الحكومة التركية الجديدة.. تحديات الداخل والخارج
جميل رشيد
أعلن الرَّئيس التُّركيّ رجب طيب أردوغان إثر فوزه في الانتخابات الأخيرة بولاية رئاسيّة جديدة، عن كابينته الحكوميّة الجديدة، والتي تتألَّف من /17/ وزيراً مع نائب الرَّئيس. واحتفظ فيها بوزيرين فقط، هما وزير الصحّة والثّقافة والسِّياحة.
وقد اتَّجه أردوغان، وتحت ضغط الأزمة الاقتصاديّة وتخبُّط سياسته الخارجيّة بفعل تدخّلاته المُتعدِّدة في دول الجوار، إضافة إلى ملفِّ القضيّة الكُرديّة الضاغط باستمرار، إلى اعتماد صيغة تكنوقراطيّة للحكومة، في مسعى لإنقاذ نفسه وبلاده من عُنُقِ الزجاجة.
ورغم أنَّه استبعد جميع وزرائه السّابقين تقريباً، إلا أنَّه اعتمد على الولاء الشَّخصيّ له في تعيين الوزراء، حيث استبعد أهمَّ ثلاث شخصيّات رئيسيّة في نظامه، وهم مولود جاويش أوغلو، خلوصي أكّار، وسليمان صويلو، وطعَّمَ حكومته بوجوه جديدة تُدينُ بالولاء المطلق له ولسياساته، وهو ما يبحث عن أردوغان بالدَّرجة الأولى، وقبل حَلّ أزمات البلاد.
رَوَّجَت بعض الجهات المحسوبة على أردوغان ونظامه لوجود ثلاث وزراء “كُرد” في التَّشكيلة الحكوميّة، إلى جانب نائب الرَّئيس. والمسألة تحمل إشكاليّة تاريخيّة وسياسيّة عميقة، ولها دلالاتها على الصعيدين التُّركيّ والكُرديّ، إضافة على الصعيد الحزبيّ.
فثَمَّةَ مفارقة كُبرى في اختيار أردوغان لثلاث وزراء في حكومته من “الكُرد”، فنظرة بسيطة وسريعة على تاريخ تلك الشَّخصيّات وأدوارها على الصعيد الكُرديّ، تفيد بأنَّهم لم يلعبوا أيَّ دور في سبيل قضيّتهم وشعبهم الكُرديّ، بل انسلخوا عنه، ومنذ نعومة أظفارهم، ويعتبرون أنفسهم أتراكاً، بل الأنكى من ذلك، أنَّهم يحاربون شعبهم، وبكُلّ الوسائل الممكنة.
فرئيس الاستخبارات السّابق “حقان فيدان” والذي عيَّنه أردوغان وزيراً للخارجيّة، هو كُرديّ، إلا أنَّه أكثر من حارب الكُرد وحاكَ المؤامرات ضُدَّهم طيلة ترؤّسه جهاز الاستخبارات، بل يعتبره أردوغان “صندوقه الأسود”، حفظ أسراره وأنقذ نظامه من محاولة الانقلاب عليه في يوليو/ تمّوز 2016، كما ساهم في تشبيك ملفّات عديدة، ساعدت أردوغان في مَدِّ نفوذه في كُلٍّ من سوريّا وليبيا وأذربيجان والعراق. وقد سلَّمه أردوغان ملفَّالخارجيّة، ليُكمل “فيدان” ما بدأ به في جهاز الاستخبارات، حيث أنَّالخارجيّة تعمل على تنفيذ الخطط الموضوعة من قبل الاستخبارات، باعتبار أنَّه هو من صنعها وعلى اطّلاع كامِلٍ على جميع تفاصيلها، خاصَّةً أنَّ ملفّات المصالحات مع دول الخليج وسوريّا ومصر، هو من أَعَدَّ لها، ويُدرك جيّداً نقاط ضعفها وقوَّتها، وهو ما أردوغان بحاجة ماسَّةٍ له في ظِلِّ تدهور علاقاته مع محيطه. فعمل الخارجيّة استخباراتيّ، ولكن بوجهٍ دبلوماسيّ وسياسيّ مرن نوعاً ما.
فيما الوزيران الآخران لا يَشُذّان عن تلك القاعدة، فوزير الماليّة والخزانة “مُحمَّد شيمشك”، وبحكم عمله في المؤسَّسات الماليّة العالميّة، وخبرته في إدارة الملفّات الماليّة، اختاره أردوغان وزيراً للماليّة، إلا أنَّ الاختبار الأوَّل لتعيين وزير من أصول كُرديّة يَمُرُّ عبر تنصُّله لقضايا شعبه وتبنّيه للثَّقافة والقوميّة التُّركيّة، وهو ما نجح فيه “شيمشك” وغيره أيضاً.
إنَّ أردوغان وجميع النُّخب السِّياسيّة الحاكمة في تركيّا، تفضِّلُ ذاك الكُرديّ “الجيّد”، والكُرديّ الجيّد، وفق معاييرها هو الكُرديّ الميّت، والكُرديّ السيّء، وفق منظورها، هو من يطالب بحقوقه ضمن تركيّا ديمقراطيّة. فجميع هؤلاء الوزراء “الكُرد” هم من فئة “الكُرد الجيّدين”.
كما أنَّ تعيين “يشار غولر” رئيس أركان الجيش المُنتهية خدمته قانونيّاً، وزيراً للدِّفاع، يؤكِّدُ عدم ثقة أردوغان بشخصيّات أخرى لا تُدين بالولاء له، لأن الولاء، وفق معاييره ليس للوطن، بل له، فهو دائماً يختار من اختبرهم هو شخصيّاً والمُقرَّبين منه، خاصَّةً من المؤسَّسة العسكريّة التي حاول بشتّى السُبُل إضعافها ووضعها تحت سيطرته، وتغيير عقيدتها الكماليّة الأتاتوركيّة– مثل قضيّة أرغاناكون وفي محاولة الانقلاب– لتغدو إسلاميّةً وتتبع له مباشرة، رغم تاريخها الحافل طيلة عمر الجمهوريّة التُّركيّة، فالأتراك يرون بأنّها– أي المؤسَّسة العسكريّة – هي الحامية للعلمانيّة التي رسَّخَها أتاتورك في البلاد منذ تأسيس الجمهوريّة عام 1923. فقد كشف أردوغان مقدرته في تنفيذ رغباته خلال عمليّات الغزو الثّلاث التي شَنَّها على الأراضي السُّوريّة، والتي أسفرت عن احتلال مناطق واسعة منها.
كما أنَّ تعيين مستشاره في الرِّئاسة “إبراهيم كالن” في منصب رئيس الاستخبارات، أراد منه أردوغان أن يُكمل الحلقة الأمنيّة المحيطة به، والمؤلّفة من “كالن، فيدان، وغولر”، ليُحدِثَ عبر الأوَّل اختراقاتٍ مُهمّة في جدار الجليد المُتشكّل بينه وبين الولايات المتّحدة الأمريكيّة، حيث أنَّه يعتمد عليه بشكل كبير في تحسين علاقاته المتوتّرة مع الولايات المتّحدة، وهو على قناعة أنَّه بإمكانه حَلَّ ملفّاتٍ عالقةٍ بينهما، خاصَّةً ملفَّ شراء طائرات “إف – 16” وأزمة صواريخ “إس – 4” الرّوسيّة، وإقناعها بالدّور التُّركيّ في الحرب الرّوسيّة بأوكرانيا، إضافة إلى قضايا تجاريّة وأمنيّة مشتركة بين البلدين. إلى أنَّ القضيّة الأهمّ التي سيركّز عليها “كالن” هي محاولة قطع الولايات المتّحدة دعمها لقوّات سوريّا الدّيمقراطيّة والإدارة الذّاتيّة، والضغط باتّجاه إيجاد بدائل لها ضمن صفوف الفصائل التّابعة لها.
سيحاول أردوغان من خلال الثُّلاثيّ “كالن، فيدان، غولر” التَّصعيد ضُدَّ الكُرد، وخاصَّةً في روج آفا وشمال وشرق سوريّا، إن أسعفته أوضاعه الاقتصاديّة، وتمكَّنَ الفِكاكَ من أزمته المستفحلة، ونال ضوءاً أخضراً روسيّاً وصمتاً أمريكيّاً، لكنَّه في كُلِّ الأحوال سيضغط باتّجاه شَنِّ عدوان عسكريّ على منطقتي منبج وتل رفعت، ليحقِّق ما لم يتمكَّن من تحقيقه خلال الانتخابات، فهو قد فاز بصعوبة، ويعاني أزمات أمنيّة وسياسيّة عديدة، معتقداً أنَّ الخلاص منها يَتُمُّ عبر تصديرها للخارج من بوّابة غزوٍ جديدٍ.
كما سيُقحم أردوغان الثُّلاثيّ المذكور في مسار المصالحة مع دمشق، حيث أنَّ أساس وجوهر المصالحة هو أمنيٌّ بحتٌ، والثَّلاثة لهم خبرة كافية في إدارة الملفّات الأمنيّة، وقد بدأها بتسليم دفعة من الضُبّاط المنشقّين عن الجيش السُّوريّ، ولن يتوانَ في تفكيك جميع أطر المعارضة المرتبطة به، أو دمج ما تبقّى من فصائلها مع الجيش السُّوريّ، في مسعى لتشكيل جبهة موحَّدة ضُدَّ قوّات سوريّا الدّيمقراطيّة.
فيما لا تُعرف قُدُرات وزير الدّاخليّة الجديد “علي يرلي قايا” والذي كان والياً “محافظاً” لإسطنبول، وهل بإمكانه أن يلعب دور خلفه سليمان صويلو في إتمام مشاريع الاستيطان في المناطق التي تحتلُّها تركيّا في سوريّا، حيث كان صويلو عرّاب الاستيطان وكذلك إعادة اللّاجئين السُّوريّين قسراً إلى المناطق المُحتلّة وتوطينهم في المستوطنات التي شيَّدتها تركيّا بأموال قطريّة وفلسطينيّة وكويتيّة وبالتَّنسيق مع جماعة الإخوان المسلمين.
لكن يبدو أنَّ الدّول الغربيّة وقفت بعيداً تتأمَّل أردوغان وحكومته الجديدة، ولم تُقدِّم له أيَّ نوع من المساعدة التي كان يتأمَّلها غداةَ فوزه في الانتخابات، بل هناك مؤشِّرات أنّها – أي الدّول الغربيّة – تعارض الخطوط العريضة لسياسة أردوغان وحكومته، حيث يميل أردوغان إلى المحور الأوراسيّ والصّينيّ، أكثر منه إلى المحور الأطلسيّ الذي هو تاريخيّاً جزءاً منه، وترى الدّول الغربيّة أنَّ لا جديدَ في سياسة أردوغان، ولم يغيّر سلوكه وازدواجيّته في المناورة بين الطرفين الرّوسيّ والغربيّ، واتَّضحت هذه المسألة أكثر في معارضته لانضمام السّويد إلى حلف النّاتو. وخير دليل على مساهمة الدّول الغربيّة في زيادة تعقيد الأزمات في تركيّا، هو ما تَشهده اللَّيرة التُّركيّة من هبوط مروِّعٍ في قيمتها أمام الدّولار الأمريكيّ، ودخلت مرحلة يمكن تسميتها بالسّقوط الحُرّ لها، ووصلت إلى عتبة 24 ليرة تركيّة مقابل الدّولار الواحد، وهو ما يُنذر بتدهور في الأوضاع الاقتصاديّة والمعيشيّة في تركيّا، ويفيدُ بعدم ثقة الأتراك وقطّاع رجال الأعمال بالحكومة الجديدة من إحداث اختراق هام في الأوضاع في البلاد. فهم نال شرائح ريفية أكثر منها مدنيّة.
لن يستطيعَ أردوغان تجاوزَ الكَمَّ الهائل من الأزمات المتراكمة في البلاد، إلا من خلال عمليّة انفتاحٍ ديمقراطيّ حقيقيّة على جميع القضايا التي تُشغل المواطن التُّركيّ، وأوَّلها وقف الحرب ضُدَّ حركة حُرّيّة كُردستان، والعودة إلى مسار السَّلام والتَّحاور مع ممثّلي الشَّعب الكُرديّ، وخاصَّة الزَّعيم الكُرديّ الأسير عبد الله أوجلان وقيادة الحركة في الخارج، وكذلك حزب الشُّعوب الدّيمقراطيّة، وإطلاق الحُرّيّات بما فيها حُرّيّة التَّعبير والتَّظاهر، وإلغاء كُلّ القوانين التي من شأنها أن تُغلِقَ الطريق أمام مشاركة الشَّعب في صنع القرارات، والإفراج عن المعتقلين، والعودة إلى النِّظام البرلمانيّ، والضرب بيد من حديد على جميع الحركات الإرهابيّة المعشعشة في تركيّا، والإقلاع عن التدخّل في شؤون دول الجوار، وسحب قوّاته المُحتلَّة منها. فتشكيل حكومة تكنوقراط لن تُنهِيَ الأزمات المتلاحقة المتولّدة بفعل السِّياسة الشَّعبويّة لأردوغان وحزبه.