الأزمة الاقتصادية السورية واستطالتها السياسية
محمد عيسى
يواجه السوريون المقيمون في مناطق نفوذ سلطات دمشق اليوموضعاً مأساوياً وغير مسبوق في قسوته وفي مستويات تعقيده، حيث تسود أوضاع اقتصادية وظروف معيشية تكاد تجعل من شروط الحياة الطبيعية أمراً فائق الصعوبة، في ظل انخفاض يومي لسعر صرف الليرة السورية قياساً بسعر الذهب أو بالمقارنة مع سعر العملات العالمية الصعبة، مترافق مع ارتفاع دائم، وفي كل ساعة أحياناً، بسعر السلع الأساسية والخدمات، وبشكل لا ينسجم على الإطلاق مع الأجورومستويات الدخل المتدنية،إلى حدود لامثيل لها في أي مكان بالعالم.
وحيث لم يعد خافياًأن أعلى راتب في الدولة لا يرقى إلى عتبة العشرين دولاراً أمريكياً في الشهر، والأغلبية الساحقة من العاملين يتلقون ما معدَّله أقلُّ من نصف دولار أمريكي باليوم، في وقت تستدعي فيه متطلبات المعيشة في حدودها الدنيا لأسرة مؤلفة من أربعة أشخاص عشرة أضعاف هذا المبلغ.ولا يدخل ضمن ذلك التقدير أياً من لوازم الإنفاق على اللباس أو الرعاية الطبية والصحة، ناهيك عن نفقات التعليم، حيث لا تقوم المؤسسات التعليمية بواجباتها التربوية والتعليمية، كما يضطر الأهالي للتوجه إلى التعليم الخاص، حيث تنعدم الثقة في ظل الفوضى والفساد القائم ضمن المؤسسات التعليمية، حيث لا تؤدي المدرسة دورها المنوط بها، وبدوره المدرس الذي لا يكفيه راتبه يجدنفسه مضطرا للاعتماد على العائد الحاصل من إعطاء الدروس الخصوصية في المنزل.
هذا؛ ناهيك عن الانقطاع شبه الدائم للكهرباء، والذي لا تتعدى فترات توفرها عن ساعتين باليوم، بالإضافة إلى شح المياه، وأزمة وسائل النقل المترتبة أيضاً عن نقص توفر المحروقات، ما ينعكس سلباً على عمل الورش وشروط العملية الإنتاجية في حقول الصناعةوالإنتاج السلعي.والأمر نفسه أو يزيد في حقل الإنتاج الزراعي، حيث ينوء الفلاح تحت حمل الأعباء المتعلقة بإتمام عملية الإنتاج الزراعي،في ظل ارتفاع أسعار الأدوية الزراعية والأسمدة، مما يضطر معه الفلاح إلى عدم القيام بحراثة أرضه في أوقات عديدة، ويضاف إلى ذلك أن الفلاح في الساحل السوري يكابد همّاًإضافياً ومن نوع خاص يُضاف إلى همومه، حيث يعتمد في حياته الاقتصادية على زراعة وإنتاج مادة الحمضيات،فنجده يعاني من تنصل الدولة من مسؤولياتها، وتترك مُنتَجَ الحمضيات فريسة لتجار السوق، الذين بدورهم يشكون من فرض الإتاوات عليهم، الأمر الذي يؤثر على عملهم ويجعلهم يفشلون في تسويقها إلى باقي المحافظات، ما يجعل الفلاح يعمد إلى إتلاف محصوله لعدم الجدوى من جنيه.
أما في الحقل التجاري، وحيث يردد المواطن السوري جملة واحدة “التجار بيدهم كل شيء..وهم من ينفردون بوضع سياسة التسعير على هواهم وبما يضمن اعتصار ما تبقى من موارد الدولة”،إضافة إلى سيطرة بعض مافياتهم على التجارة الخارجية وتوريد بعض السلع الإستراتيجية التي تمس حياة المواطن، كمواد السكر والشاي وزيت القلي وما شابه.وتذهب تقارير إلى أن بعض المورّدين يكسبون ما مقداره ترليون ليرة في أقل من عام واحد، جراء حصر التوريد لمادة بعينها أو أكثر في تاجر واحد.
وبكلمة واحدة؛ لا يجادل أحد بأن السياسة الاقتصادية هي من رَسْمِ كبار التجار والمورّدين، ولا تراعى فيها غير مصالحهم، وتكاد الرقابة الحكومية ورقابة التموين تكون غائبة تماماً عن نشاطاتهم، وإنما تنحصر بملاحقة صغار التجار، وليس في إطار البحث عن مصالح المستهلكين الفقراء، بل في إطار الحملات المسعورة لجباية الضرائب.وللتذكيرفي هذا الإطار؛ فقد شهدت أسواق اللاذقية إغلاقاً شبه تام؛ تهرُّباً من حملة لوزارة المالية في دمشق، في بحثها عن مجالات تحصيل ضريبي طال حتى صاحب بسطة صغيرة.
وإذا كان كل ما تقدم يشير فقط إلى حجم وشكل المعضلة الاقتصادية والاجتماعية التي يعاني منها الاقتصاد السوري والشعب السوري، والمتأتّية عن عوامل الفوضى والفساد في أداء المؤسسات المعنية بوضع وتنفيذ السياسة الاقتصادية في الدولة وفي حياة المجتمع؛ فإن الموضوعية تستدعي القول إن الاقتصاد السوري والحكومة السورية تعانيان، بالإضافة إلى مظاهر سوء الإدارة والفوضى وغياب المحاسبة، فإنها إحدى مفرزات الحرب ونقص الموارد المالية ونضوب الخزينة من العملات الصعبة ومن الإنفاق على الحرب والمؤسسة العسكرية، كما تعاني من استمرار فرض العقوبات الدولية، ومن هيمنة حلفاء الدولة السورية الايرانيين والروس على المتوفر الباقي من مرافق الاقتصاد ومكامن الفوسفات والمصادر الأخرى، في إطار سعيهم إلى تحصيل ديونهم ومستحقاتهم التي ترتبت على سوريا الدولة بفعل الحرب.
وبالعودة الى رسم خريطة الوضع الاقتصادي السوري، فيمكن تلخيصها ممكنات محدودةجداً، في ظل استنزاف كبير يقوم به فريق المتطفلين وأدوات النهب في الداخل، وفريق الحلفاء في الخارج وهم المتأزمون بدورهم، فتجدهم متهافتين لتعويض إنفاقهم في الحرب المندلعة والتي لم يتوقف أوّارها حتى الآن،فيما تجد أن هناك مواطن خاب أمله في مغادرة البلاد، ولم يبقَ أمامه غير مواجهة سؤال زوجته وأطفاله “أَكَلنا اليوم.. فماذا أو كيف سنأكل غداً…؟!!”.
ضمن هذا الجو من استفحال الفاقة والحاجة والمرض والحرمان، وتنامي الحقد والكراهية والاستياءمن دور من يسمون أنفسهم “أصدقاء الدولة السورية” ومسانديها في أعمال المواجهة والممانعة لمايسمى مخططات أعداء الشعب السوري من الإسرائيليينوالأمريكان وحلفائهم، تتجه أنظار السوريين، وبكثير من التفهّم والأمل، إلى المبادرات العربية، وبخاصة المبادرة السعودية، والتي أسفرت في محصلتها الأولية عن عودة سوريا إلى مقعدها في جامعة الدول العربية ضمن رزمة من التفاهمات، وثق لها القرار /8194/ والذي يضع ما يمكن تسميته بخارطة طريق متدرجة لحل الأزمة السورية، وفق مبدأ “خطوة مقابل خطوة”، وضمن ثابتة تنفيذ القرار الدولي /2254/وبأيادي السوريين وبنتيجة توافقاتهم على وثيقة دستورية جديدة وقاعدة جديدة بحكم البلاد، تأخذ بمصالح جميع المكونات وتقطع مع أسباب الأزمة، وضمن العمل على توفير عودة آمنة للاجئين، للانتقال إلى مهام إعادة إعمار ما دمَّرته الحرب من بنى تحتية ومبانٍ ومنشآت.
وعليه؛ فإن الدلائل والملاحظات الأولية تشير إلى توفر ترحيب شعبي ورضى رسمي حكومي للتفاعل الجدّي مع مندرجات المبادرة العربية السعودية، والذي ظهر جلياً عبر العمل المتسارع لعودة العلاقات الدبلوماسية ما بين المملكة ودمشق.
وتدخل ضمن إطار مناخ الفرص لنجاح الأشقاء العرب اليوم أيضاً المبادرة الوطنية لقوى الفعل الداخلي، ممثلة بمبادرة (مسد)، للمساهمة في تحمل ما يقع على عاتقها تجاه السوريين ونحو الدولة السورية المنشودة.
وإزاء كل ذلك؛ بات من الواضح أن المبادرات جميعها ليست أعمالاً خيرية بحتة أو مطلق خطط مزاجية تقوم بها الدول لعامل رغبوي أو دعائي،أو محاولة لكسب الوقت أو عواطف الرأي العام كما هو اليوم في التوجهات الإيرانية والروسية أو عبر محاولات السياسة التركية العمل عليه، وعبر “تشمير” عن الأيدي للانخراط في ورشة إعادة إعمار سوريا، وعلى مبدأ الاستهتار بذاكرة الشعب السوري والرهان على تناسي دورهم في أزمته ومأساته، فالتجارب على الأرض لا توحي بأي درجة من المصداقية في ادعاءاتهم العمل من أجل البناء، فهم لا يجيدون بنظر غالبية النخب السورية غير الحرب وتفقيس الميلشيات وإنتاج الفساد والمخدرات، وكلهم في ذلك سواء.
والتجارب على الأرض وفي ذاكرة السوريين لم تحتفظ بأي من صور المساعدة أو المؤازرة، والمسألة في النهاية ليست عند أحد بعينه، بل هي في عُهدة الشرعية الدولية وضمن منطوق القرار الدولي /2254/ والحل الاقتصادي وحل أزمة معيشة الشعب السوري هي عند الحل السياسي، وهو الأب الشرعي لهذا الحل، ولا أبوّة شرعية فيما عداه.
وما نلاحظه هذه الأيام من ضغوط وقرارات تقوم الإدارة الأمريكية ودول الغرب حول وضع قيود لناحية السرعة في إتمام التطبيع في الملف السوري،بأنها ما هي إلا دليل على أن الأمر في النهاية لابد مقيّد ومحكوم بلوازم الحل السياسي المتوازن والتاريخي، والذي يكون الانتصار فيه لقوى الخير والعدل والديمقراطية.