأكثر إثارة واعتراضاً من قبل الدّول والأطراف المنغمسة في بناء علاقات وطيدة مع التَّنظيم طيلة سنين سيطرته على المناطق التي أسَّس فيها دولته المزعومة. وزاد القلق لديهابعدما أعلنت الإدارة الذّاتيّة أنَّ المحاكمات ستكون علنيَّةً ومكشوفةً للرَّأي العام، أي ستتمُ متابعتها من قبل وسائل الإعلام المختلفة وستنقل تفاصيلها، على غرار محاكمة صدّام حسين وأركان نظامه، وربما تغدو أطراف عديدة في قفص الاتَّهام، وتؤكِّد أنَّها كانت – ولاتزال – تدعم التَّنظيم، وذلك من خلال الاعترافات والوثائق.
لا شَكَّ أنَّ التَّقارير الاستخبارات العالميّة وكذلك الإعلاميّة التي نشرت منذ تأسيس تنظيم “داعش”، مروراً بتمدُّده وسيطرته على مناطق واسعة في العراق وسوريّا، وكذلك استيلائه على منابع النَّفط والغاز، سلَّطت الضوء على الأطراف والدّول التي تعاملت معه، وكشفت خفايا العلاقة بينها. فوزارة الدِّفاع الرّوسيّة أعلنت خلال مؤتمر صحفي أواخر عام 2015، أنَّ الأقمار الصّناعية الرّوسيّة رصدت أرتالاً من صهاريج النَّفط تدخل من معبر تل أبيض، والتي كانت تحت سيطرة “داعش”، إلى تركيّا، وأوضحت كيف يُنقَل النَّفط السُّوريّ والعراقيّ المسروق إلى تركيّا، لِيُباع بأثمان بخسة إلى حاشيّة الرَّئيس التُّركيّ أردوغان، ومنهم نجله وصهره، وأكَّدَت الدِّفاع الرّوسيّة أنَّتركيّا تقايض نفط “داعش” بالأسلحة. فيما نشرت وكالة الاستخبارات الألمانيّة عن وجود معسكرات تدريب لـ”داعش” في محافظة “أديمان” التُّركيّة. هذه وغيرها من المعلومات ستظهر في سياق المعلومات، وبالأدلّة الدامغة، وبما لا يدع مجالاً للشَكِّ بأنَّ تركيّا رعت التَّنظيم الإرهابيّ من بدايته وإلى الآن، لهدف واحد؛ محاربة الكُرد والإدارة الذّاتيّة، وهذه الحقيقة يعلمها القاصي والدّاني.
فتركيّا لا ترغب أن يُفتَحَ هذا الملفّ بأيِّ شكلٍ من الأشكال، وهي تخشى أن تتطوَّر قضيّة المحاكمات وتأخذ صفة دوليّة. واستدراكاً للمستجدّات التي ستظهرها المحكمة؛ بدأت بتصعيد عسكريٍّ غير مسبوق ضُدَّ مناطق شمال وشرق سوريّا، وخاصَّةً عبر الطيران المُسيَّر، في مسعى لخلط الأوراق وعرقلة سَيْرِ المحاكمات، أو حتّى عدم عقدها، لطالما كانت الطرف المتَّهم بالتَّعاون مع التَّنظيمالإرهابيّ في قضايا عديدة، أقلّها الإيواء والتَّدريب والتَّسليح وجعل أراضيها منطقة عبور لآلاف الإرهابيّين القادمين من جميع أصقاع العالم.
إنَّ التخوف التُّركيّ من عقد جلسات المحاكمة، مردُّه كشف الخيوط الدَّقيقة بين التَّنظيم والدّولة التُّركيّة، واحتضانها وإيوائها بقايا فلول التَّنظيم في المناطق المُحتلّة من قبلها، والسّيناريو المُبتذَلوالمكشوف في هروب عدد ممَّن تدَّعي أنَّهم عناصر “داعش” من إحدى سجون مرتزقتها في مدينة سري كانيه/ رأس العين، ما هو إلا لعبة ممجوجة من قبل الاستخبارات التُّركيّة تكرَّرت أكثر من مَرَّة وتبيَّن لاحقاً زيفها وفبركتها، فهي تسعى بشتّى الوسائل لعرقلة عقد المحاكمات، وإدخالها عدداً من هؤلاء الإرهابيّين إلى مناطق الإدارة الذّاتيّة، لتنفيذ عمليّات إرهابيّة لنسف كُلّ محاولات عقد المحاكمات، يؤكِّدُ محاولاتها الحثيثة لِمَدِّ حبل النَّجاة للتَّنظيم الإرهابيّ، لطالما أنَّ مصيرهما واحد لجهة الضلوع في أعمال إرهابيّة ضُدَّ شعوب ودول المنطقة والعالم.
إنَّ المحاكمات سترفع الغطاء عن العديد من القضايا والأسرار التي كانت لا تزال طَيَّ الكتمان منذ بداية تأسيس التَّنظيمالإرهابيّ وحتّى الآن، ولعلَّ أبرزها من كان يقف وراء تأسيسه، ولاحقاً تمكّنه من التمدُّد في الجغرافيّة السُّوريّة والعراقيّة، ومَدِّ يد العون له. فلا يُعقل أن يَصِلَ تنظيم إرهابيّ منفلت من عقاله ولا تَحُدُّ أعماله أيّة ضوابط وروادع قانونيّة وأخلاقيّة يكبر بذاك الشَّكل السَّرطانيّ خلال ليلة وضحاها، ويصل إلى تلك القوَّة التي تمكّنه من تهديد السِّلم والأمن العالميّ، وهذا ما يُفسِّرُ صَمتَ أطراف ودول عديدة من قضيّة المحاكمات، وعدم تأييدها لها وتقديم الدَّعم لها.
غير أنَّ مؤتمر الدّول المشاركة في التَّحالفالدّوليّ لمحاربة الإرهاب الذي عقد في الرِّياض قبل أيّام قليلة، قرَّر أن يدعم قوّاتسوريّاالدّيمقراطيّة بمبلغ /150/ مليون دولار أمريكيّ، ورجَّحت عِدَّةُ مصادر مقرَّبَة من المؤتمر أنَّ هذا الدَّعم سيذهب إلى محاكمات عناصر “داعش” في مناطق سيطرة الإدارة الذّاتيّة، وإن لم يعلن المؤتمر عن ذلك علناً. وهذا بحَدِّ ذاته يؤكِّد وقوف ودعم دول التَّحالف وعلى رأسها الولايات المتّحدة لعقد محاكمات لتلك العناصر الإرهابيّة، ورُبَّما تفاصيل أخرى تتعلَّق بمصير هؤلاء ما بعد المحاكمات ستظهر لاحقاً، وقد تلجأ الولايات المتّحدة إلى حَشدِ دَعمٍ دوليّ لها، عبر زيادة التَّمويل وتقديم خبراء قانونيّين لهم خبرة طويلة في مجال العمل بالقوانين الدّوليّة، وهذا بِحَدِّ ذاته سيخلق للمحكمة شروط النَّجاح والاستمراريّة وتضفي عليها مزيداً من الشَّرعيّة، رغم محاولات العديد من الدّول والأطراف نسف تلك الجهود، وعلى رأسها تركيّا.
ليس خافياً على أحد أنَّ الإدارة الذّاتيّة لجأت إلى اتّخاذ قرار منفرد بعقد المحكمة، بعد أن يَئِست من مطالباتها المتكرّرة من الدّول التي لديها رعايا إرهابيّة محتجزون في سجون الإدارة الذّاتيّة، من استردادهم ومحاكمتهم وفق قوانينها المرعيّة في بلادها، وكذلك اللامبالاة من مناشدتها المجتمع الدّوليّ بضرورة تشكيل محكمة خاصَّة لمحاكمة هؤلاء الإرهابيّين، وأعلنت مراراً أنَّها غير قادرة على الاستمرار في هذا الوضع، وأنَّ وجود هؤلاء الإرهابيّين على أراضيها؛ إنَّما يُشكّل قنبلة موقوتة لا يدري أحد أين ومتى تنفجر، على غرار ما حصل أثناء الهجوم على سجن الصِّناعة بحي غويران بمدينة الحسكة، محذِّرةً أنَّ وجودَهم يُهدِّدُ العالم أجمع.
كان بالإمكان تشكيل محكمة دوليّة خاصَّةٍ بهم على غرار محاكم نورنبرغ التي حاكمت النازيّين بعد الحرب العالميّة الثّانية على جرائمهم التي ارتكبوها، أو المحكمة التي شكَّلت في قضيّة اغتيال رئيس الوزراء اللُّبنانيّ رفيق الحريري. وإن كانت بعض الدّول تتذرَّع بأنَّ تشكيل هكذا محكمة يَفترِض صدور قرار من مجلس الأمن الدّوليّ؛ فإنَّ جميع الدّول، وخاصَّةً الأعضاء الدّائمين فيه، قد لُدِغَت بالتَّنظيمالإرهابيّ، وليس هناك ما يجعلها تمتنع عن الموافقة على تشكيل المحكمة، على العكس من ذلك؛ فإنَّ المنطق الأخلاقيّ والسِّياسيّ يُحتِّمُ عليها أن تبادر هي ذاتيّاً إلى تشكيلها، وفي الحالة الرّاهنة يُفترض أن تُقدِمْ على دعم محاكمتهم من قبل الإدارة الذّاتيّة وتقديم كُلّ أشكال المساندة السِّياسيّة والقانونيّة لها.
إنَّ القنبلة التي فجَّرتها الإدارة الذّاتيّة بقرارها محاكمة إرهابيّي “داعش” رُبَّما قد تأخذ أعواماً، وهي قضيّة شائكة لن تُفكَّكَ خيوطها وطلاسمها بتلك السهولة المتوقَّعة، وهي بالتَّأكيد ستزيد من متاعب وأعباء الإدارة، ولكنَّها – على ما يبدو – تملك ذاك الإصرار بمواصلة عملها في هذا الإطار، وستكون قادرة على وضع نهاية مناسبة وقانونيّة لهذا الملفِّ الذي طالما كان يستنزفها ويؤرّقَها، ورُبَّما تظهر في سياق المحاكمات مفاجآت كبيرة، ويمكن ألا تَسُرَّ عدداً من الأطراف ولم تكن في الحُسبان.