رسائل القمة العربية سوريا ودوليا
محمد عيسى
لقد أثارت القمة العربية الأخيرة التي عقدت في جدة بالسعودية في التاسع عشر من الشهرالحالي، أيار/ مايو، جدلاً واهتماماً واسعاً، كما لم تحظَ به أية قمة سابقة منذ تأسيس الجامعة العربية في أربعينات القرن الماضي وحتى اليوم، وقد تكون دخلت إلى جانب قمة اللاءات الثلاثة في الخرطوم عقب هزيمة، عام 1967، ضمن سجل القمم أو المحطات التي مثلت نقاط انعطاف في تاريخ الأحداث، أو علامة فارقة في مستوى تطوّرها.
وعلامة التفرد هذه لا تتأتّى من حجم الحضور والاهتمام الإعلامي والسياسي ونوعية الملفات التي تناولتها فقط؛ بل الظرف الذي عقدت فيه، والذي يشير على نحو ما إلى نضج في تطور الأوضاع المحلية والعربية التي تناولتها القمة، وإلى توفر عوامل موضوعية في الوضع الإقليمي والدولي،الذي يحتم ولادة دور عربي فاعل في ملفات عديدة، كالملف السوري، وغيره، بعد غياب وتراجع دام لأكثر من عقد من الزمن.
فبعد تاريخ من عزف منفرد تركي عثماني إسلام حيناً، وإيراني شيعي ماضوي، حيناًآخر، عزفٌ بلغ حَدَّ الاستهتار، وأحياناً كثيرة الإهانة للشعور الشعبي العربي ولشعور شعوب المنطقة بكاملها، ودون أية مراعاة لأحد، يُعربد الطيران التركي متى ما يشاء في أجواء شمال العراق وسوريا، ويدخل طرفاً وقحاً في تحديد خيار الشعب الليبي لمستقبل دولته، وكذلك في السودان والصومال وفي غير مكان، وعلى نفس الموجة؛ يخطف ملالي إيران حلم الأجيال العربية التوّاقة إلى الحرية والكرامة والعدل نحو مانسيته من أحقاد وأمراض، وعلى سكة لن توصل شعوب المنطقة وشعب إيران نفسه إلى غير الكوارث وانعدام الضوء في كل شيء.
في هذا المناخ الذي تُخيّم عليه مظاهر التعدّي على إرادة الشعوب ودولها وخياراتها في سوريا وفي عموم المنطقة العربية والإسلامية، وعلى خلفية اندلاع الحرب الأوكرانية الروسية، وتبلور حلف شبه معلن بين روسيا وكل من إيران وتركيا، وحيث تشير الوقائعإلى دخولهم طرفاً في انتخابات الأخيرة وتدخلهم للتأثير في خيارات الشعب التركي وفي مسار العمليةالانتخابية، لصالح نموذج السياسة القومية والإسلاموية لحليفهم أردوغان، تبرز أهمية الحراك العربي المتسارع نحو سوريا، وللانغماس في لُبِّ المشكلة السورية، بقصد إيجاد مخرج لحلها، وتبرز أهمية النشاط المكوكي والدبلوماسي الأخير وتعدد اللقاءات بين عواصم منطقة الخليج، فالأردن ودمشق، ضمن مسعى من يريد أن يلتقط لحظة الفعل التاريخية، فيملأ الفراغ ويقطع الطريق على تغوّل المشاريع الخارجية، ويعيد الحياة إلى جو التصحر والقنوط.
ومن نافل القول هنا أن المملكة بقيادتها الجديدة، هي من تنبري للعب هذا الدور الريادي، وهي من تتهيأ للنهوض بمسؤولياتها حيال محيطها العربي والإسلامي.
والمملكة بإمكانياتها الاقتصادية وموقعها ومكانتها في العالم الإسلامي، بالإضافة إلى اعتمادها على طاقة بشرية عربية هائلة، وعلى تخندق عدد كبير من دول العالم العربي وعلى رأسها مصر في جبهتها، تستطيع أن تقدم نفسها كلاعب هام وأساسي في تقرير مصير المنطقة، بل وأن يكون لها صوت مسموع في أكثر من ملف أو قضية على مستوى واقع العالم ومستقبله.
من هنا، ومن زاوية الدور الواعد للمملكة؛ يمكن إجراء المقاربة الجديدة باهتمامها بالمسألة السورية، كما يمكن أن نفهم الدور الذي يمكن أن تكون القمة العربية الأخيرة في المملكة قد اضطّلعت به.
فالدعوة بادئ ذي بدء، والتي وُجّهت إلى حكومة دمشق لحضور القمة، رغم أنها قد جاءت حصيلة لجهود وتفاهمات ولقاءات في الخلفية من أعمال التحضير للمؤتمر، ورغم أن العودة قد تُوجّت بالقرار 8194 الذي يضبط الالتزامات المتبادلة بين حكومة دمشق ومؤسسة القمة، ويحدّد التزاماً باعتماد القرار الاممي 2254 مرجعية في الحل السياسي المنتظر لمستقبل سوريا.ورغم الضجيج المترافق مع اعتماد الإدارة الأمريكية لقوانين جديدة، من شأنها التهديد بعقوبات بحق الدول الساعية إلى التطبيع المجاني مع حكومة دمشق، كقانون قيصر المعدل والممدد نفوذه حتى العام 2033؛ فإن العودة السورية إلى مؤسسات الجامعة العربية في باطن الأمور تحظى بالرضى الأمريكي، فلماذا يحصل ذلك؟
وللإجابة على ذاك السؤال؛ لابد من العودة إلى قرار تعليق العضوية والتدقيق في ظروف استصداره، لنكتشف أنه قرار قد جاء في حينه لمصلحة تيارات الإسلام السياسي في المعارضة، وفي خطوة كان القصد منها تسليم الإئتلاف المعارض لاحقاً مقعد سوريا، وذلك يوم كان هذا الائتلاف هو الطافي أكثر على سطح المعارضة، ويوم كانت تدعمه عواصم هامة، وحتى السعودية نفسها في مرحلة مبكّرة من حراك الربيع العربي، وقبل تولّي ولي العهد بمهامه، وبالتالي فعودة سوريا لا تعني في القراءة الأولية العميقة، غير التنصل من رؤية الإسلام السياسي للمسألة السورية وعدم الأخذ بها،بل ويعني استهتاراً،وربما هزيمة لمشاريع العواصم الراعية له في أنقرة والدوحة.
وعلى نحوٍ متصل؛ فإن القمة في العبر المستقاة وفي مضمون الرسائل التي عملت على إيصالها فيما يتصل بحل الأزمة السورية أو في غيرها، فيمكن ملاحظة أن ثمة جملة من المؤشرات والتفاصيل قد حدثت وتحمل آمالاً ومعانٍ، وعلى رأسها:
1 –حضور الأسد، ومقاطعة أمير قطر، ما يؤشر على اكتفاء دور الإسلام السياسي في عمل منظومة العمل العربي.
2–هجوم الرئيس السوري في كلمته على السياسة التركية، بمساواته بين الخطر الصهيوني والتركية العثمانية.
3–الكلام الجديد وغير المسبوق في عمل القمم العربية للرئيس التونسي قيس سعيد، حول أن الأولوية التي يجب أن تنصب عليها برامج الحكومات العربية هي للحاجات الاجتماعية للشعوب العربية، و العناية بثقافة المجتمعات العربية وبنائها الفوقي، كلوازم لا غنى عنها لتحصين هذه المجتمعات من جوائح الإرهاب والتخلف.
4–ثم مشاركة الرئيس الأوكراني زيلينسكي،وإلقائه كلمة باللباس العسكري، ما يخدم اثنين من المعاني: الأول، علامة ليس فيها، بأن القمة أصبحت منبراً عالمياً يحظى بالاعتبار والتقدير، والثاني، أنه هو في المكان وليس بوتين صديق الإسلاميين والقوميين، وهي علامة لا لبس فيها.
وعلى ضوء ما تقدم؛ يمكن الجزم أن طريقة التعامل مع مشاكل الإقليم لن تعود كما هي بعد القمة، وأن البداية ستكون مع الأزمة السورية، وأن المسألة لم تعد متروكة للعابثين التقليديين فيها، فالإسلام السياسي وداعموه بات خارج المعادلة، ومفرزاته الإرهابية إلى الاجتثاث الحتمي، وأن تصنيفاً جديداً لفرقاء الصراع في طريقه لأن يصبح رائجاً.
فالصراع على مستقبل سوريا محكوم بقرارات الشرعية الدولية ومرجعيته القرار 2254. وإذا كانت القمة واضحة في منطلقاتها لحل الأزمة السورية؛ فهي لا شك قد اعتمدت وسائل ومنهجية جديدة في ولوج المخارج للأزمة، وقد اعتمدت على دفع وتشجيع السوريين أنفسهم على أخذ المبادرة في تنفيذ قرارات الشرعية الدولية الناظمة لشروط الحل.فالحل في معالجة المسائل الاجتماعية والسياسية حين يصبح مستعصياً؛ يحتاج كما في حل المسائل الرياضية، إلى مقاربة جديدة، فأطراف الصراع اليوم ليسوا ذاتهم بالأمس، وتحديات اليوم ليست ذاتها بالأمس.وإذا كان صحيحاًأن المجتمع الدولي وتحالف الدول الغربية ممثلاً ببيان الدول الصناعية السبع بعد اجتماعها غداة القمة العربية في اليابان، قد أبقى النار موقدة تحت قِدرِ الأزمة السورية، وأكد على التزامه بحرفية القرار الأممي وجدد اشتراطاته أن يكون التطبيع على قاعدة الخطوة مقابل خطوة.لكن الجديد الذي يجب إعارته الاهتمام والذي تقدم على ما عداه؛ هو الاتجار وتصنيع الكبتاغون، فهل ستكون أطراف هذه الصناعة وأقطابها هم العمود الأساس في تعطيل الآمال بإيجاد الحل، وربما يكون من الحكمة، أو من دواعي الواقعية أو المتاح أن تكون بداية السكة هي الكبتاغون، وأنها مفتاح الموبقات الأخرى، وأن أطرافاً بجلباب الفضيلة والوطنية على السكة أو في محطاتها.
الآراء المنشورة في المنصة تعبر عن وجهة نظر كتابها..