تركيا وامتحان ما بعد الانتخابات
جميل رشيد
تفاءلت العديد من الأوساط السِّياسيّة وبعض المراقبين، بأن يلجأ أردوغان بعد فوزه العسير في الانتخابات الرِّئاسيّة إلى تغيير نهجه وسياساته الدّاخليّة والخارجيّة، وينحو لاعتماد سياسات مرنة ومعتدلة، وينزل من على الشَّجرة، ويبتعد عن نهج التطرّف والصلف في قراراته، وبالتالي يَجنح إلى إعادة قراءة سياساته وقراراته السّابقة، التي اتَّسمَت خارجيّاً بالتدخُّل في شؤون دول الجوار، ودون وجهِ حَقٍّ، بذريعة “حماية الأمن القوميّ التُّركيّ” المزعوم.
إلى أن الوقائع على الأرض تدحض تلك الرؤى والتَّخمينات، حيث ذهب أردوغان بعيداً في سلوك نهج العدوان، ويمكن القول إنَّ كابينته الوزاريّة، ليست هي حكومة “صقور”، بل حكومة جمعت بين دُفَّتيها كُلَّ أنواع وأشكال التطرُّف القوميّ والدّينيّ، ليبدأ من خلالها دورةً جديدةً، وغير مسبوقةً، من العنف الذي لا مُبرِّرَ له سوى تلبية رغبات أردوغان وتحالفه المتطرّف في العنجهيّة والتسلُّط، ذاك التَّحالف الذي بات هجيناً بعد أن تمكَّن من استمالة واستقطاب عُتاة القوميّين الأتراك، إلى جانب السّلفيّين والجهاديّين الذي لا يؤمنون إلا بعقيدة واحدة ألا وهي “الجهاد”.
فالتَّصعيد التُّركيّ الأخير ضُدَّ مناطق الشَّهباء، بريف حلب الشِّماليّ، وكذلك في منبج ومختلف مناطق شمال وشرق سوريّا، وخاصَّةً بالطيران المٌسيَّر، وعدم تفريقه بين المدنيّين والعسكريّين، إنَّما يَكشف عن مخطّط مسبق أعَدَّ له أردوغان، كما أشار إليه بيان القيادة العامَّة لقوّاتسوريّا الدّيمقراطيّة. ويبدو أنَّ أردوغان الذي يَمُرُّ من عنق الزُّجاجة، يحاول مَرَّةً أخرى أن يُصدِّرَ أزماته إلى مناطق شمال وشرق سوريّا، وعن طريق الحرب والعدوان أيضاً. فلم يعد يملك وسيلة أخرى غيرها، بعد أن دخل في شِبهِ عُزلَةٍ دوليّة وإقليميّة، وإن كانت غير مُعلنة رسميّاً، حيث لم يطرأ أيُّ تغيير على سلوكه العدوانيّ تجاه سوريّا.
لكنَّ الثّابت في الموجة الأخيرة من التَّصعيد، وكما قبلها من عمليّات العدوان، لم يكن أردوغان ليتجرّأ أن يَشُنَّ هجماته الغادرة، لولا نَيله موافقة من دول فاعلة في الأزمة السُّوريّة، وخاصَّةً روسيّا، التي هلَّلت لفوزه في الانتخابات. فرغم أنَّ الطيران المُسيَّر التُّركيّ استهدفَ نقطةً عسكريّةً روسيّةً في بلدة تل رفعت، شمال حلب، وقتل فيها عنصر من القوّات الرّوسيّة وجرح آخرون، إلا أنَّروسيّا التزمت الصَّمت ولم تُحرّك ساكناً، ويبدو أنَّتركيّا تسعى لاختبار نيّة وصبر روسيّا في سوريّا أمام هجماتها العدوانيّة، والصَّمت الرّوسيّ يوحي بموافقتها على الهجمات، وإلا لتحرَّكت، على الأقلِّ على المستوى الإعلاميّ، لتدافع عن قوّاتها المتواجدة هناك، وليس عن مُهجَّري عفرين القسريّين والقوّاتالعسكريّة الأخرى المنتشرة في تلك المنطقة، وخاصَّةًقوّات الحكومة السُّوريّة، كجزء من التزاماتها الأخلاقيّة كحليف موثوق من قبل دمشق، لا أن تُديرَ ظهرها لكُلّ ضحايا الجيش السُّوريّ، لتضع اهتمامها في موضوع آخر،وتعلن عن موعد الاجتماع الرُّباعيّ على مستوى نوّاب وزراء خارجيّة كُلٍّ من “روسيّا، تركيّا، إيران، وسوريّا” حول المصالحة التُّركيّة–السُّوريّة، ولتدَّعي بأنَّ مُخطَّط التَّطبيع بين الدَّولتين جاهز للتنفيذ.
لقد وصلت اللا مبالاة الرّوسيّة تجاه الأزمات والمآسي التي يَمُرُّ بها السُّوريّين إلى حَدٍّ باتت معها تفرض نفسها عبر منطق القوّة، وليس قوَّة المنطق، ولينظر إليها السُّوريّين بأنَّها جزء من أزمة وطنهم، وليست عامل استقرار وتهدئة، مثلما تحاول أن تروَّجَ لنفسها، فكُلُّ من يؤيّد سياسات دولة الاحتلال التُّركيّ لا يمكن أن يكون مُنصِفاً ويقف إلى جانب مصالح الشَّعب السُّوريّ ويحمي وحدة ترابه، لطالما تركيّا تنتهك سيادته وتحتلُّ أجزاءً كبيرةً منه، وبالتّالي تغدو هي الأخرى شريكة معها في مخطَّطاتها الهادفة إلى احتلال مناطق أخرى منها، وتساعدها في تنفيذ مشاريعها الاحتلاليّة القديمة – الجديدة، والمتمثّلة بالميثاق الملّي، وتغيير ديمغرافيّة المناطق التي تحتلُّها وتُهجِّرَ سُكّانها الأصليّين، وخاصَّةً في مناطق روج آفا الكُرديّة.
قوّات الحكومة السُّوريّة هي الأخرى وقفت عاجزة عن الرَدّ على الاعتداءات التُّركيّة، رغم أنَّ نقاطاً عسكريّة لها في تل رفعت ومنبج تَمَّ استهدافها، وأسفرت عن سقوط ضحايا من جنودها. ولم تتطرَّق لها حتّى على المستوى الإعلاميّ. ففي حين ندَّدت بالعدوان الإسرائيليّ على محيط مدينة دمشق، وفي ذات اليوم الذي وقع فيه العدوان التُّركيّ على نقاط لها في ريف حلب، إلا أنَّها تجنَّبت التَّنديد بالعدوان التُّركيّ، فهل هي ضغوط روسيّة تُمارَس عليها كيلا تَنسُفَ الاجتماع الرُّباعيّ المُزمع عقده في موسكو خلال الأيّام القليلة القادمة، أم أنَّها تتحاشى الاصطدام مع دولة الاحتلال التُّركيّ؟ بكُلّ الأحوال لا تفسير لصمت دمشق حتّى الآن، وهي مدعوّةٌ لتوضيح مواقفها، لطالما أنَّها تُمثِّلُ الشَّرعيّة السُّوريّة في المحافل الدّوليّة، وهي المُكلَّفة بحماية السِّيادة السُّوريّة ضُدَّ كُلّ أشكال العدوان، ومهما كان مصدره.
فيما التَّحالف الدّوليّوالولايات المتّحدة، بدت مشغولةً في حماية قوّاتها المتواجدة في سوريّا، بعد أن نشرت صواريخ دفاع جوّيّ من نوع “هيمارس/ HIMARS ” وكذلك نشرت الطائرات الإستراتيجية من طراز “إف – 22 رابتور” في الشَّرق الأوسط، ردَّاً على ما أسمتهبـ”السّلوك الجوّيّالرّوسيّ غير الآمن في المنطقة، وعدم التزام الطيران الرّوسيّ بالبروتوكولات المتَّفق عليها بين الدَّولتين”، حسب بيان القيادة الأمريكيّة الوسطى “سانتكوم” في الشَّرق الأوسط، فيما أكَّدَ رئيس هيئة الأركان الأمريكيّ الجنرال “مارك ميلي” أنَّ”بلاده ستدعم عسكريّاً ولوجستيّاً قوّاتسوريّا الدّيمقراطيّة لضمان هزيمة “داعش” الكاملة في سوريّا، وأنَّ بلاده لن تسمح لأيِّ هجوم تركيّ على المنطقة يستهدف جهودهم المشتركة مع حلفائهم قسد”. ولكن هذا التَّصريح حَمّال أوجه. صحيحٌ أنَّتركيّا لن تجرؤعلى شَنِّ عدوان واسع ومفتوح على مناطق شمال وشرق سوريّا، لكنَّها في ذات الوقت اتّبعت أسلوب حرب الاستنزاف عبر استخدام الطيران المُسيَّر والقصف المدفعيّ، لاستهداف قيادات (قسد) والإدارة الذّاتيّة، ولم تتعهَّد الولايات المتّحدة في حماية مسرح عمليّاتها المشتركة مع حليفتها (قسد) من اعتداءات الطيران التُّركيّ، وتركت الأمور على غاربها، ويبدو أنَّها لا تريد إزعاج حليفتها في النّاتو أكثر من ذلك، بل تَمنحها فرصة في النَّيل من حليفتها في القتال ضُدَّ الإرهاب على الأراضي السُّوريّة.
كُلُّ المؤشِّرات تؤكِّد أنَّ أردوغان وقبل انعقاد الاجتماع الرُّباعيّ في موسكو، يسعى إلى تعزيز شروط تفاوضه مع الحكومة السُّوريّة وفرض وقائِعَ الميدان على طاولة المفاوضات، والضغط على دمشق كي تتراجع عن شرطها الأوَّليّ للتَّطبيع معها، المُتمثِّل بالانسحاب التُّركيّ غير المشروط من الأراضي السُّوريّة التي تحتلُّها، رغم أنَّها – أي تركيّا– بادرت في الخطوة الأولى لزرع الثِّقة بينها وبين دمشق وإبداء حُسنِ للنوايا، عبر تسليم ثُلَّةٍ من الضبّاط المنشقّين عن الجيش السُّوريّ والمحسوبين على جماعة الإخوان المسلمين، في مسلسلٍ يؤكِّدُ بداية تركيّا بتقديم رأس المعارضة المرتبطة بها على طبق من ذهب إلى دمشق.
ولكن يبدو أنَّ الشَّرط التُّركيّ مقابل التَّضحية بالمعارضة التي طالما رَعَتها لنفسها، دونه عقبات وموانع عديدة. فهي لم تتمكَّن من إقناع الحكومة السُّوريّة بفتح مواجهة عسكريّة مفتوحة مع قوّاتسوريّا الدّيمقراطيّة والقضاء على الإدارة الذّاتيّة، ويبدو أنَّ شرطها ذهب أدراج الرّياح مع الانفتاح العربيّ على دمشق، وطرح الإدارة الذّاتيّة ومجلس سوريّا الديمقراطية لمبادرة حَلِّ الأزمة السُّوريّة، بعد أن اعتبرت أنَّ النّاظم في توجُّهات ورؤى القوى الوطنيّة السُّوريّة هو التمسُّك بوحدة التّراب السُّوريّ، ولفظ كُلِّ أشكال الاحتلال والإرهاب، مُشدِّدةً على الاحتكام للغة الحوار للوصول إلى حَلٍّ وطنيٍّ ومستدامٍ للأزمة السُّوريّة، وهذا ما أزعج تركيّا وأثار حفيظتها، فهي تحاول دَقَّ الأسافين بين دمشق والإدارة الذّاتيّة وتعرقل أيَّ توجُّهٍ للأولى للوصول إلى حلول تفتح الطريق أمام حَلٍّ شامل للأزمة السُّوريّة. فهي تسعى لتسخين الأجواء وتدفع دمشق لتتحاور مع القامشلي بلغة الحديد والنّار وليس الحوار الهادئ والوطنيّ المسؤول، والتَّصعيد الأخير يأتي ضمن هذا السياق الذي ترغب أنقرة لإقحام دمشق في مستنقع لا هي ولا الإدارة الذّاتيّة ولا قوّاتسوريّا الدّيمقراطيّة تَرغَبُ به.
كُلُّ الاعتقاد أنَّ التَّصعيد التُّركيّ محكوم عليه بالفشل، ولن يغدوَ أكثر من زوبَعةٍ في فنجان، حيث أنَّ قوّات تحرير عفرين، وكذلك قوّات سوريّا الدّيمقراطيّة، أكَّدَت على قدرتها على الرَدِّ ضمن حَقِّ الدِّفاع المشروع عن النَّفس، ولم تعد تركيّا اللّاعب القويّ والذي يملك مساحة كافية للمناورة لتنفيذ أجنداتها في الجغرافيا السُّوريّة، ولكنَّها تحاول أن تجد لها موضعاً جديداً في معادلة الحَلِّ السُّوريّ، بعد أن فقدت كُلَّ رصيدها العبثيّ، مع دخول الدّول العربيّة على خَطِّ حَلِّ الأزمة السُّوريّة، وبموافقة ضمنيّة من الولايات المتّحدة.