سوريا وخارطة صراع النفوذ الجديدة
محمد عيسى
بعد أن جاءت نتائج الانتخابات التركية الأخيرة كما تشتهي الرياح الروسية، وبعد أن نجح فيها مرشح بوتين إلى الانتخابات الرئاسية رجب طيب أردوغان، والذي جاء نجاحه تتويجاً لنجاح تكتل الأحزاب القومية والإسلامية التركية وبسببها، وحيث اعتمدت حملته الانتخابية وقبلها سياسته المتّبعة في إدارة البلاد خلال عقدين من الزمن على تعميق الاستقطاب العرقي والديني وحتى المذهبي، ما أدى إلى نجاحه بفارق صغير، والذي كان من دلالته أن صدعاً عميقاً قد يكون تولّد،أو قد تكون العملية الانتخابية قد كشفت عنه، فهو لم يقدّم نفسه كرئيس لجميع الأتراك، بل لنفر منهم فقط، وهو ما لم يحصل. كما لم يسع للحصول على أصوات الكرد أو العلويين وفئات العلمانيين التقليديين بل عَوَّلَ ونجح في تعويله على قاعدته الإسلامية والقومية المتطلعة إلى مكانة تركيا التاريخية.
وفي خطاب الشرفة الذي أعلن فيه عن فوزه؛أكد على نزعته الشوفينية، عندما قال لمرشح المعارضة الخاسر في الانتخابات كمال كليجدار أوغلو الذي انهزم بالانتخابات وشبهه بدميرتاش، في إعلان صريح عن مُضيّه في سياسة الغطرسة القومية، وفيما يُعدُّ إمعاناً في سياسة التطرف والعنف. وإذا أضفنا إلى ذلك التهديدات التي وجهها قادة الأحزاب القومية لزعماء المعارضة خلال الحملة الانتخابية،فهذا يؤشر ويعني أن السياسة التركية في الملفات الداخلية وفي الملفات المُثارة في المنطقة الإقليمية ستنحو باتجاه التصعيد والتوتر وإلى مزيد من الصدام مع قضايا الديمقراطية وحقوق الشعوب.
وإذا أضفنا إلى ذلك بُعداً آخر قد درجت الحكومات الاستبدادية وأنظمة الحكم الشمولية والقومية على الاستثمار فيه، وهو موقف الشعوب في المنطقة من السياسة الأمريكية ومن انحيازها الدائم لإسرائيل، نستطيع أن نفهم حجم وطبيعة التحديات وشكل المعارك القادمة ودور الأمريكان في تثقيلها أو حسمها.
بمعنى من المعاني سيجري الاستثمار إلى أبعد حَدٍّ بواقع خيبات الأمل وحالة الإحباط التي تشعر بها الشعوب، والناتجة عن عجز خطاب الدولة القومية العقائدية في تحقيق الوحدة الوطنية ووحدة النسيج الاجتماعي الذي عملت ما بوسعها على تخريبه، وعلى تحميل هزائمها على جبهته، وتحويلها إلى شمّاعة التهديدات الأمريكية والصهيونية، وبما يفوق ما تضطلع به هذه الأدوار بكثير، وإلى ما تكرس في الوعي الجمعي لشعوب المنطقة ونخبها الثقافية– بكل أسف،أحياناً – عن الحاجة إلى الزعيم البطل الذي سيعيد القطار إلى سكته ويحيي الأمجاد القومية بالاعتماد على قدراته الخطابية وعلو نبرة شعاراته وحروبه الدونكيشوتية، التي لم تحرر شبراً من الأرض ولم تقدم لشعوبها أي حجم من الكرامة الوطنية ولم تنجح بغير سلب السلطة من الشعب واللعب على مشاعره وتقييد حريته. وفي ذلك لم يكن أردوغان وحده في قيادة الأوركسترا؛ بل سبقه صدام حسين وآخرون.
والجماهير العربية وقضايا شعوب المنطقة لم تنعم يوماً،أو لم يشأ طالعها أن تعمل تحت سقف مشروع وطني يأخذ مصالحها وتطلعاتها بعين الاعتبار، بل هي، ومنذ أكثر من عقدين الزمن، يتنافس على تقرير مصيرها مشروع إسلامي فارسي، وآخر عثماني إخواني، يجعل من قضية تحرير القدس شمّاعة لاستباحة الأرض العربية وتقويض مشاريع التحرر والحداثة،وفي أكثر من بلد عربي وعلى أكثر من صعيد، وليكون حظ السوريين والساحة السورية بشكل خاص هو الأسوأ ضمن مشاريع الاستهداف الآنفة، وخاصة بعد تبلور الظاهرة البوتينية الأخيرة التي لاتختلف في جوهرها عن أن تكون نزعة قومية توتاليتارية استبدادية في كثير من وجوهها وظروف تطورها، مافيوزية وضالعة بالفساد بحكم النشأة وطريقة الولادة، إذ لم يكن بوتين غير واحد من فريق الرئيس الراحل بوريس يلتسينوطرف في الفريق المتورط بتفكيك الاتحاد السوفيتي السابق.
فالبوتينية بعد دخولها على خط الأزمة السورية، وبعد أن تقاطعت مصالحها مع التطلعات الإسلاموية الفارسية والتركية الأردوغانية؛ اكتسبت أزمات المنطقة والأزمة السورية تعقيداً إضافياً.
فبعيداً عن الأزمة السورية، وبمعزل عن الفشل السياسي الروسي في إيجاد مخارج لها، وعن حجم التخبط والتناقض في ضبط مصالح المتدخلين في الوضع السوري من المحسوبين على تكتلها، فإن بوتين الباحث عن نصر يعيد للاتحاد الروسي أمجاد الاتحاد السوفيتي السابق،أو يحقق اختراقاً في النظام السياسي والاقتصادي العالمي لناحية عالم متعدد الأقطاب، من خلال انتزاع بعض النفوذ من حصة الولايات المتحدة في قيادة العالم، فإنه وبعد الوقوع في المستنقع الأوكراني وعجزه عن تحقيق إنجاز يمكن صرفه بما ينسجم مع صورة البطلالتي وضعته الدعاية الإعلامية فيها، وبعد أن انتقلت الحرب في أحايين عديدة إلى الأراضي الروسية وإلى أجواء العاصمة موسكو نفسها، قد صار واضحاًأن بوتين في النهاية ليس لينين ولا حتى ستالين، لا يمتلك رؤية فلسفية أو قيمية، ولا يمتلك الأدوات والوسائل ليناهض بها النظام العالمي القائم، وهو حينمايحتاج إلى قوات “فاغنر” وإلى طائرات مُسيَّرة صنعت في إيران؛إنما يقدم الدليل على نفسه وكما هو حال كل رموز الاستبداد عبر التاريخ بأنه من خارج إرادة الشعب الروسي، ولا يختلف كثيراً عن أردوغانأو صدام أو حتى حميدتيفي السودان.
فهؤلاء المأزومون والماضويون الحالمون باستعادة أمجادهم التاريخية، أمجاد بلاد فارس وسطوة دولة الخلافة العثمانية، وبالاعتمادعلى أدوات القرون الوسطى نفسها، هم مصيبة شعوبهم أولاً، ومصيبة الشعب السوري على وجه الخصوص.ووفقاً لخرائط انتشارالصراعات، وبموجب عملية تتبع موضوعية لخطاباتهم ولما أفرزته الوقائع الانتخابية، وعلى ما تتناقله المواقع الإعلامية وتحليلات المختصَين، وعلى ضوء ما تشيعه الدعاية الإيرانية حيناً، والروسية التركية، حيناً آخر، وبالانطلاق مما يروَّج له، حيث في المقلب الآخر وعلى ضوء التحركات العسكرية على الأرض وعلى ما تنقله الصحف الأمريكية عن عمليات عسكرية يجري التحضير لها بقصد طرد القوات الأمريكية، وأن استعدادات مقابلة ونشر منظومات دفاع جوي أمريكية حديثة في محيط حقول النفط في شمال شرق سوريا وفي مواقع تواجد القوات الأمريكية، يستنج المراقب أن حتمياتثلاث لمواجهات حربية باتت شبه مؤكدة،باتت تلوح في الأفق،وخاصة على المسرح السوري وفي جواره:
الأولى، عملية عسكرية تركية حتمية، وقد لاتكون وشيكة، في الأراضي السورية، الغاية منها التخلص من قوات سوريا الديمقراطية، تحت مسمى “مواجهة الإرهاب” وقضم مزيد من الأراضي السورية بحجة توطين اللاجئين السوريين وضمن سياسة التغيير الديمغرافي المتبعة التي تحضر لها حكومة أردوغان، وقد جرى تأجيلها مراراً؛ نظراً لعدم حصولها على ضوء أخضر أمريكي ولظهور ممانعة روسية، أما الآن فلم يعد أردوغان بعد نجاحه في الانتخابات، وباعتبارها ولايته الأخيرة، يُعيرُ بالاً للموقف الأمريكي المعترض على قيام العملية، حيث دأب يكرر في أكثر من مقابلة “نحن لسنا بحاجة لضوء من أحد”، وكذلك لا يُظهر الكثير من الوزن للاعتراض الروسي، بعد انغماسه العميق بتعاريج الحرب الأوكرانية.لكن مكر التاريخ يقول إن أردوغان في حربه على قوات سوريا الديمقراطية سيواجه ماليس بالحسبان، وسيوحد السوريين في مواجهته، وسيكون بمواجهة مصير يشبه مغطس بوتين في أوكرانيا.
الثانية، حرب إيرانية تشنها القوات الإيرانية وأذرعها في المنطقة ضد القوات الأمريكية ذات العديد المنخفض، وذلك ضمن تدبير “من يريد أن يتغدى بهم قبل أن يتعشوا به”.
الثالثة، وهي بيت القصيد، ويدخل في حسم الخيار حولها العامل الإسرائيلي، الذي يستحيل أن يتعايش مع إيران نووية.